الهدف كان قطع شرايين غزة

معبر رفح (الفرنسية)

ظهر قطاع غزة على المسرح السياسي الدولي بعد الإعلان عن قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي على أراضي دولة فلسطين سنة 1948. وظل القطاع وشبه جزيرة سيناء كيانا جغرافيا وإداريا واحدا تحكمه الدولة المصرية حتى هزيمة سنة 1967 واحتلال إسرائيل سيناء كاملة وقطاع غزة. بعدها انتقلت إدارة القطاع وسيناء من مصر إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي حتى سنة 1982. وظلت رفح طوال 34 سنة مدينة واحدة وموحدة، جغرافيا وتاريخيا وديموغرافيا. وبعد إبرام معاهدة السلام الإسرائيلية المصرية سنة 1979، تم تقسيم مدينة رفح جغرافيا وديموغرافيا إلى مدينتين منفصلتين بحدود دولية في سنة 1982، هما رفح المصرية ورفح الفلسطينية.

وانشطرت العائلات بين المدينتين، وقسمت البيوت على جانبي الخط الفاصل إلى شطرين أيضا. في بعض البيوت، وقعت غرفة المعيشة في الجانب الفلسطيني، وغرفة الاستقبال في الجانب المصري. وفي بيوت أخرى وقع العكس. وظل الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في شمال سيناء وقطاع غزة مضطربًا في معظم الأحوال، ولا يزال في حالة اضطراب مستمر. وفي ظل هذه الظروف السياسية المضطربة، أنشئ معبر رفح ليكون بوابة لعبور الفلسطينيين من رفح الفلسطينية إلى شقيقتها المصرية ثم إلى سيناء. وخضع المعبر لسلطة هيئة المطارات الإسرائيلية، وظل مغلقا معظم الوقت.

حصار كامل لقطاع غزة

بعد التوقيع على اتفاقية السلام مع مصر والانسحاب من سيناء، فتحت إسرائيل معبر رفح ليصل من جديد قطاع غزة بمصر في 25 إبريل/نيسان 1982، ووضعته تحت إدارة سلطة المطارات الإسرائيلية، وبقي مفتوحًا دون توقف على مر الساعة طوال العام تقريبًا، ما عدا يوم الغفران وعيد الأضحى. وفي عام 1994 وقعت إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية القاهرة، وهي المرحلة الأولى من اتفاق أوسلو. وقد قضت الاتفاقية بإخضاع معبر رفح لسيطرة إسرائيلية وفلسطينية مشتركة، واحتفظت إسرائيل بالمسؤولية الأمنية المطلقة وبالتحقيق مع المسافرين أو إلقاء القبض عليهم.

وفُتِح معبر رفح لعبور الأفراد والبضائع المستوردة، وكانت تدخله كل شهر مئات من الشاحنات في طريقها إلى قطاع غزة محملة بمواد البناء، والسلع الغذائية، والملابس، والأدوية، والأجهزة الكهربائية، وغيرها من البضائع القادمة من مختلف الدول. وبقي الوضع حتى اندلاع الانتفاضة الثانية في أواخر سبتمبر/أيلول 2000، إذ أغلقت إسرائيل المعبر وأوقفت دخول البضائع، ومنعت سكان القطاع من السفر إلى الخارج من المعابر الأخرى إلى إسرائيل والضفة الغربية. وبالتزامن مع ذلك، شاركت مصر في الحصار وشددت شروط دخول الفلسطينيين إلى أراضيها.

وفي 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2005، وقعت إسرائيل والسلطة الفلسطينية، بوساطة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبموافقة مصرية ضمنية، اتفاقًا ينظم تشغيل معبر رفح، عرف فيما بعد باتفاق المعابر. وطبقًا لنص الاتفاق، تقوم السلطة الفلسطينية بتشغيل معبر رفح من جهتها تحت إشراف قوة تابعة للاتحاد الأوروبي، ومصر من جهتها، بما يتماشى مع المعايير الدولية. وحظر الاتفاق دخول البضائع المستوردة إلى القطاع من معبر رفح، وقصرها على معبر كرم أبو سالم الواقع في الأراضي المحتلة والخاضع لسيطرة إسرائيل المباشرة.

وفي ظل التضييق المستمر، اضطر سكان مدينة رفح إلى إنشاء معابر بديلة تحت الأرض لتصل بين شطري المدينة على جانبي الشريط الحدودي، المصري والفلسطيني. وقامت بعض العائلات المقيمة على طرفي السياج الفاصل بحفر أنفاق بدائية لا تزيد أقطارها عن 50 سنتيمترا، لأغراض التزاور وتهريب البضائع والسلع التموينية، ثم السلاح الخفيف.

وعقب سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في يونيو/حزيران 2007، فرضت إسرائيل حصارا مطبقا على القطاع، وأغلقت معبر رفح، وقصرت مرور السلع على تلك التي تعتبرها “مهمة للحفاظ على حياة السكان” مثل المواد الغذائية الأولية. وفرضت القيود على أعلاف الحيوانات، والأدوية والمعدات الطبية، ومواد النظافة، والمعدات الزراعية، ومواد البناء، والوقود، وهو ما أدى إلى أزمة في المساكن والمواصلات، وقطعت الكهرباء لفترات طويلة، ولحق الضرر بالخدمة الصحية، وزادت نسبة البطالة إلى 60%، والفقر إلى 80%، حتى أصبح 4 من بين كل 5 أفراد يتلقون مساعدات مالية.

الأنفاق شرايين حياة غزة

نتيجة للحصار الجائر، عملت الأنفاق بقوة، وتحولت إلى شرايين حياة للسكان في قطاع غزة، وممر لكل السلع تقريبًا، العملة، والأغذية، والأدوية، والأجهزة الكهربائية، والسيارات، والأسلحة، والوقود، وكل شيء كان ينقل من مصر إلى غزة عبر الأنفاق. وأصبحت رفح عاصمة الأنفاق الحدودية، وزاد عددها حتى وصل عام 2009 إلى مئات. كما وصل عدد العاملين في تشغيل الأنفاق حوالي 6000 شخص، وفق تقدير جمعية مسلك للحرية في التنقل الإسرائيلية.

وكانت الأنفاق تعمل 24 ساعة في اليوم، سبعة أيام في الأسبوع. وبفضل الأنفاق، انخفضت أسعار السلع جميعا، فعلى سبيل المثال انخفض الإسمنت التركي -حيث يتجاهل سكان غزة الإسمنت المصري ذا الجودة المنخفضة- من حوالي 1000 دولار للطن في ذروة عمليات الإغلاق منتصف عام 2008 إلى 100 دولار في 2010.

الأنفاق وفرت كذلك منفذًا للصادرات التي تمنعها إسرائيل من مغادرة غزة، حتى إلى أشقائهم الفلسطينيين في الضفة الغربية. وأتاحت الوصول إلى الأسواق في جنوب وشمال إفريقيا. فتعود عربات الأنفاق التي تنقل الإسمنت والحديد إلى غزة محملة بالبضائع والركاب الممنوعين من السفر عبر معبر رفح. وبحلول 2011، كانت الأنفاق تجلب بضائع بقيمة 700 مليون دولار سنويا، بما في ذلك 800 ألف لتر من الوقود، و3 آلاف طن من حصى البناء، و500 طن من أسياخ الحديد، و3 آلاف طن من الإسمنت يوميا. ولم يكن العمل في الأنفاق ترفا، بل كان صراعا من أجل البقاء، حيث يشكل تشغيل الأنفاق خطرًا حقيقيا على العاملين فيها. إذ قتل نحو 150 فلسطينيًّا وجرح العشرات في سنة ونصف جراء انهيار الأنفاق، وتسرب الوقود واشتعال النار فيها، وانفجار عبوات الغاز والصعق بالكهرباء.

وكذا لعبت الأنفاق دورا محوريا في تسليح المقاومة. ذكر جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) في مراجعة سنوية عام 2012، أن مئات من الأسلحة النوعية بما في ذلك الصواريخ البعيدة المدى، والمضادة للدبابات، تم تهريبها من السودان وليبيا إلى غزة عبر سيناء. لذلك ضغطت الولايات المتحدة على الرئيس المخلوع حسني مبارك لهدم الأنفاق وإخلاء شريط عرضه 150 مترًا من الأرض، وتشييد جدار حديدي بعمق 18 مترًا تحت الأرض بطول الحدود مع القطاع، لكن الاحتجاجات أرغمته على التخلي عن الخطة قبل الشروع فيها.

أخبرني أحد المسؤولين السابقين، أن حسني مبارك شارك في حصار غزة، بإغلاق معبر رفح معظم أيام السنة، رفضًا لسلطة حماس لعلاقتها الأيديولوجية بجماعة الإخوان المسلمين المعارضة لنظامه، لكنه أبقى على عدد كبير من الأنفاق، وغض الطرف عن تهريب البضائع والأسلحة إلى غزة بعلم المخابرات العامة كورقة سياسية في يده. وبعد ثورة يناير، خفف المجلس العسكري القبضة على حركة المسافرين خلال معبر رفح، ولكنه تشدد في عبور البضائع، وأخذ خطوات لتدمير الأنفاق لتحقيق مصالح إسرائيل. ذلك أن قائد القوة المتعددة الجنسيات المتمركزة في سيناء زعم في مايو/أيار 2012، أن صواريخ أرض جو روسية الصنع من طراز “إس إيه-24” يجري تهريبها من ليبيا إلى غزة عبر سيناء.

ومنذ اليوم الأول له في الحكم، شرع الرئيس محمد مرسي في إنهاء الحصار التاريخي على غزة، وتيسرت حركة المسافرين والبضائع عبر معبر رفح. وبعد مقتل 16 جنديا في سيناء في أغسطس/آب سنة 2012، شرع الجيش في هدم عدد محدود من الأنفاق ثم توقف. وليس سرًّا أن كل أنواع البضائع دخلت إلى غزة في سنة حكم مرسي، بما فيها الأسلحة الخفيفة والثقيلة.

الهدف كان قطع شرايين غزة

بعد ساعات من الانقلاب على الرئيس الراحل محمد مرسي، أغلق النظام المصري معبر رفح تماما أمام المسافرين والبضائع، وبدأ تنفيذ خطة لهدم الأنفاق في رفح بحجة منع تهريب الأسلحة من غزة إلى المسلحين في سيناء. وثقت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير بعنوان “ابحثوا عن وطن آخر، عمليات الإخلاء القسرية في رفح المصرية” وبدأت في شهر يوليو/تموز سنة 2013 خطة لتدمير الأنفاق بين رفح المصرية والفلسطينية، وهدم المباني المحاذية للحدود المصرية مع قطاع غزة، لإنشاء “منطقة عازلة” بطول الحدود مع غزة، وبعمق 5 أو 7 كيلومترات داخل سيناء وعلى مساحة 75 كيلومترا مربعا.

بقي أن نثبت أن الخاسر الأكبر من تدمير رفح المصرية، الأنفاق والمدينة، هو مصر التي فقدت مدينة بسكانها وبيوتها ومزارعها. وكذلك قطاع غزة، الذي يواجه سكانه عدوانا إسرائيليا همجيا، وقصفا وحشيا وحصارا غير قانوني ولا إنساني، وحرمانا من الغذاء والماء والدواء والوقود والكهرباء والملابس الضرورية لمواجهة برد الشتاء، وكانت الأنفاق السبيل الوحيد للحصول عليها. حتى بعد سماح إسرائيل بدخول المساعدات الإنسانية، إذ لا يشكل ما دخل من تلك المساعدات خلال 34 يوما سوى نقطة في بحر من احتياجات 2.3 مليون نسمة. وما كان لإسرائيل أن تطبق هذا الحصار الكامل لولا تدمير أنفاق رفح بخطة ممنهجة، ربما من أجل هذه اللحظة الفارقة في تاريخ الصراع التاريخي ضد دولة الاحتلال.

المصدر : الجزيرة مباشر