“حمى الذهب” هل تدفع إلى حرب عالمية ثالثة؟!

مواطنة صينية تستخدم عدسة مكبرة لمراقبة تفاصيل قطعة ذهبية في غرفة العرض بمتجر مجوهرات جنوبي الصين (الفرنسية)

أصابت حمى ارتفاع أسعار الذهب كثيرا من الناس بحالة فزع من اتجاه العالم نحو كارثة عالمية كبرى بالفترة المقبلة. تعززت المخاوف جراء القصف المتبادل بين إيران ودولة الاحتلال الإسرائيلي، وتصعيد الكيان الصهيوني حربه الوحشية على غزة، بما ينذر بحرب إقليمية، مع استمرار الحرب بأوكرانيا، واندفاع بعض الساسة والاقتصاديين المتأثرين بحالة عدم اليقين التي تجتاح الأسواق، بقولهم: “إننا على أبواب حرب عالمية ثالثة”.

يُسقط المحللون السوابق التي وقعت بالعصر الحديث على الحاضر، ليبرهنوا على مدى صحة آرائهم، فعندما شهدت أسعار الذهب ارتفاعا هائلا أعقبها ثورات شعبية بكل من روسيا وأوروبا وآسيا والأمريكيتين، وجاء أفظعها بنشوب الحربين العالمية الأولى والثانية. ينظر هؤلاء إلى الزيادة القياسية بأنها بشائر حرب فلا فوز بسعر ذهب شارف على 2400 دولار للأونصة، مع وجود احتمالات صعوده لمستوى 3000 دولار بنهاية 2024، جراء المضاربة على الشراء والتوتر المستمر بالشرق الأوسط.

الغرب يبيع و”بريكس” تشتري

مراجعة دقيقة لسوق الذهب خلال 12 شهرا، نجد أن المستثمرين في أوروبا والولايات المتحدة، هم الأعلى مبيعا للمعدن الأصفر، بينما الصين تقود البلدان النامية كالهند والإمارات ومصر وتركيا ودول جنوب آسيا، بعمليات الشراء. تشتري الحكومات الذهب لدعم الاحتياطي النقدي ببنوكها المركزية، التي ما زالت أقل من مثيلاتها بالولايات المتحدة والغرب بمراحل.
تطورت عمليات الشراء من المواطنين بسرعة هائلة، بما يدعم زيادة الأسعار، ويقلب موازين الأسواق، على مدار الساعة. لكل شعب من شعوب الدول النامية أسبابه في التهافت على الشراء، مع ذلك تظل أغلب الطلبات قادمة من دول أصبحت تنتمي لمجموعة بريكس BRICS، تقودها الصين وروسيا والهند وجنوب إفريقيا والبرازيل، انضمت إليها مؤخرا كل من مصر وإثيوبيا وإيران والمملكة السعودية والإمارات. هذه الكتلة أصبحت تمثل 36٪ من الناتج المحلي الإجمالي للعالم، عند تعديل معادلة القوة الشرائية PPP، مقابل 30٪ ناتج الدول الصناعية السبع الكبار التي تقودها أمريكا وتشمل ألمانيا واليابان وفرنسا وإيطاليا وانجلترا وكندا.

يبلغ اجمالي الثروة القابلة للاستثمار في مجموعة بريكس نحو 45 تريليون دولار أمريكي وفقا لتقرير مؤسسة استشارات الهجرة الاستثمارية الدولة” هينلي آند بارتنرز” الأمريكية، فبراير الماضي. تشير المؤسسة إلى وجود 1.6 مليون فرد بتجمع بريكس، يمتلكون حاليا أصولا قابلة للاستثمار تزيد قيمتها عن مليون دولار، منهم 539 مليارديرا و4716 مليونيرا، تفوق أصولهم الاستثمارية 100 مليون دولار، متوقعة أن يزيد عدد المليونيرات بنسبة 85٪ على مدى السنوات العشر المقبلة.

 

صراع بلا حرب

 

تظهر بيانات حديثة لمنظمة التجارة الدولية التابعة للأمم المتحدة، أن “الأسواق العالمية في طريقها إلى التعافي من الآثار السلبية التي خلفتها فترة انتشار وباء كوفيد-19، بينما تستمر التكتلات التجارية في الانقسام إلى كتل يتمتع أعضاؤها بوجهات نظر جيو-سياسية متماثلة. تشير المنظمة إلى مزيد من التغير في أنماط التجارة ترتفع تكلفتها بسبب زيادة المنافسة وتكاليف الشحن وتأخير بعض السلع والتهافت الشديد على المواد الخام، والتركيز نحو تأمين الإمدادات، في ظل استمرار الصراعات العسكرية بكل من أوكرانيا وإسرائيل -الأراضي المحتلة- بما لا يعطل ممرات الشحن، ويرفع أسعار السلع الأساسية وتدفقات التجارة العالمية”.

سيواصل الغرب دعم إسرائيل، بينما يزيد الخناق على روسيا، ويلعب دور العميل المزدوج مع الصين، التي لا يمكن أن يستغني عن دورها حيث توفر 30٪ من الناتج الصناعي العالمي.  تسير الصين على” نهج اشتراكي ذو خصائص صينية، لتصنع مستقبلا مستداما مع التعامل مع عالم متعدد الأقطاب”، موظفة حرية السوق لأجل” المشاركة وليست المواجهة، بما يحقق التوازن بين مصالحها الأمنية والاقتصادية”، والتي يعتبرها حكماؤها مهمة” محفوفة بالمخاطر بالنظر إلى عزم الولايات المتحدة على البقاء في قمة النظام العالمي”.

الصين بين القمع والمواجهة

يتوقع مفكرون صينيون أن تواصل الولايات المتحدة استراتيجيتها في” احتواء وقمع الصين، على مدى السنوات الخمس أو العشر القادمة”، مع ذلك ينصحون حكومتهم بألا تعمق النظرة الشعبية عن الولايات المتحدة بأنها “نمر من ورق” ولا ترفع شعارات” النضال من أجل النضال” وعليها” السعي إلى البقاء والتعاون وتخفيف التصرفات الأمريكية المتطرفة المناهضة للصين، وتأمين ظروف مواتية في المنافسة الاستراتيجية طويلة الأجل”.

يراهن الحكماء على” أن الدول أصبحت مترابطة بشكل متزايد، تمثل الاعتبارات الاقتصادية دورا أكبر في قرارات السياسة الخارجية وأن الصين التي أصبحت أكبر شريك تجاري لــ 120 دولة، على رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في حاجة للتعايش، والمشاركة وليس المواجهة مع الآخرين”.

يقدر مجلس الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك الأضرار التي خلفتها قيود تصدير أشباه الموصلات للشركات الأمريكية منذ أكتوبر 2022، بنحو 130 مليار دولار، نتيجة عدم قدرتها على البيع للصين. تشكل الصين نحو 31.4٪ من جميع مشتريات أشباه الموصلات الأمريكية، بينما تستحوذ الشركات الأمريكية على 53.4٪ من السوق الصينية لأشباه الموصلات.

الذهب بوابة النجاة

تعكس أسعار الذهب، حالة عدم اليقين في مستقبل تسوده حرب التكنولوجيا وتقسيم الأسواق، بينما تظل العقيدة الحاكمة للأسواق واحدة، فلسنا أمام أنظمة اقتصادية متعددة أو متقاتلة، أحدهما شيوعي وآخر رأسمالي، لأن القطبين الكبيرين والأقطار التي تدور في فلكيهما، يعتقدون بأن “حرية السوق” ما زالت أداة النجاة، التي يوظفونها بما يخدم مصالحهم ويربطهم بحرية الوصول إلى المستهلكين، دون الحاجة إلى حروب عسكرية شاملة، تبدد قوتهم وثرواتهم الهائلة. تدفع الولايات المتحدة إلى بقاء النظام العالمي الذي خطته بعد الحرب العالمية الثانية، بينما تعمل الصين بتأن على تعديل بعض قواعده، دون الإطاحة بطاولة الشطرنج، وتبحث عن خروج اقتصادها من التباطؤ، بدفع معدلات الاستهلاك لتنضم إلى الدول ذات الدخل المرتفع، بمجتمع يؤمن بأهمية الادخار لليوم الممطر، يتسبب سلوكه في إضعاف معدلات النمو.

تشجع الحكومة الناس على شراء السيارات والسلع، من بينها الذهب الذي وصل استهلاكه بالصين لمستوي قياسي عام 2023، بقيمة 39 مليار دولار، وفقا لمجلس الذهب العالمي، مع توقعه أن يظل الطلب قويا العام الجاري.

يشير محللون صينيون إلى تزايد شراء الشباب للذهب، للحفاظ على القيمة أدى إلى زيادة المبيعات للأوزان الأخف من 10 غرامات، وظهور مراكز تسويق في المدن التجارية الكبرى والدنيا والمقاطعات الأقل ثراء ورغم ارتفاع سعر الذهب وتعرض بعضهم لغش الذهب، فإن 11.7٪ من عائلات طبقة الوسطي تضم 500 مليون نسمة، جازفوا بشرائه، باعتباره” أقل خطرا من الاستثمار بالعقارات وسوق الأسهم”.

المصدر : الجزيرة مباشر