لماذا تتكرر أزمة السكر في مصر؟!

علي مصيلحي وزير التموين المصري (منصات التواصل)

تضرب الأسواق المصرية أزمة حادة في سعر سلعة السكر طوال العام الماضي، وبلغت ذروتها خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة بارتفاع أسعار السلعة الأساسية إلى مستويات تاريخية، فاقت القدرة الشرائية لغالبية الأسر المصرية، فارتفع سعر الكيلوغرام من 16 جنيها إلى 55 جنيها، بزيادة نسبتها 244% عما كانت عليه العام الماضي.

وأدى ارتفاع سعر السكر، إضافة لأسعار السلع الغذائية الأخرى مثل الأرز والبصل، إلى تصدُّر مصر قائمة الدول الأكثر ارتفاعا في معدل أسعار الغذاء على مستوى العالم لمدة أربعة أشهر متواصلة العام الماضي في الفترة بين شهري يوليو/تموز وأكتوبر/تشرين الأول، بنسبة بلغت 36%، وفق تقرير البنك الدولي. وكشفت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (الحكومي) عن ارتفاع معدل التضخم السنوي في شهر يوليو الماضي إلى أعلى مستوى تاريخي وصل إلى 40.7%، وما زال أعلى من 34% حتى الآن.

وشكّل غياب السكر من الأسواق وشح المعروض منه في محال بيع السلع الغذائية طوال هذه الفترة وحتى الآن وجها آخر للأزمة. وتعهد وزير التموين والتجارة الداخلية على المصيلحي بإنهاء الأزمة بعد ثلاثة أسابيع، أي بحلول منتصف شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، بالتزامن مع انتخابات رئاسة الجمهورية، وطرحت الوزارة كميات من السكر بسعر 27 جنيها للكيلو، ولكن لم تُحل الأزمة بسبب قلة الكمية المتاحة.

عاد الوزير، وتعهد في ديسمبر بانهاء الأزمة بحلول منتصف شهر يناير/كانون الثاني، وهو موسم إنتاج السكر الجديد 2024، ولكنه فشل أيضا وظلت الأسعار مرتفعة والسلعة غائبة في معظم محافظات الصعيد والأقاليم. والسبب واضح، وهو أن الإنتاج قليل، والمخزون لا يكفي، رغم إعلان الوزير أن المخزون المحلي من السكر يكفي 6 أشهر. ولأن الحكومة لا تستطيع استيراد السكر من الخارج، بسبب ارتفاع السعر في السوق الدولية إلى 860 دولارا للطن شاملا تكاليف النقل، ولأن مدة الشحن البحري لا تقل عن 45 يوما.

والدليل أن الهيئة العامة للسلع التموينية بوزارة التموين أعلنت، قبل أسبوع فقط، عن مناقصة لتوريد 50 ألف طن من سكر القصب الخام من (أي منشأ) و/أو 50 ألف طن سكر أبيض مستورد مكرر معبأ، وحددت فترات وصول المنتج من 29 فبراير/شباط حتى 15 مارس/آذار 2024 و/أو وصول من 16 مارس إلى 31 مارس 2024. وفي تقديري أن الأزمة سوف تستمر شهورا، ولن تعود الأسعار إلى ما كانت عليه قبل الأزمة، 18 جنيها للكيلوغرام، لأن الأزمة تُعالَج بطريقة خاطئة.

أسباب غير مقنعة

اتهم وزير التموين التجار بالمسؤولية عن الأزمة، وقال إنهم يحصلون على السكر من البورصة السلعية المصرية بسعر 24 ألف جنيه للطن ثم يعيدون بيعه في السوق السوداء بسعر يتجاوز 40 جنيها للكيلو. ومنح التجار مهلة عشرة أيام لإعادة ضبط الأسعار، محذرا من أنه في حالة عدم استقرار السوق سيتم اللجوء إلى مجلس الوزراء لإقرار التسعير الجبري.

والسؤال هنا: لماذا تشتري البورصة السلعية السكر من مصانع القطاع العام بسعر 13 جنيها للكيلو ثم تطرحه للتجار بسعر 24 جنيها، رغم أن سعر المستهلك كان مستقرا عند 16 جنيها للكيلو؟! علما بأن الوزير أنشأ البورصة السلعية في سبتمبر/أيلول سنة 2022 لتوفر السلع الرئيسية لتجار الجملة والمستهلكين بأسعار منخفضة، فإذا هي عبارة عن كيان تجاري غير خدمي، رغم تبعيته لوزارة التموين، يحتكر تسويق السكر من المصانع المملوكة للدولة ويحقق أرباحا على حساب المواطن “الغلبان” ويقود الأسعار إلى الزيادة بدلا من ضبطها!

التصدير بقرارات وزارية رغم الحظر

بدأت أزمة السكر في بداية العام الماضي، وارتفعت الأسعار العالمية للسكر حتى بلغت 760 دولارا للطن، ومع إضافة مصاريف الشحن يبلغ سعر الطن 860 دولارا. فأصدر وزير الصناعة القرار الوزاري رقم 88 في شهر مارس سنة 2023 بحظر تصدير السكر، للحد من ارتفاع سعر السلعة في السوق المحلية التي ارتفعت بنسبة 34%، وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وهو قرار طبيعي ومعتبر، وقامت الهند باتخاذ القرار نفسه رغم أنها ثالث أكبر الدول المصدرة للسكر.

لكن الوزير فرّغ القرار من مضمونه، بالنص بعد عبارة “حظر تصدير السكر” على الجملة الآتية “إلا للكميات الفائضة عن احتياجات السوق المحلية والتي تقدرها وزارة التموين والتجارة الداخلية، بعد موافقة وزير التجارة والصناعة”. وهكذا فتح الوزير باب تصدير السكر، رغم علمه وعلم وزير التموين وعلم رئيس الوزراء بعدم كفاية الإنتاج المحلي، وأن الدولة تستورد 800 ألف طن سنويا منذ سنة 2016.

بعد إصدار قرار منع التصدير، نفى وزير التموين وجود أزمة، وأكد أهمية منع تصدير السكر، لأنه يباع في السوق العالمية بسعر مرتفع للغاية، على حد قوله. وقال إن المخزون الاستراتيجي من السكر يكفي لـ7 أشهر، وذلك خلال كلمة ضمن فعاليات احتفالية بدء موسم حصاد القمح في شرق العوينات.

وكانت المفاجأة أن بيانات المجلس التصديري للصناعات الغذائية أظهرت أن قيمة صادرات مصر من السكر خلال الفترة من شهر يناير حتى أغسطس/آب 2023 بلغت نحو 320 مليون دولار، مما يعني أن وزيري التموين والصناعة وافقا على أذون تصدير لشحنات من السكر لا تقل عن 300 ألف طن، رغم عجز الإنتاج المحلي، ورغم قرار حظر التصدير، وبذلك تسبب الوزيران المخضرمان في أزمة السكر وتذمر شعبي قبل انتخابات الرئاسة.

ثالثة الأسافي أن وزير الصناعة وافق على طلب الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة بالسماح لشركات سكر القطاع الخاص المقامة في المناطق الحرة (باستيراد) احتياجاتها من السكر من السوق (المحلية) واستثنائها من أحكام قرار حظر تصدير السكر رقم 88 لسنة 2023. وبذلك أصبحت المنطقة الحرة دولة داخل الدولة، ووزير الصناعة رئيس جمهوريتها، ومن خلاله تستورد السكر من دولة مصر وتُصدّره بالدولار وتحقق أرباحا طائلة، في الوقت الذي يتحمل فيه الفلاح المصري الخسائر بسبب انخفاض سعر القصب والبنجر الذي تفرضه حكومته.

أسعار غير مجزية للفلاحين

يطالب الفلاحون بزيادة أسعار قصب السكر لتواكب الزيادة في تكاليف الزراعة، ولكن الحكومة “ودن من طين وودن من عجين”. يحاجج الفلاحون بأن الحكومة قدّرت سعر القصب العام الماضي بـ1100 جنيه للطن، وكان سعر السكر في السوق 18 ألف جنيه للطن. حاليا، تستورد الحكومة السكر بسعر 36 ألف جنيه للطن، وبالتالي يجب أن تشتري القصب من الفلاح بسعر 2200 جنيه للطن على أقل تقدير، ودون إضافة أي دعم للفلاح كما تفعل حكومات العالم. أضف إلى ذلك أن الفلاح يمكن أن يبيع القصب لعصارات المولاس أو العصير بسعر 2500 جنيه للطن.

ذلك أن جمعية منتجي قصب السكر في الأقصر قدّرت تكلفة إنتاج الفدان في السنة شاملة الإيجار بـ43500 جنيه، وطالبت الحكومة بألا يقل السعر عن 2000 جنيه للطن. فلا يُعقل أن يُنهب الفلاح ويُحرم من حقه الدستوري في سعر عادل للمحاصيل يحقق هامشَ ربح مُجزيا، وفي الوقت نفسه تسمح الدولة بتصدير السكر بأسعار مضاعفة مستغلة ارتفاع أسعار السكر محليا ودوليا. هذا هو منطق الفلاحين، ومعهم الحق، ولكن ليس لهم وكيل.

من ناحية أخرى، رفعت الحكومة سعر الأسمدة الكيماوية إلى 250 جنيها للشيكارة، ثم أوقفت توريدها للفلاحين ووجهت الإنتاج للتصدير طمعا في الدولار الذي تعاني من شحه. وأعلن المجلس التصديرى للصناعات الكيماوية والأسمدة أن صادرات الأسمدة سجلت 1.7 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من 2023. أما الفلاح فيشتري الشيكارة من السوق السوداء بسعر 700 جنيه.

بعد استعراض الحقائق السابقة، قررت وزارة التموين رفع سعر توريد طن قصب السكر من 1100 جنيه إلى 1500 جنيه، والحكومة تعرف أنه سعر غير مُجز ويحقق خسائر للفلاحين، ولكن لا حياة لمن تنادي.

تراجع مساحة المحاصيل السكرية

هذه السياسات المتراكمة أدت إلى عزوف الفلاح عن زراعة القصب، وتراجعت المساحة إلى 325 ألف فدان هذا العام 2024/2023، مقابل 350 ألف فدان العام الماضي. وللسبب نفسه، تراجعت مساحة بنجر السكر من 594 ألف فدان إلى 560 ألف فدان، وفق تصريح رئيس مجلس المحاصيل السكرية.

وانتهت المأساة إلى ما كشفه اللواء عصام البديوي، الرئيس التنفيذي والعضو المنتدب لشركة السكر والصناعات التكاملية المصرية، وهو توقف مصنع أبو قرقاص في مصر عن إنتاج السكر من القصب لأول مرة منذ 155 عاما، وبعد أن كان يستقبل 750 ألف طن حتى عام 2020، ما يعادل إنتاج 18 ألف فدان، استقبل العام الماضي 90 ألف طن، ما يعادل إنتاج 2500 فدان فقط، وأدى إلى خسائر بنحو 112 مليون جنيه. الكمية انخفضت هذا العام إلى 10 آلاف طن فقط، ما يعادل محصول 250 فدان، وهي كمية تكفي للعمل لمدة 5 أيام فقط.

هذه هي الأسباب الحقيقية لأزمة السكر الحالية في مصر، التي يجب أن تقر الحكومة بها ولا تنكرها، حتى يمكن إيجاد حل لها، لأن أول علاج للأزمة هو الاعتراف بوجودها، وإلا سوف تتكرر مرة بعد أخرى. أما الاكتفاء الذاتي من السكر لكونه سلعة أساسية لكل بيت في مصر، ومادة مهمة لكثير من الصناعات الحيوية، فهناك خطط وضعها خبراء في زراعة المحاصيل السكرية وآخرون في صناعة السكر تحقق هذا الهدف الاستراتيجي، ويمكن تناولها في مقال آخر.

المصدر : الجزيرة مباشر