حتى لا تتكرر أزمة السكر في مصر

وزير التموين المصري علي مصيلحي (مواقع مصرية)

تكررت أزمات السكر في مصر مرات عدة خلال السنوات القليلة الماضية. وطوال العام الماضي 2023، استمر غياب السكر من الأسواق، وزادت الأسعار من 16 جنيها للكيلوغرام في سنة 2022، إلى 55 جنيها، بنسبة زيادة 244%. وما زالت الأسعار مرتفعة حتى الآن، رغم بدء إنتاج السكر المحلي في الموسم الجديد الذي يبدأ مع بداية شهر يناير من كل عام.

وفي أثناء أزمة السكر التي استمرت شهورا طويلة بين عامي 2016 و2017، تناولت وسائل الإعلام العالمية بالدهشة والسخرية، حدة الأزمة وأسلوب الحكومة الشاذ والمستهجن في معالجتها. ونشرت واشنطن بوست تقريرا عن الأزمة في حينها، وقالت إنها تخنق البلاد، وإن النظام المصري يستخدمها سلاحا سياسيا لاعتقال معارضيه.

واستهجنت الصحيفة الأمريكية دهم قوات الأمن مصانع السكر، بما في ذلك شركات تنتج الحلوى والبيبسي كولا، وأجبرتها على الإغلاق المؤقت، الأمر الذي بعث برسالة سلبية إلى المستثمرين الأجانب المحتملين. ومن بين الحوادث المثيرة للسخرية والشفقة، قالت الصحيفة إن السلطات اعتقلت “جرسونا” يسير في الشارع وهو يحمل 10 كيلوغرامات من السكر، ووجهت النيابة إليه تهمة تخزين السلعة بهدف بيعها للمتاجر بسعر أعلى لجني الأرباح لنفسه.

ونشرت صحيفة لاكروا الفرنسية صورة تُظهر اصطفاف مواطنين مصريين أمام محل سلع تموينية، وكتبت تعليقا عليها “لا يتعلق الأمر هنا بانتخابات، بل يتعلق، تحديدا، بأناس يأملون الحصول على كيس صغير من السكر.. الأمر مذل!” وقالت إن أزمة السكر فضحت هشاشة الاقتصاد المصري، وإن “المصريين على حافة الانفجار، وقد أشعل مواطن النار في جسده، أمام ناد للقوات المسلحة بالإسكندرية، بسبب ظروفه المعيشية القاسية”.

نعود إلى أزمة السكر المحتدمة في هذه الأثناء، حيث تخطت شح السلعة وارتفاع سعرها، وانتقلت إلى صناعة السكر ذاتها، التي دخلت نفقا مظلما بإعلان الرئيس التنفيذي والعضو المنتدب لشركة السكر والصناعات التكاملية المصرية، اللواء عصام البديوي، توقف مصنع أبو قرقاص عن إنتاج السكر من القصب لأول مرة منذ 155 عاما.

وذلك بعد أن كان المصنع يستقبل 750 ألف طن من القصب في كل موسم حتى سنة 2020، ما يعادل إنتاج 18 ألف فدان، استقبل العام الماضي 90 ألف طن، ما يعادل إنتاج 2500 فدان فقط، وأدى إلى خسائر بنحو 112 مليون جنيه. ثم انخفضت الكمية هذا العام، 2024، إلى 10 آلاف طن فقط، ما يعادل محصول 250 فدان، ما دعا إلى وقف المصنع عن العمل لأن الكمية لا تكفي سوى لمدة 5 أيام فقط.

وقد استعرضنا في مقال سابق الأسباب الحقيقية للأزمة، وهي تصدير السكر المحلي بقرارات من وزيري التموين والصناعة، رغم استيراد 800 ألف طن سنويا طوال العقد الماضي، ورغم إصدار وزير الصناعة قرارا يمنع التصدير لوجود فجوة بين الإنتاج المحلي الذي لا يزيد على 2.4 مليون طن، والاستهلاك الذي يزيد على 3.2 مليون طن.

وكذلك الثمن البخس الذي تفرضه الحكومة في مقابل شراء قصب السكر وبنجر السكر من الفلاحين، مما أدى إلى عزوفهم عن زراعة المحصولين الأساسيين في صناعة السكر. وتراجعت مساحة القصب من 350 ألف فدان العام الماضي، إلى 325 ألف فدان هذا العام، يستفاد منها 250 ألفا في صناعة السكر. وتراجعت مساحة بنجر السكر من 594 ألف فدان إلى 560 ألف فدان، وفق تصريح رئيس مجلس المحاصيل السكرية.

وفي هذا المقال نتناول باختصار الحلول العلمية والتطبيقية لأزمة السكر، على مستوى الزراعة والصناعة، التي وضعها باحثون في معهد بحوث المحاصيل السكرية وخبراء في صناعة السكر، في ندوة علمية من الندوات الجادة التي استحدثها أعضاء مجلس إدارة نقابة المهن الزراعية من الإخوان بعد ثورة يناير عام 2011، وعدد من الباحثين الذين حاولوا رسم مستقبل الزراعة المصرية بعد الثورة المباركة.

وشرفت بالمشاركة في الندوة التي أقيمت في نادي الزراعيين بالدقي بدعوة من النقيب، المرحوم الدكتور عبد السلام جمعة، وهو الذي استمر في رئاسة النقابة بعد الثورة بدعم الإخوان الذين رفعوا شعار المشاركة لا المغالبة، والملقب بأبي القمح، رغم أنه كان يقول قبل الثورة وبعدها إن مصر لا تستطيع تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، ولذلك أعُده زوج “أم القمح” وليس أباه.

أولا: زراعة القصب بالشتلات

للنهوض بصناعة السكر الاستراتيجية، يجب على الدولة، إن كانت جادة وفي ذلك شك، أن تبدأ أولا بتنمية محصولي قصب السكر وبنجر السكر لكونهما من المحاصيل الزراعية التصنيعية أو التحويلية، والمادة الخام لصناعة السكر، خاصة قصب السكر الذي يدخل في صناعة السكر أساسا، وكذلك العسل الأسود، وهو غذاء شعبي يعرفه غالبية سكان الريف المصري، وعصير القصب المنتشر في ربوع مصر. ويدخل في صناعات حيوية أخرى، منها الخشب الحبيبي والورق وخميرة البيرة والخل والكحول والعطور والأعلاف والمخصبات الزراعية والمستحضرات الطبية، ويعمل في هذه المنظومة نحو 5 ملايين عامل في الصعيد والوجه البحري.

زراعة القصب بالشتلات الناتجة بتقنية زراعة الأنسجة بدلا من نظام الزراعة التقليدية بالعقلة هي مفتاح النهوض بالصناعة. هذه التكنولوجيا نجحت في زيادة إنتاجية الفدان من 40 طنا بطريقة العقلة إلى 60 طنا، بزيادة نسبتها 50%، وهي طريقة متوفرة في معهد بحوث المحاصيل السكرية منذ نحو 20 عاما، ولكنها غير معممة لأسباب غير بريئة. زيادة الإنتاجية يعنى زيادة إنتاج القصب دون الحاجة إلى زيادة المساحة، وهي فرصة لتشغيل مصانع السكر بكامل طاقتها المعطلة، وزيادة إنتاج السكر من القصب من 900 ألف طن إلى 1.4 مليون طن.

كما أن زراعة القصب بالشتلات توفر 4.5 أطنان في كل فدان، حيث يحتاج الفدان فى الزراعة التقليدية بالعقلة إلى 6 أطنان، أما فى الزراعة بالشتلات فيكفيه 1.5 طن من القصب. وتوفر الطريقة نحو 2000 متر مكعب من مياه الري للفدان في السنة الأولى، ونحو 25% من الأسمدة، والنسبة نفسها من تكاليف مقاومة الحشائش والمبيدات. وتزيد أيضا دخل الفلاحين في الصعيد إلى الضعف، وهي غنيمة باردة لعلاج الفقر الريفي المعشش في قرى الصعيد منذ عقود.

أيضا هناك فرصة لزيادة إنتاجية بنجر السكر بنشر تقاوي البنجر أحادي الجنين. هذه التقاوي تزيد إنتاجية الفدان من البنجر من 20 طنا للأصناف العديدة الأجنة، إلى 30 طنا للفدان، بنسبة زيادة قدرها 50%. ولا يخفى على المتخصصين أن توفير التقاوي العالية الإنتاج كانت العمود الأول للثورة الخضراء في الولايات المتحدة في منتصف القرن الماضي، ونقلتها إلى المكسيك والهند ودول أخرى حليفة ليس من بينها مصر.

زيادة إنتاجية القصب والبنجر على هذا النحو، يمكن أن يحقق الاكتفاء الذاتي من السكر دون الحاجة إلى زيادة مساحة القصب الذي تتهمه الحكومة الحالية زورا بأنه شره لاستهلاك المياه. أيضا تطبيق الدورة الزراعية في زراعة البنجر والقصب فرصة ثالثة لزيادة الإنتاجية بمعدل 15%، وتوفر 20% من مياه الري، وهي مهمة لتجميع المحصول وتركيزه في مساحات كبيرة، لأن صناعة القصب -كما يصورها جمال حمدان- مثل صناعة الفحم بين المعادن، ثقيل وكبير الحجم، لذا يجب أن تذهب إليه الصناعة، وليس العكس.

ثانيا: السعر المزرعي التحفيزي

هذا الموسم، طالب الفلاحون بزيادة سعر قصب السكر إلى 2200 جنيه للطن، لأن عصارات المولاس أو العصير تشتري الطن بسعر 2500 جنيه للطن، ولأن الحكومة قدّرت سعر القصب العام الماضي بـ1100 جنيه للطن، وكان سعر السكر في السوق 18 جنيها للكيلو، وزاد هذا العام حتى وصل إلى 55 جنيها للكيلو.

لكن الحكومة رفعت سعر القصب إلى 1500 جنيه للطن فقط. الهند، وهي ثاني أكبر منتج ومُصدّر للسكر، زادت سعر القصب للمُزارع الهندي هذا العام بمعدل 200 روبية للطن، ليصل إلى 3700 روبية، ما يعادل 45 دولارا للطن، وهو ما يعادل 3000 جنيه مصري بسعر السوق السوداء (الموازية).

فرض الحكومة سعرا غير مُجزٍ يؤدي إلى تحوّل الفلاح من زراعة القصب إلى البرسيم ومحاصيل أخرى هامشية، والنتيجة أن مساحة القصب تراجعت من 350 ألف فدان العام الماضي إلى 325 ألف فدان هذا العام. وللسبب نفسه، تراجعت مساحة بنجر السكر من 594 ألف فدان إلى 560 ألف فدان، بشهادة رئيس مجلس المحاصيل السكرية.

ذلك أن السعر التحفيزي الذي تدفعه الحكومة للمزارعين مقابل المحاصيل الأساسية، مثل القصب والبنجر المخصص لصناعة السكر، كان وما زال أحد أهم السياسات الزراعية الناجحة التي انتهجتها -وما زالت- الحكومات المستقلة لتشجيع المزارعين المحليين على زيادة إنتاج وإنتاجية المحاصيل الاستراتيجية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي.

ثالثا: تحديث مصانع السكر

تحديث وتطوير مصانع السكر في مصر بما يتناسب مع التطور التكنولوجي، بحيث يتم استيعاب كميات كبيرة من قصب وبنجر السكر دون هدر في الطاقة وفي المحصول، وقبل أن تتدهور الجودة وتتحول نسبة من السكر إلى نواتج أخرى غير مرغوبة، ضرورة ملحة حتى يزيد العائد من الكميات الموردة من المحصولين، وتزيد كميات السكر الناتجة، وتزيد أرباح المصانع، ويتحقق الاكتفاء الذاتي.

تطوير قطار نقل القصب من الحقول إلى المصنع (الديكوفيل) الذي يعمل منذ قرن ونصف، فرصة أيضا لتقليل الهدر الناتج عن انقلاب عربات القطار في الترع المجاورة لخط السكة الحديدية، وتحقق خسائر فادحة للفلاح، وكذلك زيادة عائد الفلاح بتقليل تكلفة النقل بالسيارات والجمال التي يتكبدها، وأصبحت سببا خطيرا لعزوفه عن زراعة المحصول الاستراتيجي.

وأخيرا، ضرورة عودة منظومة البطاقات التموينية بنظام الدعم العيني، في هذه المرحلة على الأقل، وكانت توفر لكل مواطن كيلوغرامين من السكر شهريا، بسعر 1.25 جنيه فقط، بحيث تحصل الأسرة المكونة من خمسة أفراد على 10 كيلوغرامات من السكر تكفيها طوال الشهر، وتحقق توازنا في السعر الحر للسكر.

كذلك فإن التزام الدولة بتوفير 1.4 مليون طن من السكر، الذي تنتجه المصانع المملوكة للدولة، لمنظومة البطاقات التموينية كانت كافية للاستهلاك المحلي طوال العام، وكفيلة بزجر وزير التموين عن السماح بتصدير السكر المحلي على حساب المواطن المصري، والتسبب في الأزمة الحالية وزيادة السعر إلى 55 جنيها للكيلو في سابقة تاريخية. هذه الحلول، مع بساطتها وإيجازها وعدم جهل الحكومة بها، لكن تطبيقها مهم لتلبية طموحات مزارعي القصب والبنجر، وأساسي لحل أزمة السكر التاريخية وضمان عدم تكرارها.

المصدر : الجزيرة مباشر