خطر الذكاء الاصطناعي.. هنري كيسنجر يتحدث بعد موته!

لوحة زيتية لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر (رويترز)

 

في فبراير/شباط الماضي، جلس “هنري كيسنجر” السياسي الأمريكي الأشهر في القرن العشرين متكئًا على عصاه وجسده الذي جاوز قرنا من الزمان بين اثنين من رجال عالم التكنولوجيا، ليطلب من برنامج (Chat GPT) أن يكتب مقالًا قصيرًا عن دور تقنيات الذكاء الاصطناعي في مراقبة سباق التسلح في العالم، على أن يكون المقال مستوحى من أفكار وأسلوب “كيسنجر” نفسه الذي أتم مئة عام في نهاية مايو/أيار الماضي.

ويُستخدَم تطبيق “شات جي بي تي” لإنشاء نصوص وصور وفيديوهات باستخدام هندسة البرمجيات، بعد تغذيته بكم هائل من المعلومات والبيانات والآراء السابقة، وقد صُنّف بأنه التطبيق الأسرع انتشارًا في التاريخ التكنولوجي، فبعد شهرين فقط من إطلاق “روبوت الدردشة” الشهير قبل عام، وصل عدد المستخدمين إلى 100 مليون، بمعدل 13 مليون زائر يوميًّا، وقد كان هذا مفاجئًا للمستثمرين والمستهلكين على حد سواء.

وفي عام 2021، شارك “هنري كيسنجر” مع “إيريك شميدت” المدير التنفيذي السابق في شركة “غوغل”، و”دانيال هوتيلوشر” عميد كلية الحوسبة بمعهد “ماساتشوستس” الأمريكي للتكنولوجيا في تأليف كتاب (عصر الذكاء الاصطناعي ومستقبلنا البشري).

وقبل شهرين، كانت آخر إسهامات “كيسنجر” المكتوبة حيث نشر مقالًا مشتركًا في مجلة “فورين أفيرز” مع عالم السياسة “غراهام أليسون” بعنوان (التحكم في سلاح الذكاء الاصطناعي) وفيه قدَّم نصائحه للولايات المتحدة والصين بالعمل معًا في هذا المجال من أجل تجنب ما عَدَّه “كارثة”.

ويرى “كيسنجر” الذكاء الاصطناعي خطرًا محدقًا بالبشرية تمامًا كالسلاح النووي ما لم يتم التحكم فيه، لكنه رأى أن الذكاء الاصطناعي ربما يكون أخطر على البشرية من “النووي”، بسبب أن التكنولوجيا الجديدة تتطور بعيدًا عن أيدي الحكومات، ويتحكم فيها رجال الأعمال والفنيون والشركات التي تنفق ببذخ على أبحاث الذكاء الاصطناعي وتطويره.

ما بين النووي والاصطناعي

وفي شرحه فرَّق “كيسنجر” بين الأسلحة النووية والذكاء الاصطناعي، فالأولى تتطلب بنية تحتية معقدة ومراحل متشابكة من تخصيب اليورانيوم إلى تصميم وصناعة الرؤوس الحربية، والتدريب على استخدامها، ويتطلب هذا كله وقتًا، بينما يتطور الذكاء الاصطناعي رقميًّا عبر المختصين الجالسين أمام أجهزة الحاسب الآلي فقط.

وألمح كيسنجر، الذي اشتُهر بقيادة مفاوضات طويلة عبر رحلات مكوكية بين مصر وإسرائيل وبين بلاده والصين، إلى أن انتشار الذكاء الاصطناعي وتطوره السريع لا تناسبه جلسات التفاوض الطويلة التي تتم لنزع السلاح النووي، وهذا معناه أن الخطر الذي يمثله الذكاء الاصطناعي يتطلب سرعة في اتخاذ قرارات لتجنب الصراع بعيدًا عن المفاوضات البطيئة. وطالب كيسنجر وزميله في المقال بفرض قيود على الذكاء الاصطناعي قبل دمجه في البنية الأمنية لكل مجتمع.

ورأى كيسنجر في آخر مقابلة مع صحيفة “دي فيلت” الألمانية أن الذكاء الصناعي أكبر تحد أمام الإنسانية، لأن الآلات التي قد تخرج عن التحكم البشري فيها يمكن أن تحدد أهدافها الخاصة وأن تحل محل البشر خلال خمس سنوات.

ويشترك “هنري كيسنجر” وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 1973 و1977 مع “أنتوني بلينكن” وزير الخارجية الأمريكي الحالي في أن دينهما اليهودية، ومع أن انحياز “كيسنجر” للدولة العبرية لا يحتاج إلى دليل فإنه في جولات التوسط بين مصر وإسرائيل من أجل إحلال السلام في الشرق الأوسط لم يقدّم الوزير المحنك نفسه أبدًا بكونه يهوديًّا، بل كان يقدّم نفسه دائمًا بأنه رجل “براغماتي” يؤمن بالأمر الواقع، ويحاول فرضه عبر استهلاك الوقت في مفاوضات تنشغل بالتفاصيل أكثر من التركيز على جوهر القضية حتى يهدأ الصراع ويجد طريقًا إلى الحل بعد مدة طويلة.

وعلى عكس “كيسنجر” الذي كان منتميًا إلى الحزب الجمهوري المعروف بآرائه المحافظة، فإن “بلينكن” أحد وزراء الحزب الديمقراطي عندما زار إسرائيل أول مرة عقب اندلاع الحرب على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حرص على تقديم نفسه في مؤتمر صحفي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” بأنه يهودي يساند إسرائيل فيما وصفه بـ”حقها المطلق في الدفاع عن النفس”.

وخلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني المنقضي، أعلنت مجموعة من “القراصنة الإلكترونيين” تطلق على نفسها اسم “أنونيموس سودان” مسؤوليتها عن هجوم سيبراني ضد برنامج “شات جي بي تي” الذي طورته شركة “open Ai” وقد تعرضت المنصة الشهيرة لانقطاعات مستمرة لكن الشركة أعلنت أن الضغط الناجم عن استخدام المزايا الجديدة هو السبب في توقف الخدمة أو تقطعها، لكن المخترقين قالوا في بيان إن السبب هو ما وصفوه بتحيز منصة الدردشة العالمية لإسرائيل ضد فلسطين.

الحق في الحياة بحرّية

وقبل أسبوعين طرح صحفيون في موقع “يورو نيوز” سؤالًا على موقع “شات جي بي تي” عن حق الإسرائيليين والفلسطينيين في الحياة بحرّية، ومع أن السؤال كان موحدًا، فإن الإجابة كانت مختلفة، فعندما سئل تطبيق الدردشة العالمي: هل يستحق الإسرائيليون العيش بحرّية؟ كان الذكاء الاصطناعي واضحًا، إذ أجاب “نعم، كما هو الحال مع أي شعب آخر، يستحق الإسرائيليون أيضًا أن يكونوا أحرارًا. إن إسرائيل دولة ذات سيادة، وسكان متنوعين، ويتمتع شعبها بحقوق الإنسان الأساسية نفسها التي يتمتع بها أي شعب آخر في جميع أنحاء العالم، وتشمل هذه الحقوق الحق في تقرير المصير والحرية والأمن”.

أما في رده على سؤال: هل يستحق الفلسطينيون العيش بحرّية؟ كانت الإجابة ملتوية، ومنها “إن مسألة ما إذا كان الفلسطينيون يستحقون أن يكونوا أحرارًا هي مسألة منظور أخلاقي وسياسي، ولدى الأشخاص والمنظمات المختلفة آراء متباينة حول هذه القضية”.

وعن الحرب التي اندلعت بين الفصائل الفلسطينية والكيان الصهيوني في أكتوبر الماضي، قال كيسنجر إن وقف إطلاق النار السريع أمر مستحيل، وفي مقابلته مع قناة “فيلت” التلفزيونية الألمانية قال “لا يمكنني تصور محادثات السلام إذا تمكن الإرهابيون من الظهور علانية واحتجاز الرهائن وقتل الناس”.

وردًّا على سؤال عن شعوره تجاه احتفال العرب بهجوم حماس في شوارع برلين، من خلال توزيع الحلوى، أجاب كيسنجر الألماني الأصل بأنه لا يوجه اللوم إلى الشعب الألماني، لكنه استنكر السماح لعدد كبير جدًّا من الأجانب بدخول البلاد من ثقافات وأديان ومفاهيم مختلفة تمامًا، وقال إنه خطأ فادح لأنه يخلق مجموعة ضغط داخل كل دولة تفعل ذلك، في إشارة إلى دول أوروبا، وأضاف كيسنجر “العمل العدواني الصريح الذي تقوم به الفصائل الفلسطينية ضد إسرائيل يجب أن يُواجَه ببعض العقوبات”.

في مقابلته الأخيرة مع صحيفة “بوليتيكو” الأمريكية، قال كيسنجر “حل الدولتين لا يضمن أن ما رأيناه في الأسابيع الأخيرة لن يتكرر مرة أخرى”، ورأى أنه ينبغي تسليم الضفة الغربية إلى السيطرة الأردنية بدلًا من السعي إلى حل الدولتين الذي ستسعى بمقتضاه الدولة الفلسطينية وستصمم على سحق إسرائيل.

وقد تعرَّض كيسنجر على مر السنين لانتقادات لاذعة بسبب السياسة الأمريكية تجاه دول عدة، ودعم واشنطن للأنظمة القمعية في العالم لتحقيق المصالح الأمريكية مع تجاهل ملف حقوق الإنسان.

لكن كيسنجر لم يكن يبالي بالانتقادات، وقال ذات مرة “الدولة التي تطالب بالكمال الأخلاقي في سياستها الخارجية لن تحقق لا الكمال ولا الأمن”. وفي عام 1973، حصل على جائزة نوبل للسلام مع “لو دوك ثو” من فيتنام الشمالية، الذي رفض قبولها، وأدى منح الجائزة للسياسي المثير للجدل إلى استقالة اثنين من أعضاء لجنة “نوبل”.

سبنسر أكرمان الصحفي الأمريكي المتخصص في الأمن القومي والحاصل على جائزة “بوليتزر” قال عن كيسنجر “إن عار مهندس السياسة الخارجية لنيكسون سيظل إلى الأبد، إلى جانب أسوأ القتلة الجماعيين في التاريخ”، وذلك بسبب أن فترة توليه وزارة الخارجية شهدت مقتل أكثر من أربعة ملايين في دول عدة كان لبلاده دور كبير في تأجيج الصراعات فيها.

عاش قرنًا وأثار جدلًا

“كيسنجر” الذي وُلد في ألمانيا لأسرة يهودية، وهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في الحقبة النازية، وحصل على الدكتوراه من جامعة هارفارد العريقة، كتب مقالًا مشتركًا مع “إيريك شميدت” المدير التنفيذي السابق في شركة “غوغل”، و”دانيال هوتيلوشر” عميد كلية الحوسبة بمعهد “ماساتشوستس” الأمريكي للتكنولوجيا، ونشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” تضمَّن تجربة عملية لمحادثة قام بها الثلاثة مع برنامج (Chat GPT)، وتضمنت طلب “كيسنجر” من البرنامج المستحدث أن يحاكي أسلوبه في الكتابة، وجلس الرجل العجوز مبتسماً دون أن يعلق وهو يقرأ على الشاشة تقمص أسلوبه في الكتابة باستخدام الذكاء الاصطناعي.

وفي 29 نوفمبر، أُعلنت وفاة السياسي الذي عاش قرنًا وأثار الجدل حوله سواء كان في السلطة بسياساته أو خارجها بآرائه، ومع أن تعليقاته بشأن ما يجري في غزة تجاهلت الثمن البشري الفادح والكارثي الذي يدفعه الفلسطينيون، فإن تطبيق “شات جي بي تي” الذي كتب مقالًا بأسلوب كيسنجر في حضوره يمكنه الآن أن يكتب لنا بعد موته مقالًا عن رأي الرجل الحاصل على جائزة نوبل في قتل إسرائيل لأكثر من 16 ألف فلسطيني، بينما وصل عدد المصابين إلى نحو 44 ألفًا، والمفقودين تحت الأنقاض إلى أكثر من ثمانية آلاف، حسب إحصاء وزارة الصحة في غزة حتى الخامس من ديسمبر/كانون الأول الجاري.

الذكاء الاصطناعي خطر كما كان يعتقد كيسنجر، لكن آراءه عن الفلسطينيين خطر أكبر، ومن المؤكد أن التطبيق الواسع الانتشار لن يستطيع استحداث ما لم يقله كيسنجر الذي يَعُده كثيرون مجرم حرب، ومن المؤكد أن حق الإنسان الفلسطيني -وكذلك حياته- لن يكون له مكان في رأي كيسنجر بعد موته تمامًا كما كان في حياته.

المصدر : الجزيرة مباشر