الدكتاتورية السوداء.. تونس نموذجا

قيس سعيد يدلي بصوته في الاستفتاء

حذرنا وقلنا بكل وضوح، الرئيس التونسي يطلق الأعيرة النارية والرصاصات المطاطية هنا وهناك، فما زالت تصريحاته تحمل الخصومة والمكايدة بل التخوين والاتهام، حتى اتهم البرلمان المنتخب بأنه خطر على الدولة. تصريحات بعيدة عن حكمة الرئاسة وقواعد السياسة، لكنها تعبر عن فكر الرجل الذي طرحه قبل الانتخابات بوضوح.

لقد بدا الدكتاتور عاريا وظهرت سوأته على الملأ، عندما بدأ يلعب بورقة الإسلام ملوحا بدستور جديد يحذف منه أن الإسلام هو دين الدولة، لعله ينجح في تفتيت القوى السياسية بين علماني وإسلامي، ومحاولا أيضا مداعبة فرنسا كي يحصل على الدعم الغربي اللازم لبقاء نظامه الدكتاتوري. وكان على نخبنا السياسية وشعوبنا أن تدرك أن معركتها لا ينبغي أن تكون حول نصوص شكلية توضع في دساتيرنا منذ زمن، لكنها تظل ديكورًا تختفي وراءه أنظمة دكتاتورية بشعة. إن معركتنا الحقيقة هي التخلص من الاستبداد أولًا وإقامة أنظمة سياسية حرة تكون الكلمة فيها للشعب، ويُحترم فيها رأى غالبية المجتمع بتطبيق الشريعة الإسلامية، ويحافظ فيها أيضا على حقوق الأقليات والمخالفين في الرأي في أن يتمتعوا بكافة حقوقهم وحرياتهم.

إن الاستبداد يعصف بحقوق الجميع، ويُمَكّن لاستشراء الفساد ونهب الثروات لحساب نخبة حاكمة فاسدة، هذه هي الحقيقة العارية. وبين الرئيس ومكونات المشهد تقف الملايين في حيرة من أمرها لا تملك المعلومات عن كيف يفكر الخصوم والفرقاء في تونس التي كانت خضراء.

وما توقعناه تم بالفعل، دستور “قيس سعيد” الجديد الذي يؤدي إلى إعادة فكّ وتفريق القوى السياسية ليكون المشهد على مقاس المستبد، انقسامات داخلية واستقالات وظهور قوى غير برلمانية داعمة للمرحلة الجديدة، غرفة عمليات المربع الصهيوخليجي مصري تعمل بِلاَ هَوادَةٍ، والمعارضة بلا خُطّة!!.

“مخاطر دستور سعيد”

جاء دستور “قيس سعيد” ليعيد تونس إلى ما هو أسوأ من عهد ابن علي، مشروع يرضي غروره ويرضي الثورة المضادة، حتى تظل تونس غارقة في الأزمات.

دكتاتور تونس لم يأت بجديد، فبعد اغتصابه للسلطة وعبثه بالدستور واستيلائه على كافة السلطات في الدولة بما فيها السلطة القضائية، وتوافق ذلك مع فشله التام في الملف الاقتصادي، وجد نفسه محاصرًا من كافة القوى السياسية والشعبية باختلاف أطيافها، كما أنه أصبح معزولًا على المستوى الدولي.

إن الموقف الأوربي والأمريكي من الشعب التونسي وخطابات المطالبة بعودة الديمقراطية كله نفاق وأضغاث أحلام، ويجب أن يفهم الشعب التونسي الذي خلع الطاغية ابن علي أن الغرب لن يعيد له ديمقراطيته من أنياب الانقلابيين، فالمواقف الغربية تحركها المصالح والمساومات، وسوف يندفعون وراء الطاغية قيس سعيد. ما زال الساسة وصناع القرار في الغرب يشككون فقط في قدرة “قيس سعيد” على الانتصار ضد الشعب الثائر الذي ذاق قدرا من الديمقراطية.

أما الأنظمة العربية (أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية والثورة المضادة) فلا تملك مشروع نهضة لشعوبها بل أخذت على عاتقها القيام بدور وظيفي خدمة لأسيادها في تل أبيب والبيت الأبيض والغرب. وهذه الأنظمة قد أخذت على عاتقها إسقاط أول ديمقراطية عربية وأطولها عمرًا.

إن إعلام الانقلابيين ضلّل كثيرًا من شعوب المنطقة -وليس الشعب التونسي وحده- عن مصالحه وحريته، وقد أوهمنا بأن وجود إسلاميين في البرلمان والحكومة سيكون كارثة. وقد جعلت هذه الأنظمة وإعلامها من “قيس سعيد” ديكتاتورًا، حيث أوهمته بأنه الزعيم والمنقذ الأكبر الذي سيصنع حكمًا وتاريخًا ومستقبلًا عظيمًا. وقد كان ما كان، فما جلب إلا الفقر والاضطراب وضياع البلاد وشق صف الأمة. إن الأنظمة المضادة للثورات جعلت من تحرر الشعوب شرًّا يفر منه الجميع إلى دركات الهوان والقهر والعلمانية والتبعية التي تروج لها الصهيونية وأتباعها العرب.

والنتيجة أن يعيش شعب تونس اليوم خدعة كبرى، فقد نَفّذت أنظمة الثورة المضادة قرارها فألغت البرلمان وحاصرت القضاء، وسجنت الأحرار، بل تم تجريم أول رئيس ديمقراطي لتونس وحكم عليه بالسجن غيابيًّا أربع سنوات.

أما الإدارة الأمريكية فما زالت تشكّ في إمكانية قيام ديمقراطية في أي بلد عربي، وهي في النهاية تفرش السجاد الأحمر لاستقبال الطغاة أمثال سعيد وحفتر وغيرهم، في حين تتيح غرفا جانبية واسعة تسع دعاة حقوق الإنسان، وبهذا تمكن دمية تونس من تمرير انقلابه والقضاء على الديمقراطية، ويبقى الحقوقي يتسلى بوجود هامش يغرد فيه، هامش لا يغير واقعا ولا يحدث تغييرا ولا يصنع تاريخا، هامش التخدير والإيهام، حيث النضال الوهمي عبر أبراج زجاجية ومواقع افتراضية، ثم يشعر بأنه أدى ما عليه، كحال المعارضة المصرية التي مارست أسلوب التخدير والإيهام بقرب التغيير، من منصات العالم الافتراضي وتركت العمل الميداني.

“نداء للشعب التونسي”

أيها الشعب التونسي؛ أنتم من أسقطتم ابن علي والآن استعدوا للدخول في مرحلة أكثر ظلامية، فلا تعولوا على الغرب كما فعل أغلب المعارضة المصرية.

يا شعب تونس العظيم؛ إن الغرب لن يعيد لكم الديمقراطية من أنياب الانقلابيين المدعومين من أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية، فالغرب والصهاينة هم من وظفوهم وحددوا أدوارهم الوظيفية للإبقاء على الهيمنة الغربية على شعوب المنطقة وثرواتها، إن شعوب المنطقة في نظر الغرب مجرد سبايا وثرواتهم غنيمة. ولمثل هذه الأحداث والحوادث، يكون التيار الوطني المنشود الذي ينحاز للديمقراطية والقانون والوطن، بعيدا عن حسابات الأحزاب والجماعات والتنظيم والنظام، فالديمقراطية أولا. نعم، ما زالت الأحداث تؤكد أن الولاء للمسار الديمقراطي أعلى وأعظم من الولاء للأشخاص والأحزاب والجماعات والسلطة والمعارضة، المسار الديمقراطي هو الطريق الوحيد عالميا ليعيش الإنسان حياة كريمة تليق به. 
الساعات التي نحياها الدقيقة فيها بعمر، فهل يقدّر الفرقاء والشركاء أنهم جميعا في مركب واحد، يكفيه خرق واحد ليغرق الجميع؟

اللهم إنا نسألك لتونس وأخواتها النجاة والنجاح.

المصدر : الجزيرة مباشر