السوابق التاريخية تساند دعوة ساويرس إلى سعر الصرف الموازي

رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس (رويترز)

تترقب الأسواق المصرية يوميًّا إعلان البنك المركزي المصري التخفيض المرتقب، منذ شهور، لسعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي، بعد أن تجاوز السعر بالسوق الموازية سبعين جنيها للدولار، مقابل تثبيت السعر الرسمي عند أقل من 31 جنيها للدولار منذ مارس/آذار الماضي، وخشية استمرار صعود السعر بالسوق السوداء، التي شهدت قفزة غير مسبوقة في يناير الماضي من أقل من خمسين جنيها للدولار لتتخطى سبعين جنيها.

وساهمت في ذلك أجواء عدم الشفافية المستمرة في الشهور الماضية، وغياب تعريف الجمهور بما تنويه الحكومة من إجراءات اتجاه تصاعد السعر بالسوق الموازية، سواء من جانب رئيس الحكومة أو محافظ البنك المركزي.

وعندما تناول حاكم البلاد القضية في احتفالات عيد الشرطة الشهر الماضي، لم يجد المجتمع الاقتصادي إجابات عن ما لديه من تساؤلات، ولا تفاصيل لما تنويه الدولة للخروج من المأزق الحاد الحالي، سوى الحديث عن زيادة الصادرات، وهو أمر لا يكفي وحده، ولا يمكن تنفيذه في ظل القيود على الواردات، كما أنه حل طويل الأجل، والمجتمع يريد حلولا حاسمة في الأجل القصير.

وهكذا انعكس استمرار تراجع قيمة الجنيه بالسوق الموازية، سلبًا على أسعار كافة المنتجات سواء الغذائية والأعلاف أو مواد البناء أو السيارات والأجهزة الكهربائية، التي يتم التسعير بها في كافة الشركات والمحلات التجارية بل وبأعلى منها للتحوط، مما أدى إلى تراجع الطاقات الصناعية بسبب نقص المواد الخام واحتجاز البضائع بالموانئ، وشكوى الشركات الأجنبية العاملة بمصر من صعوبات تحويل أرباحها إلى الخارج، ومنها الشركات العاملة بمجال البترول والغاز الطبيعي.

  العقود الآجلة اقتربت من الموازية

لم يعد السؤال عن خفض البنك المركزي قيمة الجنيه الذي ينفي بعض الإعلاميين حدوثه، وإنما السؤال الآن عن مقدار الخفض الذي سيتم، حيث أشارت بعض المؤسسات الاقتصادية والبحثية الدولية إلى نحو ما بين 45 و50 جنيها للدولار، لكن وصول السعر إلى 65 جنيها بسوق العقود الآجلة لمدة 12 شهرا، جعل البعض يتوقع خفضا أكبر، وكرر رجل الأعمال نجيب ساويرس دعوته الحكومة إلى خفض قيمة الجنيه رسميًّا بنفس قيمة السعر الذي وصل إليه بالسوق السوداء.

وتشير الوقائع التاريخية المصرية في الأعوام الثلاثين الماضية إلى صحة ما دعا إليه ساويرس، سواء فى التجارب الناجحة أعوام 1991 و2004 و2016، حيث قام المركزي بالتعامل بالسعر المرتفع عام 2004 ثم قام بالتدريج بسحب السعر إلى أسفل في السنوات الأربع التالية، وهو ما كرره أواخر عام 2016 في التعامل بالسعر المرتفع ثم سحبه إلى أسفل في السنوات الثلاث التالية، وكذلك تؤكده التجارب الفاشلة في سنوات 2001 و2003 و2022 و2023.

ففي عام 1991 تم إقرار سعر صرف يتماشى مع السعر بالسوق الموازية، وتم فتح فروع لشركات الصرافة بالمحافظات، والسماح لها ببيع العملات بأسعار مختلفة عن البنوك لجذب الزبائن، وعدم سؤال الجمهور عن مصدر العملة، واستجابة البنوك لأي طلبات لشراء الدولار، وساهم ارتفاع سعر الفائدة حينذاك على الجنيه إلى 17 بالمئة مقابل 3.5 بالمئة على الودائع الدولارية، في تحويل كثيرين ما لديهم من دولارات إلى الجنيه للاستفادة من فرق سعر الفائدة، وكانت النتيجة استقرار سعر الصرف وغياب السوق السوداء منذ 1991 حتى عام 1997.

  فشل هوامش التحرك المحدودة للسعر

ومع ظهور أزمة جنوب شرق آسيا 1997 وتوسع المستوردين في الاستيراد للاستفادة من رخص السلع الآسيوية، وضرب السياحة بالأقصر في نوفمبر/تشرين الثاني 1997 وخروج الاستثمارات الأجنبية من البورصة المصرية، بدأت بوادر أزمة نقص في العملة، وكالعادة أنكرت الحكومة وجود أزمة لفترة طويلة مما أعاد السوق السوداء، وحين تدخلت الحكومة بالإعلان عن نظام السعر المركزي للدولار في يناير/كانون الثاني 2001 مع ترك هامش تحرك حوله بنسبة 1% صعودا وهبوطا استمرت السوق السوداء.

وزادت السلطات هامش التحرك إلى 1.5% في يوليو/تموز ثم إلى 3% في أغسطس/آب وكذلك رفع السعر المركزي في ديسمبر/كانون الأول 2001، ثم توقف البنك المركزي عن تحريك السعر المركزي طوال عام 2002، مع وضع قيود على استخدام كروت الائتمان بالخارج، وإضافة رسم تدبير عملة على السعر الرسمي الذي تتعامل به لفتح الاعتمادات المستندية، وكانت النتيجة استمرار السوق السوداء.

وبدأت الحكومة جولة جديدة لمواجهة السوق السوداء في يناير/كانون الثاني 2003 بترك الحرية للبنوك لتحديد سعر الصرف، مع ربط شركات الصرافة بتلك الأسعار المصرفية لتنهي مرحلة حرية شركات الصرافة في تحديد السعر التي بدأت عام 1991، لكن تعليمات شفهية صدرت للبنوك بعدم تخطي رقم معين لسعر الصرف.

الأمر الذي تسرب إلى السوق وأدى إلى اتجاه البعض لشراء الدولار، خاصة مع إلزام شركات السياحة والتصدير بتوريد نسبة 75% من حصيلتها بالسعر الرسمي، وامتناع البنوك عن تلبية طلبات الراغبين في شراء الدولار ولو مبالغ صغيرة، ففقد النظام مصداقيته وأصبح التعامل بالدولار في جانب الشراء فقط خلال عام 2003.

غزارة الموارد عام 2016 ساهمت في الاستقرار

ومع تعيين محافظ جديد للبنك المركزي أواخر عام 2003 بدأ نهجا جديدا منذ بداية 2004 بالاستجابة لطلبات المستوردين لشراء الدولار، كما أتاح قدرا من الريالات السعودية للحج والعمرة، وساهمت حالة الركود في تراجع طلبات المستوردين لفتح الاعتمادات وتهدئة الطلب على الدولار، وهكذا ظل السعر بالبنوك يتقارب مع السعر بالسوق السوداء حتى تساويا في أغسطس/آب.

ومع احتياج السوق لبضعة أشهر إلى اكتساب الثقة أصبحت دفة توجيه سعر الصرف بيد البنك المركزي منذ نهاية عام 2004، ليقوم خلال عام 2005 بالخفض التدريجي لسعر صرف الدولار، وساهم العامل النفسي في ظهور توقعات بأن السعر سينخفض أكثر، مما دفع البعض إلى التخلص من الدولار قبل أن تنخفض قيمته.

وساهم في ذلك أن شركات الصرافة التي تبيع حصيلتها الدولارية للبنوك، رؤوس أموالها قليلة وبالتالي لم تكن لديها سيولة كافية لشراء الدولار من الجمهور، فعندما يطلب زبائن بيع دولار لها كانت تعتذر لقلة السيولة لديها، وخاصة أيام العطل المصرفية؛ مما أدى إلى انتشار إشاعات عن رفض الشركات قبول الدولار، ومع صمت المركزي إزاء ذلك زادت معدلات بيع الدولار، لتستمر مرحلة استقرار سعر الصرف وغياب السوق السوداء حتى عام 2008.

وفي عام 2014 عادت السوق السوداء وواجهتها الحكومة بإغلاق عدد من شركات الصرافة واستمرت خلال 2015 وحتى قبيل نوفمبر/تشرين الثاني 2016، حيث قام البنك المركزي خلال الشهر بالتعامل بسعر السوق السوداء، حتى يسحب البساط من السوق الموازية في قيادتها لسوق الصرف، وساعده على ذلك قرض صندوق النقد وقروض مؤسسات دولية ودول أخرى وإصدار سندات بالخارج وقدوم أموال ساخنة بغزارة، مما ساعده على تدبير طلبات المستوردين والنجاح في القضاء على العجز الدولاري بالجهاز المصرفي خلال ستة أشهر.

ومع عودة السوق السوداء في مارس/آذار 2020 لم ينجح البنك المركزي في مواجهتها، حين قام بخفض قيمة الجنيه في مارس/آذار 2022، لكون نسبة الخفض أقل من سعر السوق الموازية، إضافة إلى بطء استجابته لطلبات المستوردين، ورغم استمراره في الخفض التدريجي في الشهور التالية، وقيامه بخفض آخر في أكتوبر/تشرين الثاني من نفس العام، ثم يناير/كانون الثاني 2023؛ فإن عدوله عن تحريك سعر الصرف منذ مارس/آذار الماضي، واستمراره في بطء الاستجابة لطلبات المستورين والمستثمرين الراغبين في تحويل أرباحهم، زاد توحّش السوق السوداء حتى تخطّت سبعين جنيها للدولار قبل أيام.

المصدر : الجزيرة مباشر