الزعماء الذين حررونا من “القمل” سامحهم الله

الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة (مواقع التواصل)

عندما أخذت في التردد على تونس بعد الثورة في مهام صحفية، كنت أندهش عندما تصادفني هذه العبارة، مع هذا الاختلاف اللغوي الذي يبدو طفيفا بين “نحن للحاضرين” و”هم للغائبين”: “بورقيبة نحى لنا القمل”، و”بورقيبة نحى لهم القمل”.

ومع إقامتي مراسلا صحفيا امتدت نحو عامين، اتضح لي أولا صعوبة العثور على صورة فوتوغرافية أو مقطع سينمائي يوثق قيام زعيم الحركة الوطنية والرئيس الأول للبلاد -الحبيب بورقيبة بنفسه- بتنحية (إزالة) هذه الحشرة الضارة من شعر رأس تونسي أو تونسية.

كما تبين لي ثانيا أن ما يبدو من اختلاف طفيف في اللغة بين “لنا” و”لهم” ربما يعكس فارقا بين شعور أبناء الطبقات الشعبية بالامتنان والعرفان، وبين ما يحمل شبهات استعلاء بعض المثقفين “الفرانكفونيين” عليهم.

لكن استدعاء جميل وفضل وإنجاز أو أسطورة “تنحية القمل” من رؤوس التونسيين بحلول الذكرى الثانية والأربعين لوفاة “الحبيب” في 6 من إبريل/نيسان الجاري، واستثمار الرئيس قيس سعيّد لها وما ردده من عبارات تستدعى خطاب مفرداته “الوطنية” و”الدولة” أمام “روضة بورقيبة” (مقبرته) بمدينة “المنستير”، ربما يستأهل ما يستحق الانتباه والتصريح بشأن علاقتنا شعوبا ومحكومين بهؤلاء الزعماء الحكام الذين تُنسب إليهم كل الأفضال والإنجازات، وكل ما هو استثنائي.

عودة “عبد الناصر”

و”بورقيبة” من الماضي

عندما زرت، في خريف 2015، المقبرة لكتابة تحقيق عن “بورقيبية جديدة” مع صعود “السبسي” وحزبه “نداء تونس”، كان قد مر ما يجاوز أربع سنوات من الثورة. وفي غضونها أصبح ممكنا إصدار عشرات الكتب عنه، ومنها ما يحمل النقد الموضوعي أو الهجاء غير الموضوعي، ومنها ما يكتفى بالمديح والتقديس مع سرد ذكريات من كانوا على مقربة منه. وهكذا كحال كتاب”السبسي” نفسه “الحبيب بورقيبة المهم والأهم”، وكذا كتاب “بورقيبة خارج زمن الحكم: مذكرات والي المنستير” لـ”محمد الحبيب براهم” الذي عاصر سنوات الزعيم الأخيرة في الإقامة الجبرية والعزلة هناك ووفاته عام 2000، ولم يتجرأ بدوره على إصداره إلا بعد الثورة وبفضلها.

وربما لم تكن الأمور في مصر قبل ثورة يناير 2011 وفي أعقابها بالنسبة للزعيم/الرئيس “عبد الناصر” بمثل هذه الحدة بين تعتيم واستدعاء، وعلى الرغم من وصف مقبرته في القاهرة بـ”الضريح”. لكن تماما كتونس، وبخاصة بدءا من 2013، جرى توظيف ذكرى “الريس الزعيم” وإعادة إنتاج سيرته في مواجهة وصول الإسلاميين إلى مؤسسات الحكم، أو بالأدق مشاركتهم فيها عبر انتخابات هي الأكثر تعددية ونزاهة، ولو نسبيا، منذ انتهاء حقبة الاستعمار المباشر.

ولقد بدا في البلدين أن استدعاء رمزية “الزعيمين” حجر أساس مطلوب ليس في مواجهة الإسلاميين فحسب، بل وكذلك لترميم صورة “الدولة الوطنية”، دولة ما بعد “استقلالات” السنوات اللاحقة على الحرب العالمية الثانية، وبعدما أصابها من نقد ومراجعات في إخفاقاتها وعلاقتها المختلة بالمواطن بفضل انتفاضات وثورات العرب في القرن الحادي والعشرين.

وفي كلا البلدين أيضا، وكنموذج للمقارنة والاستدلال وليس حصرا، اتخذت رياح التحولات المعاكسة للانتقال إلى الديمقراطية واكتشاف المواطنة، أو لنقُل الثورة المضادة، اتجاها يخلط بين الحاكم الزعيم والدولة والوطن والوطنية فوق دعائم من المبالغات والأساطير/الخرافات والعواطف غير العقلانية، مع طي صفحة كتاب لم يكن قد اكتمل في النظر إلى التاريخ بموضوعية وبإعمال النقد والعلم والعقل.

“وطنية” تنزع مكاسب

الانتفاضات والثورات

في تلك السنوات، كان بإمكاني أن ألاحظ وأراقب في تونس، كما في بلدي مصر، كيف يجرى الترويج لـ”شيفونية” وطنية مُبالَغ فيها ومتعصبة ونرجسية، منغلقة على الذات ومتعالية على الآخر، وكيف انتقلت وتم ترحيلها من حول “زعيم الماضي” وبالتماهي معه إلى “الزعيم المستحدث في الحاضر”.

ومع الصعود الجديد لنموذج (الحاكم/الزعيم/الدولة/الوطن/الوطنية) كان يجري تجريد المواطنين هنا وهناك من قليل أو جنينيات مكتسبات الانتفاضات الشعبية والسنوات القليلة التالية بعدها مباشرة، تلك المنتزعة من الدولة الاستبدادية البوليسية بفضل آمال التغيير وأشواقه. وجاء صعود هذا النموذج مع ضخ شعارات “شيفونية” بسيطة لكنها ساذجة على غرار “تحيا تونس” و”تحيا مصر”.

وسرعان ما تطور هذا الارتداد والانتكاس إلى “شعبوية” تعود لمحاربة حقوق وحريات التنظيم والتعبير والتعددية وتداول السلطة وتتنكر لـ”المؤسسية” و”المواطنة”، وتُضعف الأحزاب والنقابات وتقوض استقلاليتها، وتستهزئ بروح الديمقراطية ومشتملاتها، وتشوهها وتعود لوصمها بالفساد وتعطيل دواليب الدولة و”عجلة العمل والإنتاج”، وهي في طريقها لتحصين فساد أكثر توحشا.

مع هذه “الشعبوية” يعاد إنتاج علاقة مباشرة وأبوية، بل وخيالية أسطورية، بين الحاكم/الزعيم و”شعب” يجري تصويره وتوهمه ككتلة صماء لا تحتمل ولا تقبل الاختلاف والتنوع، أو نقد السلطة ومعارضتها، وتماما كما يلخصها تعبير بورقيبة “غبار أشخاص حولتهم إلى أمة”.

بين المنجز

“الناصري” و”البورقيبي”

كان في التردد على تونس والإقامة بها فرصة لاكتشاف عدم مصداقية الدعاية لمنجز “عبد الناصر” و”دولة يوليو” قبل هزيمة 1967 في صورته المثالية البراقة، واعتمادها بدورها المبالغات غير العلمية غير العقلانية، مع حجب المقارنة مع السياق الإقليمي والعالمي وفي زمانها.

وعندما جبت البلاد التونسية، حتى أصغر البلدات ولو بعيدا عن الساحل، ورأيت واستمعت لما تحقق للتونسيين خلال سنوات “بورقيبة” المحسوب على الغرب والعالم الرأسمالي، من تطور في البنى التحتية وقوى الإنتاج وعلاقاته والخدمات الصحية والتعليمية والضمان الاجتماعي وغيرها، أدركت أن كل ما قيل ويقال عن منجز مصر “عبد الناصر” الموصوف بـ”الوطني والاشتراكي” لا يتجاوز ما كان في سنوات الستينيات وحولها في العديد من بلدان العالم الثالث أوعند تجارب “دول وطنية” أخرى.

كما لا يسلم هذا “المنجز الناصري” بدوره كحال “تونس البورقيبية” من تشوهات لحقت بالعديد من التجارب المماثلة، وبخاصة التي قايضت التنمية الاقتصادية الديمقراطية بالحرمان من الديمقراطية. بل اتضح لي أن ما تم إنجازه بتونس في بعض المجالات الحيوية المعيشية للناس يفوق ويتميز عن ذاك في مصر.

كما كان بالإمكان اكتشاف أن ذات ما يقال عن الدور التحرري لمصر في القارة الإفريقية يضاهيه قول “وطني” متفاخر مُبالَغ في فرادته عند تونس و”بورقيبة”. وهكذا علمت أيضا بأنها جناية مبالغات “الشيفونية” التي تستهدف الناس كي يلوكوها هنا أو هناك كمخدر لنسيان الخيبات والهزائم وإهدار الحقوق والحريات والكرامة.

وفي كل الأحوال، كان مأمولا بعد انتفاضات وثورات القرن الحادي والعشرين في تونس ومصر وغيرهما من بلداننا أن تترسخ نظرة موضوعية لماضينا، فلا تبالغ ولا تستهين بما كان قبل الاستقلال أو بعده، وبشأن دور الفرد في التاريخ والتغيير مقابل القوى الاجتماعية والسياسية. وهذا مع مناقشة السلبيات والإيجابيات معا في سياق موضوعي ومقارن يدرك موضعنا من التيارات والتحولات العالمية.

وعلى سبيل المثال، فلا “الإصلاح الزراعي” ولا “التوسع في التعليم المجاني” ولا “عمل المرأة وتعليمها” أمور انفرد بها “عبد الناصر” و”بورقيبة”، أو اخترعاها اختراعا ومن عدم.

بين “شارل نيكول”

و”الزعيم الوطني”

عود على بدء، وعن “القمل” وأفضال ومآثر زعماء “الدولة الوطنية” أو أساطيرها، يشتهر بمدينة تونس العاصمة مستشفى مهم يحمل اسم “شارل نيكول”، عالم الطب الحاصل على جائزة نوبل لعام 1928، والذي أسهمت أبحاثه بتونس في مكافحة مرض “التيفود” في بدايات القرن العشرين. لكن وبالمقارنة بترديد عبارة “بورقيبة نحى القمل” للأسف لا تكاد تسمع في تونس عن  الدور المقدر، وبالعلم والأفعال، لهذا العالم الفرنسي في مقاومة انتشار “القمل” للوقاية من “التيفوس”.

وبقدر ما نسمع لليوم عن “تنحية بورقيبة للقمل” من رؤوس مواطنيه لا يعرف إلا أقل القليل شيئا عن دور عالم آخر في الكيمياء من سويسرا  يدعى “باول مولر”، حاصل على نوبل أيضا، وقد جاء لاحقا ليخترع مبيد الحشرات “دي دي تي”، وليحقق طفرة أخرى في مكافحة “التيفوس” والعديد من الأمراض الأخرى الوبائية المهلكة للإنسان، وذلك بالقضاء على “القمل” وغيره من الحشرات الناقلة للأمراض.

هل هناك من شجع

على انتشار “القمل”؟

في أرشيفات الصور الفوتوغرافية وبالتاريخ الموثق لعلاقة الحشرات بالإنسان في الموسوعات والمعاجم العالمية ما يفيد بأن “القمل” كان منتشرا بأوروبا في سنواتنا ذاتها بعد الاستقلال عن الاستعمار المباشر.

وبالطبع فإن تونس كمصر وغيرها من بلاد الدنيا، كان بها خلال الخمسينيات والستينيات من أصابهم “القمل”، وكذا غيرهم ممن لم يصبهم أو يقربهم أبدا، وهذا منطقي بحكم تفاوت واختلاف البيئات الاجتماعية والصحية والغذاء، مع اختلاف مستوى الاعتناء بنظافة الجسد وتوافر المياه النظيفة.

ولا يُتصور أن أيّا من الحكومات وسلطات الدول، قبل “زعمائنا الوطنيين” أو معهم أو بعدهم، كانت تشجع على انتشار “القمل”، أو تتقاعس عن مكافحته، مع توافر علاجات على صعيد عالمي.

بل لو تابعنا لليوم أخبار تونس ومصر، وحتى الدول الأوروبية والولايات المتحدة، لعلمنا باستمرار الجهود لمكافحة انتشار “القمل”، وبدون ادعاء منجز أو معجزة لـ”زعيم وطني” حكم شعبه حكما استبداديا مديدا في القضاء عليه نهائيا. ولا أعرف هل من يرددون إلى الآن عبارات “بورقيبة نحى لنا أو لهم القمل” يعلمون بافتتاح مراكز بالعاصمة والعديد من مدن البلاد التونسية منذ عام 2021 لمكافحة انتشار “القمل” أم لا؟

لكنها آفة أو وباء الحاكم/الزعيم الأسطورة الخرافة، وسامح الله من يواصلون اصطناعها، ومعهم الزعماء الذين حررونا من “القمل”.

المصدر : الجزيرة مباشر