انحسار الوجود الفرنسي في إفريقيا لصالح تركيا وروسيا والصين!

المستفيدون الجدد من اليمين الرئيس الصيني، فالرئيس الروسي، ويظهر في اليسار الرئيس التركي، وبجانبه رئيس فيتنام

في خضم انشغال المجتمع الدولي، وعلى رأسه فرنسا بتحديد سبل التعامل مع انقلاب النيجر، ومحاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، عبر التهديد بعمل عسكري عن طريق المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكوس) يعيد الرئيس محمد بازوم إلى السلطة، فوجئ الجميع بوقوع انقلاب جديد في الغابون، وإعلان قيادات الجيش هناك استيلاءهم على السلطة والتحفظ على الرئيس علي بونغو.

حُمى الانقلابات العسكرية التي عادت بقوة للسيطرة على زمام الأمور في وسط وغرب القارة السمراء، التي شهدت في السنوات الثلاث الماضية تولي العسكريين السلطة في كل من مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وقبل ذلك تشاد، وأخيرا الغابون؛ تشير في مجملها إلى بداية مرحلة أفول عصر السيطرة الفرنسية وتحكمها في مقدرات الدول الإفريقية، وتسخير شعوبها واستغلال ثرواتها، وإفساح المجال أمام القوى الدولية الجديدة الصاعدة المتمثلة في روسيا والصين وتركيا لأداء دور أكثر حيوية، والتمدد في مساحة جغرافية أكبر بعد انحسار الوجود الفرنسي على رقعة الشطرنج الإفريقية.

إذ تسعى هذه الدول لوضع أسس نظام جديد للشراكة بينها وبين شعوب إفريقيا عموما، يعتمد على المصالح المتبادلة، والتعاون في كافة المجالات خصوصا تلك التي تصب في صالح تطوير هذه الدول وتنميتها، من خلال استغلال ثرواتها وتوظيفها بما يعود على شعوبها بالأمن والرفاهية والاستقرار الاقتصادي والسياسي.

الدور الروسي في الانقلابات العسكرية الإفريقية

صحيح أن هناك اتهامات غربية لروسيا تحديدا بالضلوع في هذه الانقلابات، وبأنها المحرك الأساسي لها، مع ملاحظة أنها جميعها حدثت في مناطق النفوذ الفرنسي القوي في مالي وتشاد وبوركينا فاسو ومنطقة الساحل والصحراء بشكل عام، وقد سبق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين التصريح بأنه سيعمل على تحرير الدول الإفريقية من قبضة الاستعمار، في إشارة إلى الوجود الفرنسي هناك، إلا أن هذا لا يعني أن روسيا هي المستفيدة وحدها من هذه التغييرات التي تحدث اليوم في إفريقيا عموما.

فلا يمكن إنكار أن الصين الشريك الأكبر للكثير من الدول الإفريقية لها مصالح استراتيجية هامة هناك، كما أن تركيا وإن جاءت متأخرة بعض الشيء عن موسكو وبيجين لها كذلك مصالح وأهداف تسعى إلى تحقيقها من خلال زيادة وجودها في الساحة الإفريقية.

ربما تتمثل أهم أهداف الدول الثلاث من وراء توسيع رقعة تمددها داخل إفريقيا، في استعدادها جميعا للنتائج التي ستسفر عنها محاولات إيجاد نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، ومكانتها فيه، وهي المكانة التي ستُحددها قوتها العسكرية والاقتصادية، وما تملكه من مناطق نفوذ في العالم، وما لديها من إمكانيات جيوسياسية، وفي هذا الإطار تمثل إفريقيا تحديدا ثقلا لا يستهان به، ومركزا هاما لأي قوى تريد أن تحكم العالم؛ بما تملكه من ثروات ومعادن طبيعية وإمكانيات اقتصادية هائلة لم تستغل الاستغلال الأمثل حتى اليوم إلى جانب كونها سوقا ضخمة للبضائع والمنتجات المختلفة.

وهو الأمر الذي يشير صراحة إلى أن ما نراه من تطورات سياسية على الساحة الإفريقية عموما ليس بمنأى عن الصراعات الدائرة حاليا لاستبدال النظام العالمي الحالي الأحادي القطب بآخر متعدد الأقطاب يخدم مصالح الجميع، ويعمل على إنهاء الكثير من الأزمات الاقتصادية في العالم.

السياسة التركية اتجاه دول القارة السمراء

تركيا اتخذت منذ البداية موقفا حياديا من الانقلابات المتتالية في أفريقيا، وقد حذرت من محاولة تدخل إيكواس العسكري في النيجر ردًّا على الانقلاب الأخير لكون هذا التصرف سيؤدي إلى تفاقم الأمور وخلق حالة من الفوضى يمكن أن تنتقل بسرعة إلى العديد من الدول المجاورة، مفضلة التفاوض والحل السلمي.

بل أعلن الرئيس التركي شخصيا نيته رفع حجم تعاون بلاده مع الدول الإفريقية وفق نظرية المكاسب المشتركة، وهو نفس المبدأ الذي سارت عليه تركيا عند تقييمها للوضع في الغابون، فمع إعلانها أنها تراقب الوضع عن كثب بدقة، أعربت عن تمنياتها بأن يحل السلام والاستقرار مجددا في البلاد.

لم تحد تركيا عن سياستها ونهجها في التعامل مع الدول الإفريقية، منذ بداية دخولها إلى هناك بقوة بدءا من عام 2003 حيث كان التوجه في أوله اقتصاديا تنمويا في المقام الأول، استغلالا لسوق ضخم يضم أكثر من 54 دولة، بعدد سكان يتجاوز مليار وأربعة مئة وواحد وعشرين مليون نسمة، يمثلون  17.8% من إجمالي عدد سكان العالم، أي أنه مجال رحب لتسويق المنتجات التركية بمختلف أنواعها، وهو ما يساهم في حل أزمة البلاد الاقتصادية.

لذا حرصت تركيا على تأكيد أن سعيها لإقامة علاقات دبلوماسية وتجارية مع دول إفريقيا ليس به شبهة استغلال، وإنما الهدف هو التعاون المشترك، وتحقيق مصالح الطرفين، وهو ما أعلنه الرئيس أردوغان صراحة عند زيارته للغابون عام 2013 حين قال إن “إفريقيا ملك للأفارقة، ولسنا هنا من أجل السطو على ذهبكم”.

وقد منح هذا الأمر تركيا مكانة خاصة لدى شعوب القارة، وهو ما انعكس على تطور علاقاتها الاقتصادية والتجارية وتشعبها لتمتد إلى كافة المجالات بما فيها الأمنية والعسكرية؛ مما جعل لها دورا مؤثرا ومهما في حل مشاكل شرق إفريقيا وشمالها، نتيجة اعتمادها دبلوماسية الحل السلمي، وطرح الحلول المنطقية التي تحقق الأمن وتعزز سبل الاستقرار فيها، واستخدام الاستثمارات الاقتصادية والتبادل التجاري لتحقيق المصالح المشتركة.

اختلاف النهج التركي عن نهجي فرنسا وأمريكا

وبهذه الرؤية يظهر واضحا الاختلاف بين النهج الذي تتبعه تركيا اتجاه دول وشعوب إفريقيا، وبين الأسلوب الذي طالما سارت عليه كل من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية تحديدا، حيث استخدمتا دوما سياسة زعزعة الأمن والاستقرار من خلال مبدأ فرق تسد لإحكام سيطرتهما على مقدرات هذه الدول، وإخضاعها لنفوذهما، ضاربتين عرض الحائط بمصالح شعوبها.

هذا الاختلاف ساهم دون شك في تعزيز وجود تركيا، وزاد حجم علاقاتها السياسية والاقتصادية مع دول القارة السمراء ومؤسساتها الدولية مثل الاتحاد الإفريقي، الذي أعلنها عام 2008 شريكا استراتيجيا له، وشهدت الفترات المتعاقبة التوقيع على العديد من اتفاقيات التعاون في جميع المجالات الاقتصادية والتجارية والعسكرية والثقافية إلى جانب التعاون في مجال الأمن وفي المجلات الإنسانية والاجتماعية مع أكثر من 30 دولة إفريقية.

وتسعى تركيا حاليا لتطوير تعاونها ورفع حجم وجودها في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية، إلى جانب توسيع نطاق وجودها الدبلوماسي من خلال زيادة عدد سفاراتها التي بلغت 44 سفارة مقابل 49 سفارة للولايات المتحدة، و46 لفرنسا.

القوى الصاعدة الجديدة ودورها المنتظر أفريقيا الأمر الذي يتيح لها لعب دور أكثر تأثيرا وأهمية في معالجة القضايا الإفريقية المرشحة للتزايد خلال الفترة المقبلة، إذا ما أخذنا في الاعتبار الصحوة التي تعيشها شعوبها، وإدراك شريحة الشباب التي تمثل حوالي 65% من السكان أهمية الحفاظ على ثروات بلادهم واستغلال مواردها بصورة تحقق لهم الرفاهية والاستقرار الاقتصادي، وتجلب لبلادهم الأمن والأمان، إلى جانب تنامي الشعور بضرورة التصدي للفاسدين الذين أفسدوا عليهم حياتهم، والعملاء الذين جعلوا بلادهم لقمة سائغة في أفواه الغرب الذي استفاد منهم إيما استفادة ولم يقدم لهم شيئا.

وهو ما يعني أن أحجار الشطرنج الفرنسية التي طالما سيطرت على مقدرات دول القارة السمراء بدأت التساقط، وأننا نعيش حاليا بداية مرحلة أفول عصر النفوذ الفرنسي وانحساره عن إفريقيا لصالح القوى الصاعدة الجديدة التي تمثل حجر الزاوية في النظام العالمي الجديد المرتقب؛ فرغم اختلافات هذه القوى  الأيدلوجية، وتباين خططها الاستراتيجية، فإنها تعد أمل الشعوب الإفريقية في تطوير حياتها والاستفادة من ثرواتها لكونها تعتمد مبدأ الشراكة، ونظرية تبادل المصالح.

المصدر : الجزيرة مباشر