هزيمة إسرائيل الاستراتيجية

الطلاب يخرجون إلى الشوارع لدعم الفلسطينيين في إسبانيا (الأناضول)

 

هل ستؤدي جرائم الحرب الصهيونية في قطاع غزة إلى نتائج عكسية على دولة الاحتلال الإسرائيلي والنظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة؟

السؤال بات لا يتردد فقط وسط القوى السياسية المؤيدة للحق الفلسطيني، أو في المظاهرات اليومية التضامنية غير المسبوقة في أنحاء العالم كافة مع غزة، ولكن في أروقة الأمم المتحدة وفي مناقشات كبار المسؤولين في الدول الاستعمارية الكبرى.

وبعد شهرين من الاصطفاف الكامل مع آلة الحرب الصهيونية، بدأت الانشقاقات تتزايد وسط معسكر الحرب العالمي، كما بدأ وعي جذري بالقضية الفلسطينية يتنامى داخل قطاعات شبابية وشعبية غربية.

ويمكن ملاحظة أن هناك نوعين من الانتقادات توجه لدولة الاحتلال، من المهم التمييز بينهما.

الفئة الأولى من المنتقدين، هي التي تريد الحفاظ على النظام العالمي الاستعماري القائم، لكنها ترى أن العصابة الفاشية الحاكمة في تل بيب تهدد مصالحها لرغبتها في توسيع الحرب عبر شن حرب على لبنان، إلى جانب المخاوف المتزايدة من تأثير هجمات الحوثيين على السفن المارة في البحر الأحمر على التجارة الدولية.

وعلاوة على ذلك، فإن ارتفاع عدد الضحايا الفلسطينيين، خصوصًا من الأطفال والنساء، باتت تكلفته الشعبية ومن ثم الانتخابية، فادحة خصوصًا في أمريكا وبريطانيا، حسبما تشير استطلاعات الرأي.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، أشارت مجلة “النيوزويك” الأمريكية، إلى أن البيت الأبيض يضع استراتيجية وطنية لمحاربة الإسلاموفوبيا، في وقت تتراجع فيه شعبية الرئيس جو بايدن بين الأمريكيين المسلمين، لدعمه القوي لإسرائيل.

ويقول البيت الأبيض إن مجلس السياسة الداخلية ومجلس الأمن القومي، يعكفان حاليًا على وضع الاستراتيجية الجديدة، بالتعاون مع أصحاب المصلحة، بهدف حماية المسلمين من التمييز، أو التعرض للكراهية والتعصب والعنف.

وهناك دلائل متزايدة على أن صبر الولايات المتحدة تجاه النهج الإسرائيلي الحالي بدأ ينفد.

ونقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” يوم الخميس، 7 ديسمبر، عن أحد كبار الأمريكيين قوله “إننا جميعًا ندرك أنه كلما طال أمد هذه الحرب أصبحت أكثر صعوبة على الجميع”.

وقبل أيام، خطف وزير الدفاع الأمريكي الأنظار بتصريحاته الإعلامية بشأن ما أسماه “الهزيمة الاستراتيجية” لإسرائيل في غزة.

ورغم أن وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن أكد أن الدعم الأمريكي لإسرائيل “غير قابل للتفاوض”، ولكنه شدد أيضًا على أن حماية المدنيين في غزة، أمر بالغ الأهمية لنجاح إسرائيل على المدى الطويل ضد “حماس”.

وأضاف وزير الدفاع الأمريكي: “كما ترون، في هذا النوع من القتال، فإن مركز الثقل هو السكان المدنيين، وإذا دفعتهم إلى أحضان العدو (حماس)، فإنك تستبدل النصر التكتيكي بهزيمة استراتيجية”.

وتتفق تعليقات أوستن مع تصريحات كمالا هاريس نائب الرئيس الأمريكي، التي قالت إن “عددًا كبيرًا جدًا من الفلسطينيين الأبرياء قتلوا”.

الصمود الأسطوري

وفي هذا السياق يمكن فهم تصريح الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش الأول من نوعه منذ 41 عامًا، باللجوء إلى المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، لتسريع إجراءات مجلس الأمن بشأن الحرب في غزة، التي تخوله “لفت انتباه مجلس الأمن إلى أي مسألة يرى أنها قد تهدد حماية السلم والأمن الدوليين”.

ولكن الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني أمام آلة الحرب الصهيونية المدعومة أمريكيًا وأوروبيًا، لم ينجح فقط في إحداث ثغرة في جدار الإدارة الأمريكية، ولكنه سمح بنمو وعي أكثر راديكالية وجذرية وسط الفئة الثانية من المنتقدين من الشباب والنقابيين والسياسيين، بل ووسط اليهود أنفسهم.

وفي واشنطن قال رئيس نقابة العاملين في البريد الأمريكي، وهي أكبر نقابة في الولايات المتحدة الأمريكية، مارك ديموندستين في بيان له نُشر على مواقع إعلامية: “أنا كرئيس اتحاد نقابي، أقف مع الإنسانية في الدعوة إلى وقف إطلاق النار، إنني أقود اتحادًا يدافع عن المساواة والسلام والتضامن الدولي والعدالة الاجتماعية، ولهذا السبب أنضم إلى الآلاف في الدعوة إلى وقف إطلاق النار في غزة”.

وذكر في بيانه أنه فخور بنشأته كأمريكي يهودي، ويواجه نصيبه من معاداة السامية، ولكن ذلك لا يجعله مؤيدًا للصهيونية، “الحركة الاستيطانية” المكرسة لإنشاء “وطن” يهودي والحفاظ عليه من خلال احتلال فلسطين.

وأضاف: “إن مأساة تاريخية واحدة لا تبرر أخرى، لقد تم إنشاء إسرائيل على حساب الفلسطينيين، الذين طُردوا بعنف من منازلهم، وأُجبروا على العيش في مخيمات اللاجئين الفقيرة، ومُنعوا من حق العودة، وعانوا على مدى أجيال من الصدمات والإهانة واعتداءات المستعمرين والإساءات التي فرضتها سياسات الفصل العنصري”.

بينما أعلن الاتحاد الدولي للعاملين بصناعة السيارات والفضاء والخدمة الزراعية، انضمامه للدعوة للوقف الفوري والدائم لإطلاق النار في فلسطين، وهو أكبر اتحاد عمالي أمريكي ينضم للدعوة حتى الآن، وله فروع في الولايات المتحدة وكندا وكوستاريكا ويمثل 400 ألف عامل و580 ألف متقاعد، وبذلك ينضم لاتحاد عمال البريد الأمريكي واتحاد ممرضي كاليفورنيا واتحاد مدرسي شيكاغو.

ومنذ العملية المبهرة لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” في السابع من أكتوبر الماضي، اعتمدت الدولة الإسرائيلية ومؤيدوها الاستعماريون على حجتين رئيسيتين، وكلتيهما تضعف بالتدريج.

أحد الادعاءات، هو أنه لكي تفهم ما يحدث في غزة الآن، فليس عليك سوى أن تتأمل ما جرى في هجمات 7 أكتوبر، وبحسب هذه الرواية، يتم تفسير هجوم “حماس” على أنه عملية “وحشية وغير إنسانية”، وبالتالي لا بد من الرد الحاسم عليها.

والثاني هو أن حجم القتل في غزة قد يكون مؤسفًا، ولكن الضحايا من الفلسطينيين ليس لهم أهمية القتلى الإسرائيليين ومرتبتهم.

السياق التاريخي

وأحد المكاسب العظيمة، التي تحققت خلال الشهرين الأخيرين من المقاومة المسلحة والشعبية والإعلامية، هو أن قطاعات متزايدة من النشطاء باتوا يضعون ما جرى يوم 7 أكتوبر، في السياق التاريخي للقضية الفلسطينية التي بدأت عام 1948 عندما ولدت إسرائيل وسط عاصفة من العنف الاستعماري والعنصري.

فإسرائيل، حسب آراء عدد متزايد من نشطاء قافلة ضمير العالم، التي زحفت للقاهرة أملًا في فك الحصار على غزة، والتقينا ببعضهم، لم تقم سوى عبر استخدام القتل والترهيب والعنف، الذي أدى إلى طرد ما يقرب من مليون فلسطيني من منازلهم قبل 75 عامًا، أو كما قالوا “نفس القتلة.. وطريقة القتل واحدة، والنكبة ذاتها، تطل علينا وتذكرنا أنها مستمرة بصوة أبشع”.

وتابع النشطاء، الذين أتوا من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وأستراليا وكندا وألمانيا، كما أن “دعم سياسيينا الأمريكيين والبريطانيين لجرائم الحرب الإسرائيلية ليس بالأمر الجديد”.

وهم محقون في ذلك تمامًا، ففي عام 1948 وكذلك في عام 1967، عندما استولت إسرائيل على القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة، قدمت القوى الغربية دعمًا حيويًا لتل أبيب، وهو ما يؤكد العلاقة العضوية بين الاستعمار والصهيونية.

وتسعى الطبقات الحاكمة إلى محو هذا التاريخ لأن صداه يتردد بقوة اليوم، فإسرائيل تكرر عمليات التطهير العرقي، التي نظمتها عام 1948 مدعومة بدعوات الإبادة الجماعية، وهذا ما تفعله الدول الاستعمارية الاستيطانية.

ولا تذكر وسائل الإعلام العالمية قراءها بهذه الجرائم، لكن إسرائيل فعلت ذلك، أمام شاشات التلفاز، مما أدى إلى خلق معارضة واسعة النطاق في جميع أنحاء العالم.

معركة التحرير

ويدرك معظم الذين خرجوا إلى الشوارع أنه على الرغم من أهمية تفاصيل الهدنة ووقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، إلا أن هناك معركة أعمق، هي معركة تحرير فلسطين.

وتتحدى حركة التضامن أيضًا الحجة الثانية حول الحط من شأن الفلسطينيين ونزع صفة الإنسانية عنهم، فالوفيات في غزة ليست مجرد “أضرار جانبية”.

وشاهدنا مؤخرًا طوفانًا من البيانات والمظاهرات، بل والإضرابات ومحاصرة السفن المزودة بالأسلحة، التي تؤكد جميعها حقيقة واحدة وهي أن حياة الفلسطيني لا تقل أهمية عن حياة أي شخص آخر، وأن تعمد قتل الأطفال والنساء، هي جريمة لا يمكن تبريرها.

ومع انهيار حجج الصهاينة، يضطر أنصار إسرائيل إلى استدعاء الاتهام الجاهز، بأن أولئك الذين يدعمون الفلسطينيين، هم معادون للسامية.

وما زال هذا الاتهام ملجأ مؤيدي إسرائيل، الذين يعرفون أنهم يخسرون، معركة الوعي، فكونك ضد الصهيونية، لا يعني أبدًا عداءك للسامية.

وبالمثل فإن المطالبة بتحرير فلسطين “من النهر إلى البحر” لا يؤدي إلى رمي اليهود في البحر، بل إلى إنهاء الفصل العنصري وإنشاء دولة ديمقراطية واحدة.

في حين تجادل قطاعات من اليسار الراديكالي، في فرنسا على سبيل المثال، بزعامة جان لوك ميلينشون، الزعيم المخضرم لحزب “فرنسا الأبية بضرورة هدم النظام الإمبريالي الذي خلق إسرائيل، مشيرًا إلى “أن النضال من أجل إسقاط دولة الفصل العنصري يجب أن يتضمن مناهضة الرأسمالية، والعكس صحيح أيضًا”.

بينما رفض إنريكي سانتياغو، الأمين العام للحزب الشيوعي الإسباني ونائب البرلمان عن تحالف سومار اليساري، الذي توصل إلى اتفاق مع القائم بأعمال رئيس الوزراء، الزعيم الاشتراكي بيدرو سانشيز، لتشكيل حكومة ائتلافية جديدة، رفض وصف “حماس” بالإرهابية وأصر على حق الفلسطينيين المحتلين، في الدفاع عن النفس.

وكتب سانتياغو: “لا يوجد قانون دولي واحد لأوكرانيا وآخر لفلسطين”. “إن حق الأشخاص الذين يحتلون بشكل غير قانوني في الدفاع عن أنفسهم لا ينتهي إلا عندما يحصلون على استقلالهم، وعلى المجتمع الدولي أن يجبر إسرائيل على الانصياع لقرارات الأمم المتحدة واحترام فلسطين.

 

المصدر : الجزيرة مباشر