الوهم المثالي وحل الدولتين المستحيل!

الديمقراطيون قالوا أن التشكيك في ذاكرة بايدن هو تحرك سياسي لإضعاف فرصه في الأنتخابات القادمة
الرئيس الأمريكي بايدن (ر ويترز)

من جديد، ومع كل زعزعة لوجود الاحتلال الإسرائيلي يجري تسويق وهم حل الدولتين، ذلك الحل المستحيل، وتسعى أمريكا والغرب لاستئناف رحلة جديدة من التيه للقضية الفلسطينية في الصحاري السياسية.

ومن العجيب، أن نخبا عربية ما زالت تهيم في فضاء الأحلام السياسية التي ماتت مرارا وتكرارا، وترى إمكانية لإيجاد صيغة حل لهذا الصراع الوجودي، تدور بين دولتين أو دولة واحدة!

فهناك من يرى صيغة حل الدولتين، وهي التي أقرها المجتمع الدولي -ظلما وعدوانا وسلبا لحقوق أصحاب الأرض- منذ قرار تقسيم فلسطين عام 1947، في حين يرى بعض آخر صيغة ثانية، وهي “الدولة الديمقراطية الواحدة”، وهؤلاء يسبحون في بحور من الوهم والخيال، ومنفصلون عن الواقع، وكأنهم لا يرون تلك المقتلة الصهيونية للفلسطينيين في غزة اليوم وفي فلسطين عموما منذ أكثر من 75 عاما، وغابت عنهم أبعاد تاريخية وحضارية، فضلا عن البعد الاستعماري في وجود إسرائيل في حد ذاتها.

لكن هناك سؤالا مهما لهؤلاء الذين شطحت بهم الأحلام يوما نحو صيغة دولة ديمقراطية واحدة، وهو: هل يمكن العيش في دولة ديمقراطية واحدة يحكمها إباديون بالفطرة، وعنصريون بالسليقة، وكارهون بالطبيعة لمن خالفهم، ومدمنون على القتل وسلب حقوق الغير؟!

{كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}، هكذا هو وجود دولتين فلسطينية وإسرائيلية، أو دولة ديمقراطية واحدة!

ورغم أن الكنيست الإسرائيلي صوت مؤخرا في 21 فبراير/شباط 2024 بأغلبية كبيرة لصالح قرار الحكومة رفض الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية، فإنه لا يزال هناك من يصر على تسويق هذا الوهم المثالي والخرافة السياسية، المتمثلة في حل الدولتين؛ دولة فلسطينية، ودولة للاحتلال الإسرائيلي!

صراع وجود فلسطيني إسرائيلي

لم يكن الرفض الإسرائيلي الأخير لأي تسوية سياسية مع الشعب الفلسطيني سوى تأكيد على حالة الإجماع الراسخ تاريخيا بين اليهود ومختلف التيارات والمعسكرات في المشهد السياسي الإسرائيلي، الرافضة لأي تسوية سياسية.

لقد أكد نتنياهو من قبل مرارا وتكرارا وجهة النظر الصهيونية الراسخة عندما قال “إن هذا الصراع ليس حول غياب دولة فلسطينية، بل هو صراع حول وجود الدولة اليهودية”.

إن فكرة حل الدولتين يراها قادة الاحتلال الإسرائيلي مخاطرة بأمن إسرائيل؛ لأن الاقتناع الراسخ على مدار تاريخهم، هو: أنه لا يمكن افتراض وجود دولة فلسطينية تريد العيش بسلام بجوار إسرائيل.

إن الوجود الإسرائيلي يعني الغياب الفلسطيني، ولا مكان للعرب في فلسطين، وتلك ترجمة شعار أرض بلا شعب التي روجتها الصهيونية، والإجماع الصهيوني يقوم على الإيمان بأن فلسطين هي إسرائيل، وحق اليهود في أرض فلسطين حق مطلق، وهذا ما لا يخالف فيه أحد من كافة التيارات السياسية الإسرائيلية من يمين ويسار ووسط، والقول بغير ذلك هو خداع للذات وترويج للوهم.

ترويج للتسوية المستحيلة

كانت تقارير صحفية قد أشارت إلى أن الولايات المتحدة وعددا من الدول العربية يناقشون تطوير خطة شاملة للسلام بين إسرائيل والفلسطينيين مع جدول زمني محدد لإقامة دولة فلسطينية.

يأتي ذلك في الوقت الذي تسعى فيه إدارة بايدن إلى تحقيق نصر دبلوماسي عبر مسار التطبيع العربي، وإحداث اختراق إقليمي.

تروج الإدارة الأمريكية لتصور مستقبلي للمنطقة بعد انتهاء الحرب على غزة، تتفق معها فيه دول عربية، بحسب ما أفادت تقارير صحفية، يعتمد معادلة قوامها دولة للفلسطينيين، وتحقيق الأمن لإسرائيل، ومنع قطاع غزة من أن يكون مصدر تهديد ومنصة لهجمات جديدة على إسرائيل، إضافة إلى الفوز بنصر دبلوماسي عبر التطبيع مع السعودية، التي جعلت من إقامة دولة فلسطينية مستقلة شرطا مسبقا قبل هذه الخطوة.

ومع ما يتم إعلانه من تصورات لتسوية مستقبلية، يبقى السؤال المهم، وهو: هل الولايات المتحدة الأمريكية جادة في تحقيق تسوية؟ أعتقد أن الإجابة لا تحتاج إلى كثير من الاجتهاد.

أمريكا وإدارة الصراع

في الوقت الذي يروّج فيه الأمريكان لتصورات التسوية، تواصل الإدارة الأمريكية دعمها على كافة الأصعدة لاستمرار إسرائيل في حربها الإبادية على غزة، ومؤخرا استخدمت واشنطن الفيتو ضد مشروع قرار جزائري في مجلس الأمن يطالب بوقف فوري لإطلاق النار في غزة لأسباب إنسانية، لتطيح بموافقة 13 دولة على القرار، وامتنعت حليفتها بريطانيا عن التصويت، علما بأن هذه هي المرة الثالثة التي تستخدم فيها أمريكا الفيتو ضد وقف إطلاق النار في غزة، فهل من الممكن لمن يتبنى هذه المواقف أن يسعى لحل الصراع حقيقة؟

إنه من قبيل خداع النفس اعتقاد أن أمريكا تريد حل الدولتين، فالدور الأمريكي يعتمد على إدارة الصراع وليس تمكين الحل، والمسألة لا تعدو سوى كسب للوقت عبر مسارات التيه السياسي، في حين تفرض إسرائيل واقعا جديدا على الأرض، تصبح معه أي فكرة لما يسمى حل الدولتين من المستحيلات.

إن الحقيقة التي يتجاهلها العرب، هي: أن أمريكا وحلفاءها الأوربيين غير معنيين البتة بإيجاد حل للقضية الفلسطينية، ولا يقدمون طرحا حقيقيا، وكل ما هنالك هو المراوغة عبر الحديث عن حل الدولتين، ويمارسون خداعا في إطار إعفائهم من إيجاد حل حقيقي للقضية الفلسطينية.

خطأ فادح أن يعول أحد على من غرق في دماء العرب والفلسطينيين في إيجاد حل للقضية الفلسطينية، فكيف يكون مفتاحا للحل من يشارك الاحتلال الإسرائيلي سفك دماء الفلسطينيين؟

كيف يمكن الحديث عن حل الدولتين؟!

إن ما يتم طرحه مجددا حول خطة حل الدولتين هو مجرد مسرحية عبثية لا خاتمة لها، يعاد إنتاجها من وقت لآخر كلما اقتضت الحاجة، عبر مخرجين وممثلين جدد، وسيناريو لا يتغير.

لا يمكن الحديث عن حل الدولتين ولا حتى عن فكرة دولة ديمقراطية واحدة تتسع للجميع، فكل ذلك محض خيال مع الاحتلال الإسرائيلي الذي يزداد توحشا.

كيف يمكن الحديث عن حل الدولتين وغزة يباد أهلها، والعرب عاجزون عن كف الاحتلال الإسرائيلي عن غيه، وهو يرفض الانسحاب من الأراضي التي احتلها ويرفض القبول بجزء من فلسطين، وعينه على فلسطين والمنطقة العربية كلها.

عن أي حل يتحدثون، والكيان المحتل لا يقبل حق العودة، وهو الحق الذي لن يتنازل عنه الفلسطينيون مهما طال الزمن.

إن القضية الفلسطينية لم تعرف حلا في الماضي ولا في الحاضر، ولن تعرف طريقا للحل في المستقبل، فالمعركة القائمة هي معركة وجود لا معركة حدود، ولكن النتيجة المحتومة هي أن الاحتلال إلى زوال مهما طال الزمن، فأصحاب الأرض سلاحهم دماؤهم، ولن يهزم السلاح الدماء.

ختاما

يحضرني في هذا المقام محدد وجودي هام صاغته كلمات الراحل الدكتور جمال حمدان، بخصوص مصر وفلسطين، في الجزء الأول من مقدمة موسوعته “شخصية مصر” إذ يقول: “مصر بالذات محكوم عليها بالعروبة والزعامة، ولكن أيضا بتحرير فلسطين، وإلا فبالإعدام، فمصر لا تستطيع أن تنسحب من عروبتها أو تنفيها عن نفسها حتى لو أرادت. كيف؟ وهي إذا نكصت عن استرداد فلسطين العربية كاملة من البحر إلى النهر، وهادت وهادنت وخانت وحكمت عليها بالضياع، فقد حكمت أيضا على نفسها بالإعدام، وبالانتحار، وسوف تخسر نفسها ورصيدها. الماضي كالمستقبل، التاريخ والجغرافيا”.

المصدر : الجزيرة مباشر