موقف محمد مهدي عاكف من العدوان على غزة

الشيخ مهدي عاكف في مؤتمر صحفي للتضامن مع غزة عام 2008 (رويترز)

في رسالة وصلتني من أحد الأصدقاء العاملين في الإغاثة الإنسانية من أبناء بلدة خزاعة الواقعة شرق مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، عبر واتساب، وذلك في اليوم الـ83 من بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، نقل بعض معاناة الناس هناك فيقول فيها “عدت اليوم من جولة في مراكز الأوباء التي نطلق عليها مجازا، الإيواء، رأيت واحدا من أكرم الناس، يبحث عن رغيف خبز، وآخر من أعف الناس نفسا، يتسول شربة ماء، غادرت منكسرا غاضّا بصري عن رؤية أشراف لا أحب لهم مقاما كهذا”.

وفي موقف آخر يقول “أوقفني مُسن في الطريق طالبا أن أجد له طبيبا يطهر جرح نجله الوحيد الذي بدأ الدود يخرج من بطنه، فذهبت إلى مستشفى كمال عدوان آملا أن أجد مسألته، فوجدت ما تبقى من المستشفى مغلقا بالأصفاد، فعدت إلى حيث أقيم”.

وفي موقف ثالث يقول “أوقفني كهل وقد أطلق لدموع عينيه العنان: يا أستاذ ممكن تعطيني المقطع اللي صورته لابني الجريح قبل يومين، قلت بأمرك عمي.. وردَّ هو “هو آخر شيء بقي من ريحته.. استشهد امبارح ودفنته هان في الشارع”. يقول “عانقته وكأني أطلب منه أن يؤجرني عذاب قلبِه، وأن المثقل قلبُه بعذاب لا تقوى على تحمُّله الجبال”.

يقول صديقي الخزاعي “تضرر 70% من منازل القطاع أو دُمرت بالكامل، وقرأت في صحيفة يديعوت العبرية أن الإدارة الأمريكية تتجاوز الكونغرس للمرة الثانية وتصادق على إمداد إسرائيل بقنابل ذكية بقيمة 147 مليون دولار، واحنا مش قادرين نأمّن وجبات بشكل يومي للناس” ودعا على الحكام العرب.

في اليوم الذي وصلتني فيه رسالة الصديق الفلسطيني، أعلن الهلال الأحمر الفلسطيني عن مقتل أكثر من 20 ألف شهيد، وجرح 50 ألف مصاب، ونزوح مليونَي مواطن. وقال إن 40% من سكان القطاع يعانون مجاعة، والسكان بالكاد يحصلون بصعوبة على وجبة طعام واحدة، وغالبية سكان غزة لا يستطيعون الحصول على مياه صالحة للشرب، وهناك ما يقارب 900 ألف طفل فلسطيني نازح معرَّضون للمجاعة والجفاف، وما يدخل إلى القطاع عبر معبر رفح من المساعدات لا يُمثل 10% من الاحتياجات.

العالم يدعم إسرائيل ضد غزة

بعد أيام قليلة من بداية العدوان على غزة، قدّمت الولايات المتحدة الدعم لإسرائيل بالأسلحة والخبراء والعتاد والمتفجرات والصواريخ وحاملات الطائرات لإنفاذ حقها في الدفاع عن النفس. وقام الرئيس جو بايدن بأول زيارة لرئيس أمريكي إلى دولة الاحتلال في وقت الحرب وعلى متن طائرة حربية. وطالب بايدن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن يكون الرد على عملية حماس العسكرية حاسما.

زيارة بايدن جاءت بعد ساعات من قصف القوات الإسرائيلية المستشفى الأهلي العربي المعمداني وقتلها أكثر من 500 فلسطيني، جُلهم من الأطفال الذين كانوا يلعبون في ساحة المستشفى، وقام بتبرئة إسرائيل من جريمتها غير المسبوقة بقوله “بناءً على ما رأيته، يبدو أن الأمر قد تم من قبل الفريق الآخر وليس أنتم”.

وادعى أنه شاهد بعيني رأسه صورا لأطفال إسرائيليين ذبحتهم حماس، في محاولة لدعشنتها. ورغم تكذيب البيت الأبيض رواية الرئيس المختلقة بقولها إنه فقط سمع عنها من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لم يتراجع بايدن عن روايته ولم يعتذر عن فريته.

وفي إثر بايدن، قام بزيارة إسرائيل ثمانية رؤساء ورؤساء حكومات أوروبيين، وقدّم بعضهم مساعدات فورية، عسكرية ولوجستية، ودعما استخباراتيا ومعلوماتيا وأعمال تجسس لتحرير الرهائن، هم: مستشار ألمانيا أولاف شولتس، ورئيس فرنسا إيمانويل ماكرون، ورئيس وزراء المملكة المتحدة ريشي سوناك، ورئيس وزراء رومانيا مارسيل سيولاكو، ورئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، ورئيس جمهورية قبرص يكوس خريستودوليدس، ورئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس، ورئيس وزراء هولندا مارك روته.

تواطؤ عربي تاريخي

باستثناء بعض كلمات التنديد على استحياء، ودون أن تصل إلى الشجب أو الاستنكار أو الإدانة الكلامية، التي اشتهر بها الحكام العرب وجامعتهم العربية في مواقفهم غير المشرفة طوال الصراع التاريخي، لم يتحرك مسؤول عربي واحد باتخاذ خطوة عملية لكسر الحصار وإدخال المساعدات الحقيقية لقطاع غزة، فضلا عن تقديم الدعم العسكري.

كان أبو عبيدة، الناطق باسم كتائب القسام، محقا عندما قرع زعماء وحكام الأمة العربية بقوله: إننا لا نطالبكم بالتحرك لتدافعوا عن أطفال العروبة والإسلام في غزة من خلال تحريك جيوشكم ودباباتكم لا سمح الله، ولكن هل وصل بكم الضعف والعجز أنكم لا تستطيعون تحريك سيارات الإغاثة والمساعدات الإنسانية إلى جزء من أرضكم العربية الإسلامية الخالصة رغما عن هذا العدو المهزوم المأزوم، فهذا ما لا نستطيع فهمه ولا تفسيره.

فعلت منظمة هيومن رايتس ووتش ما لم تفعله حكومة عربية، فطالبت حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وألمانيا وغيرها بتعليق المساعدات العسكرية ومبيعات الأسلحة لإسرائيل ما دام جيشها يستمر في ارتكاب انتهاكات خطيرة وواسعة ترقى إلى جرائم حرب ضد المدنيين مع الإفلات من العقاب.

وكانت جمعية مسلك الحقوقية الإسرائيلية أكثر شجاعة من الجميع، فطالبت الحكومة الإسرائيلية بوقف العدوان فورا، وقالت ما عجز عن قوله المسؤولون العرب، قالت إن هجوم 7 أكتوبر كانت له جذور تاريخية ومبررات، وإن القصة لم تبدأ في السابع من تشرين الأول، ولكن سبقته، من بين ما سبقته، سنوات من القمع العنيف للفلسطينيين تحت الاحتلال والمحو الممنهج لحقوقهم الأساسية.

دعتني هذه المواقف المتباينة إلى تذكُّر مواقف المرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين الأستاذ محمد مهدي عاكف مع القضية الفلسطينية، وكان يَعُدها قضية الإخوان المركزية، وخاصة موقفه من العدوان الإسرائيلي على غزة في نهاية عام 2008، الذي سجله في إحدى رسائله الأسبوعية التي كنت أتابعها على موقع الجماعة، وكانت بعنوان “اكسروا الحصار الظالم على شعب فلسطين”. وعاب على حكام العرب والمسلمين صمتهم بينما ارتفعت أصوات في أوروبا تنادي بإنهاء الحصار الظالم الغاشم المفروض منذ سنين على الشعب الفلسطيني في غزة.

وحذر الرجل الثائر الحكومات العربية من غضبة الشعوب، وذلك قبيل ثورة يناير، بسبب منع أجهزة الأمن العربية القوافل الرامية إلى كسر الحصار عن غزة، مع تواصل قوافل الإغاثة من أوروبا على متن السفن المنطلقة من قبرص إلى غزة. وقال إن أخطر الأمور أن يترسخ في ذهن المواطن العربي أن حكومات بلاده وجيوشها وقواتها الأمنية تسهم في إحكام الحصار، وتشارك في قتل الفلسطينيين قتلا بطيئا.

يقول عاكف في رسالته: وعندما لا تُسمِع تلك الحكومات العربية العالم كلمة واحدة ضد الاحتلال الصهيوني وضد الحصار الغاشم؛ فلا يلومن هؤلاء إلا أنفسهم عندما ينفجر بركان الغضب الكامن في الصدور والنفوس ضد الجميع. إن مصر تتحمل العبء الأكبر في رفع الحصار؛ لأن أمنها الوطني والقومي يتطلب التصدي للعدو الصهيوني، ولن يستقر هذا الأمن طالما بقي الاحتلال الصهيوني لفلسطين قائما.

إن هذا الحصار الظالم -يقول عاكف- يتناقض مع العهد الدولي لحقوق الإنسان والأحكام الشرعية الدولية ومعاهدة جنيف الرابعة، ويُعد -وفقا للقانون الإنساني الدولي- جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية؛ مما يُعرّض كل المشاركين فيه ولو بعد حين إلى المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية التي تحرَّك المدعي العام بها في حماسة ضد رئيس السودان في أزمة دارفور، بينما لم يُحرّك ساكنا أمام جريمة تنقلها شاشات التلفاز صباح مساء بإبادة مليون ونصف المليون إنسان في غزة!!

ويتساءل الأستاذ عاكف: ما المطلوب من مصر؟ ويجيب في رسالته التي كأنه يكتبها لهذه المعركة الدائرة:

فتح معبر رفح بصورة طبيعية، وممارسة مصر سيادتها الكاملة عليه؛ بالتنسيق مع الجانب الفلسطيني دون أي تدخل من الكيان الصهيوني أو أي أطراف أخرى، وتمكين الفلسطينيين والمصريين من العبور الآمن؛ وفقا للإجراءات الأمنية والجمركية الطبيعية. تمكين قوافل الإغاثة المصرية والعربية والدولية من القيام بمهامها في نجدة أهل فلسطين، وتشجيع الجهود الشعبية الشرعية لرفع الحصار وإنهاء الاحتلال. العمل على مد قطاع غزة بالوقود والكهرباء؛ وفقا لاتفاقيات تجارية يتم توقيعها مع الشركات المسؤولة، وإلزام العدو الصهيوني (قوة الاحتلال) بالوفاء بالتزاماتها وفق معاهدة جنيف الرابعة؛ وذلك بمقاضاتها في المحافل الدولية. السماح للقوى الوطنية والشعبية بالتعبير عن موقفها ورأيها في مؤتمرات ومظاهرات احتجاجية سلمية؛ بما يعبّر عن روح مصر الشعبية ووزنها الحقيقي في عالمها العربي والإسلامي، وبما يؤدي إلى التوازن مع الضغوط التي يمارسها الحلف الصهيوني الأمريكي. وقف الحملة الإعلامية التحريضية الظالمة الموجَّهة ضد الشعب الفلسطيني وحركات المقاومة، خاصة (حماس) وتأكيد الوحدة العضوية بين الشعبين المصري والفلسطيني. السعي إلى بناء تحالف عربي وإسلامي دولي للدفاع عن الحقوق الفلسطينية المشروعة وكسر الحصار الظالم، عبْر آليات القانون الدولي في المحافل الدولية كافة.

ثم وجَّه عاكف، الذي قاتل وهو شاب ضد الاحتلال الإنجليزي في منطقة قناة السويس، رسالة إلى حكام العرب والمسلمين، فقال: إن أطفال غزة يستنجدون لإنقاذهم من الموت بسبب الحصار، إننا نطالب الزعماء العرب والمسلمين باتخاذ الخطوات التالية:

الالتزام التام بقرار الجامعة العربية برفع الحصار الظالم عن غزة. تقديم الدعم الكامل الإنساني على كافة الأصعدة للشعب الفلسطيني الصامد في القدس والضفة الغربية وغزة. أن تقوم منظمة المؤتمر الإسلامي بتبنّي قضية الشعب الفلسطيني، وتعمل على مشاورات عاجلة يقوم بها الأمين العام -على كافة الزعماء العرب والمسلمين- للاتفاق على نهج جديد إزاء القضية الفلسطينية. تبنّي حوار مصالحة ومصارحة بين الفصائل الفلسطينية كافة، وخاصة الفصيلين الرئيسيين. إن هذا الحصار الغاشم يستهدف في المقام الأول إنهاء مشروع المقاومة الذي نجح في إزعاج العدو الصهيوني، ويهدف أيضا إلى زرع الشقاق والخلاف بين الفلسطينيين، وزرع اليأس في نفوسهم، وفي مواجهة ذلك يجب علينا تأكيد أن الحق في المقاومة حق شرعي ووطني وإنساني يتفق مع القانون الدولي، وأن المقاومة بكافة صورها وأشكالها هي الخيار الوحيد في مواجهة الصلف الأمريكي الصهيوني. لقد انتهت موجة الحرب على الإرهاب بفشل ذريع على كافة الجبهات، وهي اليوم تلفظ أنفاسها قبل الأخيرة.

يقول الأستاذ: لقد نجحت إدارة بوش في الضغط على الحكام العرب والمسلمين ومحاولة ابتزازهم والحيلولة دون أن يكون لهم دور إيجابي وفعال في خدمة القضية الفلسطينية، ودون أن يقوموا بما يفرضه عليهم واجبهم الأخلاقي والإنساني تجاه الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وضد حصار الجوع والموت والمأساة الكارثية التي يتعرض لها.

نحن اليوم على مفترق طرق، وعلينا أن نستعيد الوعي، وأن نعزز الأوراق، ونحدد العدو الحقيقي الذي يستهدف أمتنا ومصالحنا، ويهدد بالعدوان المستمر على أمتنا، وهو العدو الصهيوني الذي تدعمه أمريكا وأوروبا.

ويوجه رسالة إلى كل الأحرار في العالم، فيقول: أيها العرب والمسلمون، أيها الأحرار في العالم أجمع، أيها الناس أجمعون:

اكسروا هذا الحصار الغاشم الظالم.

انضموا إلى القوافل الحرة التي انطلقت من قبرص لدعم أهل غزة الصامدين.

انطلقوا في مظاهرات سلمية تندد بالصمت العربي والإسلامي والدولي.

نظِّموا قوافل بحرية وبرية، حقيقية ورمزية، لكسر الحصار عن غزة.

تبرّعوا بنسبة ثابتة من دخولكم الشهرية لمنظمات الإغاثة الإنسانية في العالم كله؛ لدعم صمود أهل القدس وغزة والضفة.

ارفعوا أصواتكم من على منابر المساجد والكنائس والمدارس والجامعات ومعاهد العلم.

ارفعوا أعلام فلسطين في شرفات المنازل، والصقوا صور المسجد الأقصى في كل مكان.

تصدُّوا للأقلام التي توهن العزائم وتُشكّك في المقاومة وتصطف إلى جانب العدو بالحكمة والجدال بالحسنى والموضوعية اللائقة للرد على حججهم الضعيفة والباطلة.

ويختم الأستاذ عاكف رسالته المفعمة بالحيوية والتي لازمته ولم تفارق مواقفه حتى وفاته بقوله “هذا الحصار يجب أن ينتهي اليوم قبل غد، وكلنا مسؤولون بين يدي الله تعالى عن قتل شعب بأكمله وتخاذلنا عن نصرته. ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: 40)، والله أكبر ولله الحمد. وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم”.

المصدر : الجزيرة مباشر