هل تزوج الرسول بعائشة في سن الطفولة؟!

صحيح البخاري

زواج النبي صلى الله عليه وسلم السيدة عائشة رضي الله عنها، موضوع مثار نقاش وجدل يثيره المستشرقون وتلامذتهم المعاصرون، بشكل يراد به الانتقاص من شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصوير الأمر على أنه زواج بطفلة كانت في سن صغيرة، بل يتوقح بعضهم فيصف ذلك بأنه اغتصاب للطفولة، ولأن الموضوع بدأ يكثر الحديث عنه، فقد أردنا نقاشه في مقالنا هنا بشكل مختصر، لكننا نذكر نقاشات علمية منهجية حول الأمر، يتفق عليها كل منصف وعاقل في مسألة تتعلق بالتاريخ والمسائل الاجتماعية، وهي مسائل تكثر في زماننا، إذ نستدعي حدثا معينا في تاريخ معين، ثم نحاكمه بأدوات ومعايير الزمن المعاصر.

فالروايات المذكورة والمشهورة عن هذه السن، أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت في سن التاسعة، وينزل بعضهم فيقول إنها كانت في السابعة، لكن الأشهر التاسعة، وأنها في هذه السن كانت طفلة، والموضوع له عدة اتجاهات مهمة ينبغي نقاشها، من حيث منهج تناول مثل هذه الأحداث، وحقيقة السن آنذاك، هل كانت فعلا تسع سنوات، أم أقل أم أكثر، حيث تكثر الروايات والتحليلات حوله.

معيار محاكمة الحدث التاريخي

هنا خطأ منهجي في التعامل مع أحداث تاريخية، تنتزع من سياقها الديني والاجتماعي والسياسي، ثم يأتي كاتب معاصر يريد محاكمتها بمعايير زمانه، أو بمعايير عقله وفكره، وهو خطأ ينم عن مشكلة في عقلية ومنهج من يفكر بهذا الشكل، لأن الحدث التاريخي يقيم ويناقش بمعايير زمنه وسياقاته، لا سياقات زمن آخر.

وقد نبه إلى هذا الخطأ القاتل في البحث العلمي العلامة المؤرخ ابن خلدون، وهو مؤرخ كبير ومؤسس علم الاجتماع، فقال: “من ‌الغلط ‌الخفي ‌في ‌التاريخ: الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام، وهو داء دوي شديد الخفاء، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة. وذلك أن أحوال العالم والأمم، وعوائدهم ونِحَلهم لا تدوم على وتيرة واحدة، ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال”.

دور العرف في العلاقات الاجتماعية

العلاقات الاجتماعية معظمها مبني على أعراف الناس، فالمهر في مكان يختلف عن الآخر، والأثاث، وحفلات الزواج، وطريقة الزواج، بل المعيشة كلها تختلف من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، فما يراه الناس في زمان لا يليق ولا يصح من الإنسان، يراه أهل زمان آخر لا حرج فيه، ونضرب لذلك مثلا من حياة النبي صلى الله عليه وسلم وزمانه، مقارنا بزماننا وعاداتنا في ذات الموضوع وهو الزواج.

لقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها، وهي تكبره في السن بـ15 عاما، وسبق لها الزواج والإنجاب من غيره، ولما ماتت تزوج بعدها سودة بنت زمعة رضي الله عنها، وكانت تكبره في السن كذلك، وكل زوجاته إما مطلقة أو أرملة، فهل مجتمعاتنا اليوم تقبل أن يتزوج الرجل البكر بامرأة تكبره وسبق لها الزواج؟! عادات الناس الآن ترفض ذلك، ليس من باب الحلال والحرام الديني، بل من باب المرفوض اجتماعيا، ولو فعلها شاب لقاطعه أهله.

ونموذج السيدة أسماء بنت عميس رضي الله عنها، التي كانت زوجة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فلما استشهد، تزوجت أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فلما مات تزوجت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنجبت من الجميع، لو كان هذا النموذج في حياتنا، لتشاءم منها المجتمع وقالوا: امرأة لا يعيش لها رجل، لكنها طبيعة مجتمع يقبل ما لا يقبله مجتمع آخر، ما دام الأمر لا يقع في دائرة المحرم، بل دائرة العرف، وهو يضيق ويتسع بحسب أفهام الناس.

معيار الطفولة

إن أول أمر ينبغي أن يحدد هنا: ما معيار الطفولة وسنها وما معيار البلوغ وسنه حتى نحكم بأن زواجا أو فعلا ما صدر عن طفل؟ فتعريف الطفل وسنه أمر مختلف اختلافا كبيرا، من دولة لدولة، ومن دين لآخر، ومن حضارة لأخرى، بل في البلد الواحد قد يختلف تعريفه وسنه من ولاية لولاية، أو محافظة لأخرى، فما المعيار الذي يريد أن يحتكم إليه من يدعون أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج طفلة؟ عليهم أن يحددوه أولا.

وهو مختلف فيه لدى الديانات كلها، سواء كانت سماوية أو غير سماوية، فحتى عهد قريب في القرن العشرين كانت سن الزواج في الكنيسة الأرثوذكسية 12 عاما للفتاة، و14 عاما للفتى، بل نصت كتب اليهودية والمسيحية عند حديث شراحها لسن الزواج على أنه يتغير حسب العرف والحال والمعيشة. وتذكر المصادر المسيحية في إحدى الروايات أن السيدة مريم العذراء خطبت أو تزوجت يوسف النجار وعمره 90 عاما، وعمرها 12 عاما.

وحتى في التاريخ الأوربي الحديث من راجع كتاب “قصة الحضارة” في أكثر من مجلد سيجد تواريخ لزواج بين الملوك والنبلاء في سن يبدأ من السادسة للفتاة، بل إن إحداهن تزوجت وترملت مرتين، وتزوجت الثالث ولم تبلغ 9 سنوات. وهناك عدة تغريدات مهمة عبارة عن نقول من كتب الأديان والتاريخ، للأستاذ عبد الله سعيد، بعنوان: سن الزواج يختلف بحسب اختلاف الزمان والمكان وعادة جميع الشعوب القديمة الزواج في سن مبكرة. أنصح بالعودة إليها لنفاستها.

كما أن التاريخ يخبرنا عن أن أعمار الناس لم تكن تحسب بمقدارها الزمني، بل بموهبة الشخص، فعائشة رغم صغر سنها كانت معدودة من الفقيهات والعالمات بالدين، وكانت صاحبة رأي، وهو ما كان من عدد آخر من الصحابة كابن عباس، وفيما بعد، رأينا أسامة بن زيد وعمره 18 عاما، يقود جيشا فيه أبو بكر وعمر، ورأينا محمد بن القاسم الثقفي الذي فتح السند وعمره 17 عاما، وهو أمر مشهود له في التاريخ بشخصيات كثيرة عربية وغربية، فلو حكمنا الآن بمنطق الواقع على حادث تاريخي، لاعتبرنا مشاركة أسامة وفتح ابن القاسم الثقفي للسند جريمة حرب لأطفال، فهل هذا يعقل؟!

الحكم بأثر رجعي

ثم لو اتفقوا على معيار يناسبهم ويناسب ثقافتهم وحضارتهم، ولم يكن هذا المعيار موضع اتفاق أو تطبيق في قرون مضت، هل يحاكم من خالفه، ولو يقل به دينه ولا حضارته ولا عرفه، بل لم يفكر فيه بالأساس؟! إن القانون الجنائي والقوانين كلها، حين تغير العقوبة، أو تغير سن العقوبة، تنص على أن القانون لا يعمل بأثر رجعي، أي: لا يخطأ ولا يحاسب من فعل عكسه من قبل، فهو يسري على من قرره، أو قرر في زمنه، فعلام إذن يحاكم هؤلاء أزمنة وأجيالا بثقافتهم الحالية!

13 قرنا لا يناقش الأعداء الموضوع

الأمر اللافت للنظر، أنه على كثرة خصوم الإسلام على مدار تاريخه، لم يثر أحد منهم موضوع زواج السيدة عائشة، أيا كان سنها، فقد كان على عهد النبوة: يهود، ونصارى، ومشركون، ومنافقون، كلهم يعادون الإسلام ونبيه، ويبحثون عن أي خطأ ينالون به منه، ولا نجد من بين شبهاتهم، أو مؤاخذاتهم: زواج عائشة، ولا سنها.

بل على مدار التاريخ الإسلامي، لمدة ثلاثة عشر قرنا أو تزيد قليلا، لا نجد الموضوع مطروحا لديهم، فقط منذ مائة عام أو أكثر قليلا، بدأت دوائر الاستشراق تثيره، أي أن تاريخ الأمم والشعوب بمفكريها وفلاسفتها، ورجال دينها المعارضين والمعادين للإسلام ونبيه، لم تر في الموضوع موضع نقاش، أو مؤاخذة، أو شبهة تثار. وهو ما يدل على أن الأمر مبني على مماحكة، وعلى نقاش هذا الحدث التاريخي منزوعا من سياقه كما بينا.

واللافت أكثر للنظر، أن يغض هؤلاء الطرف عن الحديث بشأن سن الزواج في الأديان السماوية الأخرى، والحضارات الغربية على مدار تاريخها، حتى عهد قريب، بينما يسلط الضوء بشكل مستفز، وغير منهجي، على زواج النبي صلى الله عليه وسلم فقط!!

سر الاختلاف قديما وحديثا في سن عائشة

وبعدما ثار الموضوع بهذا الشكل، بدأت دراسات علمية وتاريخية تتناول الموضوع، واختلفت حول سن السيدة عائشة رضي الله عنها وقت زواجها برسول الله صلى الله عليه وسلم، بين متمسك بما ورد في صحيح البخاري من أنها بين السابعة والتاسعة، أو بين التاسعة والحادية عشرة. وذهب آخرون إلى أن سنها كان فوق 14 عاما، ومنهم من أوصلها إلى 18 أو 19، ومنهم من وصل به البحث إلى أن عمرها كان أكثر من ذلك.

كل ما ورد في هذه النقاشات كان من علماء مسلمين، لا يشك أحد في صدق نياتهم، ولا دوافعهم في البحث العلمي، وهو مبني على دلائل واستشهادات من كتب السنة والتاريخ وتراجم الصحابة، وهذا الاختلاف ليس في سن زواج عائشة فقط، بل ستجده في معظم أحداث السيرة النبوية والتاريخ، وبخاصة في تاريخ الميلاد والوفاة، فتجد في معظم الأسماء أكثر من تاريخ، والسر في ذلك أن العرب لم تكن وقتها أمة تأريخ، وتدقيق في التاريخ، بل كانت تربط معظم التواريخ بالأحداث الشهيرة، ولذا ستجد في كتب السيرة النبوية في تاريخ الغزوات أكثر من تاريخ، وفي غيرها من الأحداث المهمة، أو الهامشية.

فقد كتب في هذا الموضوع من المشاهير والمعروفين من أهل البحث العلمي والفكري فيما أحصيت: الدكتور حسين مؤنس وهو جهد جماعي ضمن بحوث لآخرين حول الموضوع، وعباس محمود العقاد في كتابه “الصديقة بنت الصديق”، واستنتج أن عمرها كان بين 12 و15 عاما، ورد عليه الشيخ أحمد شاكر وبشر فارس وناقشاه فيما انتهى إليه. والدكتور نظمي لوقا الكاتب المسيحي المصري في كتابه “محمد في حياته الخاصة”، وذكر أن أمه تزوجت وهي في سن 12 عاما، وهي من أسرة مسيحية كهنوتية.

وكتب الدكتور أحمد الخمليشي مقالا مهما في مجلة “الواضحة” المغربية، وهناك بحث مهم جدا لمستشرق مسلم بعنوان: هل تزوجت عائشة وهي بنت السادسة؟ كتبه: ت. أ. شافاناس، ترجمه الدكتور خالد الساقي، ونشر في العدد الخامس من مجلة “الواضحة” سنة 2009م، ويبدو أنه دراسة قديمة، ولكن الترجمة كانت في 2009م. وكذلك الدكتور عدنان إبراهيم، وآخرون.

أحد مدعي التنوير يسرق بحثا في الموضوع

أما من رفض من العلماء المعاصرين النتائج التي توصل إليها هؤلاء فقد احتجوا بأن رواية هذه السن وردت في صحيح البخاري، وقالوا إن هناك حملة هائجة على البخاري، ليس المستهدف منها شخصه، فشخصه ليس مقدسا، لكن المستهدف منها ما رواه، وهو السنة نفسها. وهو تخوف مقدر، لكن ينبغي ألا يكون على حساب الحقيقة التاريخية، وفي حادث يساء استخدامه من خصوم الإسلام، وبخاصة أن ما ورد في البخاري لا يتعلق بقضية تشريعية، بل بقضية حدث تاريخي، يتحدث فيها إنسان عن عمره عند الزواج.

هذا فضلا عن أن من ذهبوا إلى أن عمرها كان 19 عاما، علماء معاصرون، وبعض بحوثهم عمل جماعي، كما كتب ذلك الدكتور حسين مؤنس في مقدمة كتابه “تنقية أصول التاريخ الإسلامي”، إذ قال إن جماعة من المؤرخين هو منهم، أثبتوا ذلك في بحوث تاريخية. ولكن من المؤسف أن ما كتبوه لم يكن منتشرا، ولا مجموعا في كتبهم، وكذلك الدكتور حسين نصار، ثم قام شخص جاهل يدعي التنوير بالسطو على أفكارهم فكتبها في مقال منذ سنوات (إسلام بحيري)، وهلل وكبر، على أنها نتائجه هو، وقام طبيب صديقه (خالد منتصر) منذ يومين بالتهليل لمقاله المسروق أيضا.

أدلة المخالفين لسن التاسعة عند الزواج

لقد استدل الذين خالفوا في أن عائشة عند الزواج كانت في سن التاسعة، أو دونها، بعدة أدلة مهمة، ومعتبرة في النظر للموضوع. أما العقاد فقد استدل أولا بأن عائشة رضي الله عنها جعلت عمرها وقت الزواج بين عمرين، ومن الطبيعي أن تميل المرأة بحكم فطرتها إلى العمر الأصغر، أو إلى أنها كانت صغيرة، وهو شأن كل امرأة، وعائشة من هذا الجنس، وليس ذلك مستغربا.

ثم استدل العقاد بدليل آخر مهم، وهو أن عائشة رضي الله عنها كانت قبل أن يخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم مخطوبة لجبير بن المطعم بن عدي، وهذا يعني أنها كانت في سن الزواج، ويتقدم لها الخطاب.

واعتمد الرافضون لأنها كانت في التاسعة على التضارب بين التواريخ، فقد ربط هؤلاء بين سن عائشة وأسماء أختها وفاطمة رضي الله عنهن جميعا، وبينوا تعارضا واضحا في التواريخ، ففاطمة تكبر عائشة بخمس سنين، وقد ولدت أثناء إعادة بناء الكعبة، أي حين كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم 35 عاما، وهو ما ذكره ابن حجر، وهو أهم شراح البخاري، وهو ما يعني أن سن عائشة وقت الزواج كان 12 عاما، وهو ما يتعارض مع القول بأن سنها وقت الزواج 9 أعوام.

أما فرق العمر بين عائشة وأسماء أختها، فعشر سنوات، وذكروا أنها ماتت وعمرها مائة عام، وقد توفيت سنة 73هـ أو 74هـ، أي أنها هاجرت إلى المدينة وعمرها 27 سنة، وإذن يكون عمر عائشة وقتها 17 سنة عند الهجرة، ثم تزوجت في السنة الثانية للهجرة، فيكون عمرها آنذاك 19 عاما.

واستدلوا كذلك بأن أبا بكر الصديق أنجب جميع ذريته قبل الإسلام، فلو أن عائشة كانت آخرهم، وقد تزوجت في السنة الثانية من الهجرة، فيكون سنها على الأقل 15 عاما، إن لم يكن أكثر.

واستدل الدكتور أحمد الخمليشي بحديث روته عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري، يتعلق بزيارة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر على فترات مختلفة، في السنة الثالثة من البعثة، وحينما أراد أبوها الهجرة للحبشة، ورده أحد المشركين وأدخله في جواره، وأن هذه الحادثة كانت سنة خمس من البعثة، وكيف لعائشة أن تروي هذه التفاصيل إن تكن في سن تعقل فيه، وهو ما يدل على أنها تزوجت في سن لا تقل عن 15 عاما.

وذكروا أدلة أخرى لا يتسع المقام لذكرها، وكل هذه النقاشات والاختلافات حول سن عائشة نقاش جديد، لأن الموضوع لا يتعلق بأمر تشريعي، بل بأمر تاريخي لا مشكلة في الخلاف فيه، ولكن بعد اتخاذ خصوم الإسلام الموضوع هدفا للنيل منه ومن نبيه، بدأت الكتابة حوله كما رأينا، وقد حاولت جهدي هنا أن أضع نقاطا منهجية مهمة في التعامل مع هذا الحدث وأمثاله، عسى أن تكون عونا للبحث والفكر للمنصفين.

المصدر : الجزيرة مباشر