معاذ الخطيب.. عقلانية الثائر أم عاطفة الوهم!

معاذ الخطيب

دوماً ما كنت أبحث أثناء متابعتي لكلمات السيد معاذ الخطيب عن العاطفة المفرطة الموصوف بها والمراد جعلها عنواناً للصورة الذهنية له في عقول الجماهير، كونه يغرّد -حسب زعم البعض- خارج السرب العقلاني لرجل السياسة الذي يحتاجه الواقع السوري، ما أثّر وشوّش على عقلية المتلقي في استقبال الرسائل التي يتحدّث بها إلى الرأي العام، ولم يقتصر الأمر على عقلية المتلقي العادي بل -مع الأسف- تعدّاه ليؤثر على عقلية المثقّف والإعلام السوري المعارض المصرّ على الكسل البحثي بل ومحاكمة الخطيب انطلاقاً من منشورات فيسبوكية لمشاهير مخابراتية تناولت بسذاجة مقاله الشهير والاستفهامي “هل ستشرق الشمس من موسكو؟!”، بدلاً من الرجوع لمقاله الأصلي وأفكاره المتوفرة على الإنترنت! فقيل له بثقة مطلقة أثناء لقائه الإعلامي الأخير مع  تلفزيون سوريا تعقيباً على تعاطي الخطيب مع الفاعل الروسي في سوريا: يا شيح أنت الذي قلت أنّ الشمس ستشرق من موسكو! مع العلم أنّ مقال الخطيب على عكس شمس موسكو فهو بغاية الوضوح ويجيب بنهايته على عنوانه الاستفهامي بكل صراحة وجرأة: “أيام الضباب في موسكو ممتدّة في هذه الأوقات، ولم نكن نبحث عن الشمس بل عن التقاطعات السياسية، أما فجرنا القادم فلستُ أجد له أصدق من قول القاضي الزبيري ليوم الاستقلال: يومٌ من الدهر لم تصنع أشعتهُ شمس الضحى.. بل صنعناه بأيدينا”، ولا أبالغ إن قلت أنّ هذا المقال المظلوم شعبياً وسياسياً هو الذي يصلح ليكون الخارطة الفكرية والوصية السياسية للحراك الشعبي السوري لما فيه من جرأة وقوة وتوازن عظيم بين الثورية والعقلانية والإنسان!

عندما يجلسون في حضرة معاذ أو يجلس معاذ في حضرتهم يحدّثونه من منطلق أنّه ناشط عاطفيّ وإسلامي إقصائي وأنّ مكانه المسجد لا ساحات الثورة والسياسة

نعم، لمّا اطلعت على المقال أدركت دافع التجييش ضدّ الرجل ومقاله هذا بشكل خاص! كم هو مؤسف حجم التدليس الإعلامي والسياسي الممارس تجاه هذا الإنسان منذ بداية الحراك، أتفهم موقف الوسائل الإعلامية العربية وتعاطيها مع الخطيب بهذه الطريقة، لأنّها لا شك تنطلق من السياسات التحريرية لأنظمتها السياسية التي لا تتقاطع مع الإرادة الشعبية العربية أيّاً كانت جغرافيتها، ولكن الغريب هو تعاطي المؤسسات الإعلامية المعارضة الثورية انطلاقاً من إشباع شغف التنجيم والتماهي مع آراء المثقف اليساري المضطرب أو الإسلامي المنهزم الذي حكم عليه العالم السياسي بالسجن فكرياً في القمقم السياسي اليساري بطريقة أو أخرى! لذلك نلحظ أنّ أغلب القنوات والإعلاميين أثناء حوارهم مع الخطيب يزهدون بالفكرة وسرعان ما يشخصّون اللقاء فيضيع المراد وتُخنق الأفكار! في المقابل أغلب الوسائل الإعلامية والإعلاميين السوريين والعرب يجثون على ركبهم كالمريد والميّت بين يديّ مغسّله في حضرة المرحوم ميشيل كيلو والسيد برهان غليون والسيد الثائر رياض حجاب مثالاً، أمّا عندما يجلسون في حضرة معاذ أو يجلس معاذ في حضرتهم يحدّثونه من منطلق أنّه ناشط عاطفيّ وإسلامي إقصائي وأنّ مكانه المسجد لا ساحات الثورة والسياسة، مع العلم أنّ الممعن بكلامه بإنصاف يجد فيه عين الجرأة والعقلانية الإنسانية الثورية لا العاطفة المضطربة! فعاطفة معاذ عين عقلانية الثورة، أمّا عقلانية الواقعية السياسية الموضة الكلاسيكيّة للتكتلات السياسية المستحدثة لا تتناسب مع خصائص الحراك الثوري والشعبي، بل هي عبودية عقلانية وصفها البعض بالحذاقة السياسية أملاً بتدجين الإرادة الثورية، إلّا أنّ هذا المراد محال لأنّ الثورة سنة كونية لا سلوكاً اختيارياً، لا سيما وأنّ الواقع من ثار على الإنسان العربي وليس الإنسان العربي هو من ثار على الواقع، وعليه محال هو الالتفاف على الثورة إلّا بالخضوع لها وتلبية احتياجاتها، أو من خلال تشويه المفاهيم بالتوازي مع أدوات القتل والتهجير والاعتقال، وهذا ما اختارته الأنظمة السياسية الدولية في التعاطي مع الحراك السوري الشعبي، لأنّ العلاقة بين الطرفين في الإطار السوري علاقة وجود أو عدم!

لم أجد إشكالاً إلّا أنّه إسلاميّ المنبت والثقافة والفكر، إسلاميّ غير متحزب في تيار سياسي وظيفي ذي أيديولوجية راديكالية

السؤال هنا، ما هو المتغير الذي جعل الأنظمة السياسية والثقافية المسؤولة عن إدارة عقل الرأي العام السوري أن تُقصي الخطيب وتحاول التقليل ممّا يطرح إعلامياً وسياسياً؟! فكّرت مراراً وقلّبت الأمر مستبعداً ذاتيتي قدر الإمكان، ولم أجد إشكالاً إلّا أنّه إسلاميّ المنبت والثقافة والفكر، إسلاميّ غير متحزب في تيار سياسي وظيفي ذي أيديولوجية راديكالية غالباً ما تحكمة أنظمة سياسية خارجية، بل هو ثائر إسلامي مستقلّ شجاع، لم يضع ذاته في رسم البيع السياسي. إنّه في الغالب ما يعرّف عن نفسه بـ”الشيخ” مع أنّ هذا التعريف يؤثر على تقبّله سياسياً لدى الأنظمة ولدى الشعوب بعد أن نجح الإعلام في كسب معركة تشويه المفاهيم، ولكن الخطيب يصرّ عليه لأنّه متصالح مع ذاته بثقة ويتكلم بلسان أمّة وشعب وثورة وليس سلطة أو نظام أو حزب، لأنّه أراد أن يعيد لهذا المفهوم بريقه ولو كان هو الوقود، لأنّه يصرّ على أن يكون سفير الثورة لدى العالم، لا سفير العالم والمصالح لدى الثورة، الأمر يتضّح لدى القارئ إذا ما اطلع فقط على خطابه في القمة العربية ومقاله الشهير هل ستشرق الشمس من موسكو، هذان النموذجان، كفيلان بالإجابة على اللغز السياسي: لماذا يرفض العالم السياسي أمثال الخطيب؟! مع تأكيدي أنّ رفضه هو رفض لنموذج وليس لشخصه فقط!

في جذوة الحراك لمّا أراد العالم السياسي أن يخاطب الحراك الثوري السوري خاطبهم بلغتهم وعقلهم وآلامهم، خاطبهم بكلمة تدعى الثائر معاذ الخطيب، يدلّ ذلك على أنّه بشهادة دول العالم السياسي هو النموذج الثوري الذي يمثّل الحراك الشعبي الذي لا يمكن مجاراته واستيعابه سياسياً إلا بالاعتراف بأبنائه الشرعيين، ولكن عدم موافقة الخطيب أن يكون شاهد زور على ثورته، جعله الحلقة الأضعف في المعارضة وتم تحييده سياسياً وإعلامياً، واستبداله بشخصيات رضيت أن تكون سفيرة الدول لدى الثائر وليس العكس، بل رضيت بكل بساطة أن تلعب دور التيس السياسي المستعار! بغية الانقلاب على الحراك ومصادرة الواقع الاجتماعي وإعادته للقمقم الاستبدادي ولو اختلف المالك السياسي.

ولا ننسى أنّ الكل عندما يتكلّم عن الخطيب يختم كلامه ولكن “لا نشكك بإخلاصه”، بالطبع هم يقولوها ليس لحبهم أو إنصافهم، بل لأنّهم لا يستطيون الهروب والتدليس في المتفق عليه

أمثال الخطيب يخيف الفاعل السياسي الدولي أو العربي لأنّه تمرّد على حالة المأسسة السياسية التي يسعى العالم بواسطتها إلى زج نخب الحراك وصهرها بداخلها، وأمثال ذلك مؤسسات الائتلاف الوطني السوري وهيئة التفاوض والجيش الحر والمؤسسات الإعلامية المعارضة وغيرها، ليشكّل الخطيب حركة اجتماعية (سورية الأم) ربما تكون على صغرها قادرة على تفعيل ذاتها سياسياً بشكل طبيعي، بل إنّ أمثال هذه النماذج الحركية رغم ضيق رقعتها وفقرها، غير أنّها الخيار الأفضل في الحالة السورية، بغية الهروب من قمقم وشبح المأسسة التي خنق بواسطتها الفاعل الدولي كل الحراكات السياسية والإعلامية والعسكرية السورية! مشكلة أمثال الخطيب مع الفاعل السياسي المعارض للحراكات الشعبية أنّه انطلق إلى تأسيس جماعة ضغط وعلاقات دولية -دون استثناء أحد- انطلاقاً من رقعته ونواته الضيّقة، أي أنّه يحاول عدم الوقع بفخ سراب الوعود الدولية أو التجمهر خلف الشاشة ليتحوّل إلى متابع ومتفرّج وبأحسن أحواله لمحلل سياسي. إنّ سياسة الخطيب التي أقلقت الفاعل السياسي المعارض للحراك الشعبي، هو أنّه انطلق إلى فضاء تنظيم الفكرة بدلاً من التحدّث حولها أو فيها على مقاعد الندوات أو المقاهي أو مكاتب مراكز الدراسات، فالمأسسة لا تكون إلا بعد صناعة الذات السياسية بطريقة وإلّا تحولت لأداة وظيفية عند الأطراف، لنصبح جزءاً من مشاريع الآخر! لا أبالغ إنّ قلت: عدم اختيار الفاعل الدولي للخطيب لأن يكون لاعباً سياسياً في المعادلة السورية، هو بحدّ ذاته نجاحٌ منقطع النظير لهذا الأنموذج السياسي السوري، لأنّ عدم اختياره دليل على أنّ هذا العنيد مصر على التنافس ولو كان الفارق كبيراً بين حجمه السياسي وحجم القوى المنافسة له، لكن أولاً وأخيراً هو في الطريق الصحيح ومنافس مع اختلاف الأحجام، فهذه الحركات الاجتماعية السياسية إذا رضيت أن تدخل في الإطار السياسي السوري المقوّض دولياً اليوم فهي تكون قد دخلت في إطار الصراع على العمالة وليس الاستقلال!

أخيراً أريد أن أهمس في أذن القارئ الكريم، لأقول لك:  لا شك لدي بعض الملاحظات الضيقة على الخطاب السياسي، لكن لا تتسرّع في الحكم على الآخرين، لأنّه من الظلم بمكان أن نحاسب السياسي انطلاقاً من معيارنا المثالي المستخدم في الحكم على الصحفي أو الكاتب أو المفكّر، في المقابل لهو خطأ فاحش أن نحاكم الإعلامي أو الكاتب أو المفكّر بنفس المعيار الذي نحاكم بواسطته السياسي، فهناك مواقف نتفهم صدورها من السياسي بحكم أنّه يعمل في إطار الممكن، ولكن ذات المواقف لا نقبل صدورها من المفكر والكاتب والمثقف الذي يعمل في إطار ما هو فوق الممكن، وإلّا تحوّل الكاتب لمرتزق لدى السلطة وأداة في تغيير المفاهيم والعبث بالعقول، فالكاتب مهمته استراتيجية ومؤتمنٌ على عقل المتلقي والجمهور، فهو المسؤول عن معركة المفاهيم، أمّا السياسي فمعركته تكتيكية وهو المسؤول عن معركة الموقف، وربما يخسر السياسي موقفاً تلو الآخر، ولكن إذا كان الكاتب دوماً يشرّع ويؤصّل له الموقف فكرياً، فسنصل لمرحلة نجد أنفسنا أمام واقع شعبي تختلط المفاهيم لديه وتتشوّه! بالمقابل إذا أصرّينا على محاكمة السياسي بالمعيار الذي نُخضع الكاتب له، فإننا سنجد أنفسنا أمام واقع عاجز غير قادر على التقدّم والحركة! باختصار ليس بالضرورة للسياسي أن يتخرّج من جامعة السوربون في العلوم السياسي، يكفيه فقط أن ينطلق من واقعه ويفهم متغيرات محيطه ويكون قادراً عن تنظيم الفكرة ومخلصاً في أداء الواجب، ولا ننسى أنّ الكل عندما يتكلّم عن الخطيب يختم كلامه ولكن “لا نشكك بإخلاصه”، بالطبع هم يقولونها ليس لحبهم أو إنصافهم، بل لأنّهم لا يستطيون الهروب والتدليس في المتفق عليه، والمخلص الأمين هو ما تحتاجه المرحلة لتأسيس القوة واكتمال البناء أمّا الباقي تفاصيل.

المصدر : الجزيرة مباشر