كيف تلاعبت إسرائيل بالحكومات الإفريقية؟

قادة جيوش دول غرب إفريقيا (الفرنسية)

لو حاولنا فرز وتصنيف ردود الأفعال العالمية إزاء المجازر البشعة التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، ربما نفاجأ بأن الموقف الإفريقي كان في غاية الضعف والهوان، وذلك مع وجود دول عربية داخل تلك المنظومة، فلم تزعجهم، لا على مستوى الاتحاد الإفريقي أو الكيانات الإقليمية، تلك الجرائم والتصريحات العنصرية، بصورتها التي تبعث لدى الشعوب الإفريقية ذكريات مؤلمة عن الاستعمار وسياسات الفصل العنصري، فهل حقنت إسرائيل الشريان الإفريقي بجرثومة التطبيع، أم إن الأزمة تتعلق بالحكومات لا الشعوب؟

القوة الشيطانية

في الآونة الأخيرة تطورت علاقات إسرائيل الدبلوماسية والاقتصادية وكذلك الأمنية مع الدول الإفريقية، وعلى وجه الدقة مع الرؤساء الذين يبحثون عن قوة شيطانية تمكنهم من البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة، كما هو الحال في أوغندا وتشاد وإرتريا وتونس وإثيوبيا ورواندا.

وهي دول تسيطر عليها ديكتاتورية وجدت فيها تل أبيب ضالتها، وخدعتها بأنها الضامن الوحيد لطموحاتها غير المشروعة، في حين تسلل جهاز “الموساد” من الأبواب الخلفية، واختلق الأزمات والحروب الأهلية، ونفذ عمليات تدجين واغتيالات وسط قادة المعارضة، أو قام بالتضييق على الشخصيات والكيانات المؤثرة التي وقفت ضد مشروعات التطبيع، بل وصلت الجرأة بإسرائيل أنها ساعدت في تنفيذ محاولات انقلابات عسكرية، لتمكين مجموعة عرقية بعينها، كما جرى في السودان، ولا يخفى بالطبع علاقة إسرائيل بقوات الدعم السريع، والزيارات التي قام بها عبد الرحيم دقلو شقيق حميدتي إلى تل أبيب، أكثر من مرة، للحصول على التكنولوجيا العسكرية، ولم تشفع لقائد الجيش السوداني الفريق البرهان هرولته إلى عناق بنيامين نتنياهو في أوغندا، ومحاولة الدخول في الحلف الإبراهيمي المزعوم، وقد خدعت إسرائيل البرهان، عندما عقدت معه صفقة مقايضة خاسرة، التطبيع مقابل رفع العقوبات الأمريكية عن السودان، رغم أن الخرطوم سددت فواتير تلك العقوبات مباشرة إلى الخزينة الأمريكية، ودفعت تعويضات مالية للتكفير عن جرائم لا علاقة للسودانيين بها.

خلق الأزمات وضبطها

تسعى إسرائيل لتوطيد علاقتها بالقارة الإفريقية من منطلقات ضيقة، ومصالح تخصها هى وحدها، فهى لا تؤمن بالمصالح المتكافئة، وفي سبيل ذلك تقوم بخلق الأزمات وضبطها، وتوهمهم بأنها دولة خارقة تملك عصا موسى، ولم يعد خافيًا أنها ضالعة في دعم وتشجيع الحركات المسلحة في بلدان إفريقية عديدة، وصناعة الفوضى والحروب الأهلية، وفي الوقت نفسه تعمل على استغلال علاقاتها بالغرب لتوفير الأسلحة المحظورة إلى مناطق النزاعات الأهلية، دون أن تطالها يد العقوبات، وقد بدأ ذلك جليًّا في إثيوبيا والسودان، وبصورة أدق من خلال علاقات إسرائيل مع النظام العنصري في جنوب إفريقيا، حيث عملت على اختراق العزلة الدولية التي فُرضت على نظام الفصل العنصري حينها، مقابل الحصول على الماس والذهب.

لكن شعب جنوب إفريقيا الحر لم ينسَ تلك المآسي، أو بالأحرى لم يبع ضميره للاحتلال الصهيوني، لذلك وافق البرلمان الجنوب إفريقي بأغلبية الأصوات على تعليق العلاقات الدبلوماسية، وإغلاق سفارة تل أبيب في بريتوريا، وأجبر الحكومة على قطع العلاقات مع إسرائيل، والدفع بإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية، سعيًا إلى إجراء تحقيقات في جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل والتي ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، وهي جرائم بلا شك تُذكرهم بسنوات القمع والفصل العنصري المريرة، ويبدو أن إسرائيل أدركت أنها فقدت جنوب إفريقيا نهائيًّا، خاصة أن بريتوريا ستستضيف قمة افتراضية مع مجموعة البريكس لمناقشة الحرب الإسرائيلية على غزة، مطلع العام المقبل، وهذا بالضرورة سيقوض الجهود الإسرائيلية الأمريكية لاحتواء القرار الإفريقي.

مقعد لإسرائيل في إفريقيا

محاولات تل أبيب اختراق الجبهة الإفريقية أخذت منحى تصاعديًّا في سبتمبر/أيلول 2009، عندما زار وزير الخارجية الإسرائيلي السابق والزعيم اليميني المتطرف أفيغدور ليبرمان، إثيوبيا وكينيا وغانا ونيجيريا وأوغندا، وقام بالتوقيع على سلسلة من اتفاقيات التعاون السياسي والاقتصادي والتنموي، وأغرى ذلك الرضوخ من هذه الدول، إلى جانب المغرب ومصر، إسرائيل على المطالبة بمنحها مقعدًا داخل الاتحاد الإفريقي بصفة مراقب، وكادت قيادة الاتحاد الفاسدة تسمح بذلك، لولا الاعتراض الشديد من الجزائر وجنوب إفريقيا.

من المهم الإشارة إلى أن العلاقات الإسرائيلية الإفريقية تدهورت في أعقاب حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، لكن إسرائيل لم تتوقف عن الحفر، وعادت مرة أخرى لتغزو هذه المنطقة البكر، بهدف نهبها وتطويعها لخدمة مشروعها الاستيطاني، في وقت لم يعد للدول العربية داخل الاتحاد الإفريقي أي سطوة أو تأثير يُذكر، كما كان الحال في السابق، وأعني بتلك الدول مصر والسودان والجزائر والمغرب وتونس وليبيا، ما يعني أن ثمة مؤامرة خلفها تل أبيب، صنعت هذه الفجوة بين إفريقيا المسلمة والمسيحية، وجعلت من الدول العربية محض ضيوف على القمم الإفريقية، أو كالأيتام في الأعراس، وانفردت إسرائيل بقادة الاتحاد الإفريقي ونوابه، عبر الرشاوى أو التخويف أحيانًا، وجعلتهم تحت خدمتها، ولذلك كان صوتهم خجولًا إزاء الحرب على غزة، وقد اشترت صمت رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، عندما قدَّمت له مساعدات عسكرية قمع بها انتفاضة شعب تيغراي، أما إرتريا، فهي اليوم تكاد تكون مستوطنة إسرائيلية، لكثرة القواعد العسكرية المزروعة على ساحل البحر الأحمر هنالك.

التحرك العربي المطلوب

ليس من الحكمة ولا المنطق ترك إفريقيا للإسرائيليين، يتحركون فيها بحرّية كاملة، ويجعلون منها محطة لصادراتهم العسكرية، ومنطقة للتمدد وخدمة مشروعهم في ابتلاع المنطقة بأكملها، من الساحل إلى النيل إلى الفرات، بل إن الغضب الشعبي المتراكم على المجازر الإسرائيلية، هو فرصة لقطع الطريق أمامهم، والعمل على إيقاف الحرب في السودان، وقيام حكومة منتخبة ذات سيادة لها، تعيد ترتيب الأوراق من جديد جنوب الصحراء والساحل، إلى جانب الأدوار التي يمكن أن تؤديها كل من مصر والجزائر داخل أروقة الاتحاد الإفريقي، تؤمن على الحقوق والمصالح والمصير المشترك، وهى خطوة كلما تأخرت ستكون الكلفة باهظة.

المصدر : الجزيرة مباشر