هل هناك علاقة بين الصحافة والقيادة؟.. نظرية جديدة لبناء المستقبل!

منذ سنوات طويلة، وأنا أعمل لتطوير علوم بينية عابرة للتخصصات تربط علوم الصحافة والإعلام بعلوم الإدارة والسياسة والاجتماع والتاريخ.

لكنني فكرت في تطوير العلاقة بين الصحافة والقيادة، فاكتشفت أن جون بافلك سبقني إلى ذلك بتقديم رؤية لتطوير تعليم الصحافة تبدأ بأن دراسة الصحافة ضرورة للقائد التحويلي. فماذا يعني ذلك؟!

يشرح جون بافلك فكرته الجديدة؛ فيقول إن تطوير العلاقة بين الصحافة والقيادة التحويلية يساهم في إعادة اختراع الصحافة من خلال نموذج مبني على الابتكار، يقوم على البحث النقدي عن الحقائق، ويطور فيه أساتذة الصحافة المهارات القيادية للصحفيين؛ بهدف تحويلهم إلى قيادات تحويلية راديكالية تواجه أزمة الصحافة بتغيير وظائفها.

رواية قصص الصحفيين!

لتحقيق ذلك الهدف يرى جون بافلك أن أساتذة الصحافة يجب أن يقدموا قصص الصحفيين الذين تمكنوا من تحقيق النجاح في تطوير المؤسسات الصحفية.

وهنا تذكرت أنني قد سبقت بافلك إلى هذه الفكرة، عندما كنت أقوم بتدريس تاريخ الصحافة، وتطور وسائل الإعلام، وأذكر أنني افتتحت محاضرتي عام 1995 بالقول: إنني لا أريد أن تكونوا مجرد صحفيين مهنيين تجيدون تغطية الأحداث وإنتاج المواد الصحفية، ولكنني أريد أن تصبحوا قادة للمجتمع توفرون المعرفة للجماهير لتتمكن من تغيير الواقع، فلا يمكن بناء مستقبل الدول إلا بتوفير المعرفة للجماهير، وإعدادها للتغيير.

الصحافة وثورة 1919

وقلت لطلابي إن من أهداف المقرر أن أوضح لكم أن الصحافة المصرية خلال الفترة من 1889 حتى 1909 تمكنت من إعداد الشعب المصري للثورة ضد الاحتلال البريطاني، حتى جاءت اللحظة المناسبة عام 1919، وأن صحافة جمعية نهضة العلماء في الجزائر تمكنت من تعبئة الشعب الجزائري للثورة حتى جاءت الفرصة المناسبة عام 1954.

كان هذا المدخل ضروريًّا لتوضيح لماذا أروي قصص مصطفى كامل ومحمد فريد والشيخ علي يوسف والمؤيد واللواء.

وقلت لطلابي إن مستقبلكم يعتمد على تطوير ثقافتكم وإنتاج أفكار جديدة لتغيير الواقع، وأن تصبحوا قادة للرأي، وأن تقوموا بدور تاريخي جديد لتوفير المعرفة للشعب ليتمكن من بناء مستقبله.

لكن من الواضح أن الأفكار التي قدمتها لم تعجب السلطة التي تعاملت معي بعداء، فبدأت أتعرض للتهديدات، حتى وجدت أن الحل الوحيد أمامي هو الهجرة.

لمواجهة أزمة الصحافة!

أما الآن فإن الصحافة تحتاج إلى هذه الأفكار لمواجهة أزمة تهدد وجودها، وتهدد الديمقراطية، وقوة الدول الإعلامية، فالصحافة المطبوعة مصدر مهم للمعرفة، وقنوات التليفزيون ووسائل الإعلام الجديد لا يمكن أن تقوم بدور الصحافة.

لذلك يجب أن نفكر بعمق في تطوير العلاقة بين الصحافة والقيادة، وفي تطوير تعليم إعداد الصحفيين ليصبحوا قادة، وفي تطوير تعليم الصحافة لكل من يتم إعدادهم للقيام بأدوار قيادية في السياسة والإدارة والمجتمع.

أذكر أيضا أنني كنت أقوم بتدريس مقرر إدارة المؤسسات الإعلامية، وبدأت ذلك بالقول بأن المؤسسة الإعلامية لا تحتاج إلى مدير، بل تحتاج إلى قائد، يقدم رؤية جديدة لتقوم المؤسسة بدورها المجتمعي، ولا يكون هدفه تحقيق الأرباح.

ولعلنا نرى بوضوح الآن حاجة المؤسسات الصحفية إلى قيادات جديدة صاحبة رؤية ورسالة ووظيفة حضارية؛ فهذه القيادات هي التي يمكن أن تواجه الأزمة، وتشجع الصحفيين على الابتكار والتجديد وبناء علاقة جديدة مع الجمهور.

كما أن الصحف تحتاج إلى رؤساء تحرير يفكرون في بناء مستقبل الصحف على أسس جديدة تختلف تماما عن تلك الأسس التي وضعها روبرت ميردوك، وطبقتها الكثير من الصحف بدون وعي، فركزت على الفضائح والجنس والرياضة، فالفرد يستطيع الآن أن يحصل على كل تلك المواد من هاتفه المحمول، فلماذا يذهب لشراء الصحيفة، أو حتى يشاهد التليفزيون؟

من يقود الصحافة في عصر جديد؟!!

توقفت كثيرًا عند مفهوم “إعادة اختراع الصحافة” الذي تم الترويج له في الغرب كمدخل للبحث عن حلول جديدة لأزمة الصحافة، لكنني أرى أننا نحتاج إلى إعادة دراسة تاريخ الصحافة، للبحث عن الأسباب التي دفعتها إلى التخلي عن دورها التاريخي. فكيف نعيد لها هذا الدور، لتقود الشعوب لتحقيق الاستقلال الشامل، والتحرر من التبعية، وبناء نماذج ديمقراطية تقوم على المشاركة، واحترام حق الشعب في اختيار المشروع الحضاري الذي يقيم على أساسه مستقبله؟

هذا يعني أن الشعوب يمكن أن تمنح الحياة لصحافة تقودها إلى المستقبل، ويمكن أن تحترم الصحفي الذي يقوم بدوره كقائد للمعرفة.

أما الصحفي الموظف الذي يستخدم مهاراته وكفاءته لخدمة سلطة مستبدة تقهر الشعب؛ فإنه يدفع الجماهير للبحث عن الحقائق في وسائل التواصل الاجتماعي، لأنها ببساطة لا تجد صحافة تعبر عنها.

ولقد أساء الصحفيون المنافقون للمهنة، وشوهوا صورتها في أذهان جماهير تحتاج إلى معرفة الحقائق، بعد أن كرهت التزييف والتجهيل والتضليل والدعاية.

لذلك فإن بناء مستقبل الصحافة يقوم على تحويلها إلى صحافة قائدة، وأن يتحول الصحفيون إلى قادة، وأن يدرسوا بعمق تجارب القادة الوطنيين الذين استخدموا الصحافة لتوعية الشعب بحقوقه والدفاع عن كرامته.

القيادة القائمة على المعرفة

هل يمكن أن يتحول الصحفيون إلى قادة؟! هناك نظرية مهمة هي أن القيادة يجب أن تقوم بتوفير المعرفة للجمهور، والشعوب تشتد حاجتها إلى القيادات عندما تتراكم الأزمات، وتصبح كموج البحر أرخى سدوله، فالمعرفة تضيء للشعوب طريق الكفاح للتحرر من الطغيان والاستبداد.

والواقع يوفر الفرص الآن لقيادات جديدة تستخدم الصحافة في التعبير عن مشروعات حضارية، ولصحفيين يوفرون المعرفة عن هذه المشروعات، وبذلك تستعيد الصحافة دورها التاريخي، وتقوم بوظيفتها في الوفاء بحق الجماهير في المعرفة.

لذلك تحتاج الأمة إلى تطوير علم جديد يربط القيادة بالصحافة والمعرفة والأخلاق، ويساهم في تطوير تعليم الصحافة!

المصدر : الجزيرة مباشر