كأنه هو.. محاكاة التعليم بين تشويه الشكل وتفريغ المضمون

طلاب في المرحلة الثانوية أمام مبنى وزارة التربية والتعليم المصرية (الجزيرة - أرشيف)

حتى الأطلال لا تبلغ قمة بؤسها، إلا بتفريغها من أهلها وذكرياتها وجوهرها وتاريخها، وقتها تصبح أطلالًا جوفاء بعد أن فقدت الشكل والمضمون.

ذكّرني الحال الذي وصل إليه التعليم المعاصر في مصر بالطلل الأجوف، خصوصًا بعدما انتقلت أخبار التعليم وقضاياه في الصحافة من صفحات التعليم الخدمية إلى صفحات الحوادث والقضايا والتحقيقات والمشاكل الاجتماعية.

ماذا حدث للتعليم والبحث العلمي في مصر؟

ولماذا ارتفعت وتيرة التدهور السريع في كفاءة وجودة التعليم بداية من التعليم الأساسي ومرورًا بالتعليم الثانوي والجامعي وانتهاءً بمرحلة الدراسات العليا؟

كيف غاب عن المسؤولين أن الفساد والعبث الإداري والسياسي من قبل غير المختصين سيؤدي إلى عقم وتدهور العملية التعليمية، وحتمًا سينعكس على كفاءة الثروة البشرية التي ينتجها هذا التعليم وتلك النظم؟

الجريمة والكتاب

هل من الطبيعي أن تجتمع الجريمة مع الكتاب، وأن تصبح قاعات التنوير مسرحًا للجنايات، وإذا حدث ومر الأمر كحادثة فردية شاذة، فما الحل إذا تكررت الحوادث وتم التأقلم عليها كأمر اعتيادي؟

فيما يلي عينة نصف شهرية بسيطة تشير بقوة إلى حالة الفوضى والاهتراء التي يعاني منها التعليم والبحث العلمي في بلد لطالما تغنى بثرائه البشري:

في أسبوعين فقط طفت على السطح فجأة القضية المعروفة باسم “طالبة العريش” وهى تخص طالبة طب بيطري مجتهدة انتحرت بالسم بعد أن تعرضت للابتزاز والتنمر والإذلال من قبل زملائها بعد تصويرها خلسة في حمام المدينة الجامعية، وقد أقدمت الفتاة صاحبة الـ19عامًا على الانتحار بعد تخلي وكيل الكلية عن مساعدتها –حسب تصريحات أخت الطالبة- حيث لجأت إليه فحذرها من نفوذ وسلطة أسر زملائها المبتزين، المدهش أيضًا أنه بعد انتحار الطالبة وتسجيل الوفاة كوفاة طبيعية في أول الأمر، سارعت الجامعة من خلال وكيل الكلية إلى التنبيه على الطلاب بعدم التعرض للقضية تصريحًا أو كتابة على مواقع التواصل.

وقبل تلك الحادثة بأيام، خطف مدرس خصوصي بالدقهلية تلميذه طالب الثانوي وقام بتقطيعه ثم طالب أهل الضحية بفدية وظل لأيام يبحث معهم عن ابنهم المفقود حتى انكشفت جريمته.

وقد جاءت تلك الجرائم وغيرها بالتزامن مع الإعلان عن تسجيل كليات طب محافظات الصعيد أعلى نسب رسوب للعام الثاني على التوالي، ويأتي ذلك في الوقت الذي تنظر فيه النيابة العامة في اتهام بالتزوير يخص 142 طالب دراسات عليا بكلية الطب جامعة الأزهر.

تعليم بدون مدارس

ربما من أكثر الأمراض التي أصابت العملية التعليمية في مصر هو اختفاء دور المدراس في حياة الطلاب تعليميًا، واقتصارها على الشؤون الإدارية والامتحانات، وهو ما قضى على عملية التربية في حين جعل من عملية التعليم عملية شكلية مشوهة، خاصة بعد أن انتقل الطلاب تدريجيًا من داخل قاعات المدارس والفصول، إلى غرف مراكز الدروس الخصوصية.

وهذا الانتقال مع غياب المراقبة والإدارة والجوانب التربوية أثر سلبًا بشكل كبير على عمليتى التربية والتعليم، وفتح الباب للفوضى وانتشار الجرائم.

ولا دليل على فشل منظومة التعليم قبل الجامعي وانعدام جودتها أكبر من تسجيل كليات طب الصعيد أعلى نسب رسوب لطلاب الفرقة الأولى، فقد بلغت نسبة الرسوب في جامعة جنوب الوادي أكثر من 70% للطب البشري 80% لطب الأسنان، فيما بلغت نسبة الرسوب بكليتى الطب بجامعتى سوهاج وأسيوط أكثر من 60% وهي النسبة التي تزيد عن نسبة الرسوب في العام الماضي أيضًا حيث سجلت 50%.

عمداء الكليات فسروا تلك الظاهرة الغريبة بأن الطلاب غير مؤهلين علميًا بشكل كافٍ، وأن معظمهم ليسوا لائقين تعليميًا، ومن خريجي مدارس بعينها (في إشارة إلى حالات الغش الجماعي التي شهدتها بعض المدارس).

المدهش أكثر أن وزير التعليم السابق طارق شوقي صرّح أمام مجلس الشيوخ، بأن نسبة الغش في امتحانات التعليم قبل الجامعي بلغت 85% وبرر الأمر بأن الطلبة فقدت الرغبة في التعلم.

إضرام النيران

ومنظومة التعليم الجامعي والدراسات العليا لا تختلف كثيرًا في عقمها وقلة حصادها وهشاشة مضمونها عن منظمومة التعليم ما قبل الجامعي، فكما يقول سقراط عن التعليم: “هو إضرام النيران وليس ملء الوعاء”.

المؤلم أن التعليم والبحث العلمي في مصر أضحى لا علاقة له بإضرام النيران وأحيانًا لا يتم فيه ملء الوعاء، فالأمر بات شيئًا زائفًا يشبه التعليم، ويماثل البحث العلمي، ولعل أبرز من أشار إلى تلك الكارثة مبكرًا هو الراحل عبد الوهاب المسيري في المقدمة التي كتبها لكتاب جمال حمدان (اليهود أنثروبولوجيا) في عام 1996م ، فقد قال بسخرية: إن الكتاب ليس دراسة أكاديمية بالمعنى السلبي للكلمة، أى الدراسة التي يكتبها أحد المتخصصين الأكاديمين دونما سبب واضح ولا تتسم بأى شيء سوى أنها صالحة للنشر لأن صاحبها اتبع مجموعة من الأعراف والآليات البحثية.. والهدف عادة من مثل هذه الكتابات (التي يقال لها أبحاث مع أنها لا تنبع من أية معاناة حقيقية ولا تشكل بحثًا عن أى شيء) هو زيادة عدد الدراسات التي تضمها السيرة العلمية للأكاديمي صاحب الدراسة، فتتم ترقيته.

ويواصل المسيري ساخرًا: قد تقوم الدنيا ثم تقعد، وقد يقتل الأبرياء وينتصر الظلم وينتشر الظلام، وصاحب البحث لا يزال يكتب ويوثق ويعنعن وينشر، وتدور المطابع وتسيل الأحبار ويخرج المزيد من الكتب. ثم يذهب صاحبنا إلى المؤتمرات التي تقرأ فيها أبحاث أكاديمية لا تبحث عن شيء، ليزداد لمعانًا وتألقًا، إلى أن يعين رئيس المجلس الأعلى لشؤون اللاشيء الأكاديمي).

أسباب التدهور

إن عد أسباب تدهور التعليم في مصر بشكل متتالي قد يكون أمرًا مخلًا وغير موضوعي حتى وإن ذكر الاستبداد على رأس تلك الأسباب، فكثير من الأسباب الأخرى هى فروع لذلك السبب الرئيسي (الاستبداد) ومن تلك الفروع الفساد الذي يضرب العملية التعليمية من كبار الساسة وحتى صغار موظفيها، بل وحتى معلميها الذين هجروا المدارس واصطحبوا خلفهم طلابها.

ويكفي للدلالة على خطورة الفساد معرفة كيف تغيرت العملية التعليمية نفسها لتتناسب مع صفقات تجرى بمئات الملايين من الدولارات سنويًا.

ومن أسباب التدهور أيضًا إضافة إلى العبث الإداري والسياسي، استبعاد الكفاءات والخبراء والمختصين، وتدخل وعبث غيرالمؤهلين من الساسة وأصحاب القرار السياسي، وغياب الرؤية المستقبلية، مع تواضع الخطط، وتراجع وضع التعليم كأولوية ضرورية للنهضة والتنمية، وقد انعكس ذلك كله على تخصيص ميزانية ضعيفة للتعليم من قبل النظام، وربما يعود ذلك إلى النظرة للتعليم باعتباره خيارًا استثماريًا وليس ضرورة كالماء والهواء كما سبق وأكد منذ أكثر من ثمانية عقود وزيرالتعليم الذي كان فتى أزهريًا فقيرًا كفيفًا ثم أضحى عميدًا للأدب العربي.

المصدر : الجزيرة مباشر