مشكلة نقص الدولار في مصر عميقة ومستمرة

عدم توفر الدولار كان له تأثيره البالغ في الحالة المعيشية للمواطن المصري (الفرنسية)

 

عندما كنت أقوم بإعداد كتابي: سكان العشوائيات قبل 32 عامًا، قال لي الدكتور ميلاد حنا رئيس لجنة الإسكان في البرلمان حينذاك، إن العشوائيات أفادت مصر باستيعابها لملايين البشر، فتخيل لو لم تكن العشوائيات موجودة، لكان هؤلاء قد افترشوا الشوارع وناموا فيها.

ويمكن تخيل الأمر نفسه مع السوق الموازية لصرف العملات الأجنبية والمسماة بالسوق السوداء، فإذا كان رئيس اتحاد المستثمرين في مصر قد صرح مؤخرًا بأن نصف المصانع تعمل حاليًا بنصف طاقتها، بسبب نقص الدولار وعدم تمكنها من استيراد المواد الخام ومستلزمات الإنتاج، فلو لم تكن السوق الموازية للصرف موجودة وساعدت الكثير من المصانع في الحصول على مستلزمات الإنتاج، لزادت نسبة المصانع المغلقة.

فعندما يتعطل خط إنتاج بأحد المصانع لاحتياجه إلى قطعة غيار من الخارج، فقد ساعدته السوق الموازية في استيرادها واستئناف الإنتاج، وقل الشيء نفسه عندما يفشل الكثير من الراغبين في السفر للعلاج أو الدراسة أو للتجارة، عندما ترفض البنوك إمدادهم باحتياجاتهم من العملات الأجنبية، والأمر نفسه عندما يعجز المستوردون عن إيجاد العملات الأجنبية لشراء الكثير من أنواع الغذاء، ولهذا يردد رجال الصناعة والمستوردون أن المشكلة الأهم لديهم هو توافر الدولار، وليس سعر صرفه.

فمشكلة نقص العملات الأجنبية ناجمة عن نقص الموارد الدولارية عما يحتاجه المجتمع من دولارات لتعاملاته مع الخارج، وهي المشكلة التي تسببت بها الحكومة عندما زادت نفقاتها عن مواردها، بسبب إنفاقها على أمور عديدة لا تدر عوائدًا دولارية، كإنشاء عاصمة جديدة وإنشاء مقار جديدة للوزارات الحكومية وغير ذلك من مبان وقصور، والنتيجة دين خارجي ضخم، وكان المفترض لو كانت هناك إدارة رشيدة أن يتم تحديد مواعيد سداد أقساط الديون، لتتواءم مع الحصيلة المتوقعة من الدولارات لسداد قيمة تلك الأقساط.

أقساط ديون تفوق قدرة السداد

لكن تلك الإدارة للدين الخارجي لم تكن رشيدة هي الأخرى، والنتيجة أن تصل أقساط الدين الخارجي وفوائده في العام الحالي إلى أكثر من 42 مليار دولار، وفي العام المقبل أكثر من 20 مليارًا، وفي عام 2026 نحو 26 مليار دولار، ولأن الحكومة يهمها السداد حتى تستطيع الاستمرار في الاقتراض، وحتى لا يؤدي تعثرها في سداد أي قسط إلى مطالبة الدائنين بالأقساط كلها مرة واحدة، فقد أعطت أقساطًا وفوائد الدين الخارجي الأولوية، وجاء ذلك على حساب احتياجات المجتمع للعملات الأجنبية لشراء الغذاء والوقود والمواد الخام ومستلزمات الإنتاج وباقي احتياجات المجتمع، والنتيجة ظهور الأزمة الحادة لنقص العملات الأجنبية، ونمو نشاط السوق الموازية للصرف لتمويل تلك الأنشطة التي امتنعت البنوك عن تدبير العملات الأجنبية لها، وظهور طلب آخر على الدولار بغرض التحوط والاحتفاظ والمضاربة.

ومن هنا فقد طالب محافظ البنك المركزي المصري بتشديد العقوبة على التعامل بالعملات الأجنبية خارج الجهات الرسمية عام 2016، وسارعت الحكومة بإصدار قانون بتشديد العقوبة، أي أنه كان مطلوبًا من أفراد المجتمع والمصريين في الخارج أن يبيعوا الدولار للبنك بأقل من 9 جنيهات للدولار، بينما بلغ سعره بالسوق الموازية أكثر من 18 جنيهًا للدولار، وإلا تم تجريمهم، ولم يتم القضاء على السوق الموازية إلا عندما زاد سعر الصرف في البنوك عن السعر في السوق الموازية في ديسمبر/كانون الأول 2016.

وها هي الأمور تعود لمأزق الفرق الكبير نفسه في سعر الصرف بين السوقين الرسمي والموازي منذ أكثر من عام، وتصر السلطات على انتهاج أسلوب تشديد العقوبات نفسه على التعامل خارج القنوات الرسمية، بل وصل الأمر إلى تجريم حيازة العملات الأجنبية والتوسع في نشر أخبار القبض على أشخاص لمجرد حيازتهم للعملات الأجنبية.

رغم أن القانون لا يجرم الحيازة، ويسمح لحائز العملات الأجنبية بالإيداع والسحب لها بالبنوك، والأمر الذي يمثل جريمة هو البيع والشراء لها خارج القنوات الرسمية من بنوك وشركات صرافة، وجهات أخرى سياحية حصلت على تراخيص رسمية في التعامل بالعملات الأجنبية، لكنه يتم استغلال أجواء الخوف التي يعيشها المجتمع لممارسة ما يحلو لهم.

فجوة ضخمة مستمرة للموارد الدولارية

ويظل السؤال حول كم احتياجات المجتمع المصري من العملات الأجنبية سنويًا؟ ونستعين هنا ببيانات جهاز الإحصاء الحكومي للعام المالي 2021/ 2022 كآخر بيانات منشورة التي تشير إلى بلوغ مدفوعات النقد الأجنبي خلال ذلك العام 185 مليار دولار، بينما بلغت موارد النقد الأجنبي من المصادر كافة أقل من 161 مليار دولار، لتصل فجوة الموارد الدولارية حوالي 25 مليار دولار.

لكنه عندما يتم استبعاد القروض من الموارد والمتمثلة في 19 مليار دولار، ومشتريات الأجانب من أذون الخزانة المصرية البالغة 9 مليارات دولار التي تعد قروضًا أيضًا، ليصل العجز الحقيقي بين الموارد والمدفوعات من النقد الأجنبي 53.5 مليار دولار في ذلك العام.

وهو رقم رسمي لا يشمل المدفوعات غير الرسمية، مثل نفقات استيراد المخدرات والأسلحة وتهريب السلع، كذلك يجب الأخذ بالاعتبار تعمد المستوردين تقليل قيمة “فواتير” الواردات سعيًا لدفع جمارك أقل، وهو الأمر الذي قدره محافظ البنك المركزي السابق بنحو 10 مليارات من الدولارات، مما يعني كبر قيمة العجز الدولاري الحقيقي، ولهذا نقول إن مشكلة نقص الدولار في مصر عميقة، ويتوقع استمرارها لشهور عديدة مقبلة.

والشاهد على ذلك الاحتياجات الدولارية في العام الحالي، والمتمثلة في 42 مليار دولار لسداد أقساط الدين الخارجي وفوائده، في حالة عدم سداد أي أقساط للدين الخارجي القصير الأجل الذي بلغت قيمته 30 مليار دولار حتى سبتمبر/أيلول الماضي، والمفترض أن أجل سداده خلال عام، لكنه يتم تجديده دوريًا، والاكتفاء بدفع فوائده فقط.

والحاجة إلى واردات سلعية بلغت رغم الترشيد في العام الماضي حوالي 81 مليار دولار حسب بيانات جهاز الإحصاء التقديرية، و12 مليار دولار لدفع فوائد الاستثمار الأجنبي وأرباحه في مصر، وهي الأرباح التي تتسبب بعدم استطاعة الشركات الأجنبية العاملة في مصر تحويلها لبلادها، في إحجام الاستثمار الأجنبي المباشر عن القدوم إلى مصر، بل وخروج بعضها من البلاد كما فعل الكثير من المستثمرين المصريين الذين انتقلوا إلى السعودية وغيرها.

كذلك هناك حاجة لنفقات المدفوعات الخدمية لأغراض السياحة وخدمات النقل والتعليم والعلاج في الخارج، والخدمات المالية والتأمينية والهندسية والترفيهية وغيرها التي تدور حول 13 مليار دولار سنويًا.

قروض جديدة تتجه لسداد القديمة

وإذا كانت تلك هي صورة المدفوعات المطلوب سدادها، فيتطلب الأمر تناول واقع الموارد الدولارية المعتادة، حيث شهدت الفترة الأخيرة انخفاضًا لقيمة الصادرات السلعية وتحويلات العاملين في الخارج والاستثمار الأجنبي المباشر، وانضمت إليها مؤخرًا السياحة وعائدات قناة السويس.

مما سبق كله يتضح أن الاستعانة بالإجراءات الأمنية والشحن الإعلامي لدفع صغار المتعاملين لبيع ما لديهم من دولارات بأسعار أقل، كما حدث قبل أيام قليلة، لا يعني حل المشكلة بدليل أن ما تم تداوله من أسعار للدولار بالسوق الموازية خلال الأيام الماضية، كان يتناول فقط سعر البيع، وعندما يتم طلب شراء الدولار بالسعر نفسه أو بأعلى منه بعض الشيء لم تكن هناك استجابة.

وفي ظل إعلام الصوت الواحد لا يتم ذكر الحقائق عن حقيقة الموارد الدولارية المتوقعة التي تتحدث عنها وسائل الإعلام، فعندما يتم تداول أنباء عن توجه صندوق النقد الدولي لرفع قيمة قرضه لمصر إلى 7 مليارات دولار، فالمعروف أن قروض الصندوق تتم على أقساط طوال مدة القرض، لإرسال بعثات بين القسط والآخر للتأكد من تنفيذ “روشتة” للحصول على القسط التالي، إلى جانب أن الأقساط المستحقة على مصر للصندوق من قروضه القديمة تبلغ 4.9 مليارات دولار في العام الحالي وحده.

وعندما يتم الحديث عن قروض من شركاء دوليين وإقليمين بـ5 مليارات من الدولارات، لا يتم الحديث عن قيمة أقساط القروض السابقة لتلك الجهات في العام الحالي، وعندما يتم الحديث عن موارد دولارية من بيع حصص في شركات حكومية، فإنه لا يتم الحديث عن الجهة المتلقية لتلك الحصيلة، حيث يحتفظ الصندوق السيادي بحصيلة مبيعات الشركات التابعة له، ولا تحصل وزارة المالية المسؤولة عن سداد أقساط الدين الحكومي الخارجي منها على شيء.

المصدر : الجزيرة مباشر