جامعة حلب.. تثقيف البندقية وعسكرة المثقّف!

ما دام الحراك الشعبي السوري يعجز عن دفع المثقف إلى واجهة الحراك المسلّح، ما يجعل المثقّف ذاته أسيراً لدى الشرائح الاجتماعية غير المتعلّمة غالباً، فأين المشكلة إذا حاولت مؤسسات التعليم (جامعة حلب الحرّة أنموذجاً) انتزاع دورها القيادي والحضاري لتثقّف البنادق المتحكّمة في مفاصل الحياة الاجتماعية والسياسية! فإنّ عجز الحراك السوري الشعبي عن إيصال المثقف إلى سدّة الحكم بسبب متغيرات اجتماعية تربوية ترجع لاستراتيجيات عصابة الأسد الحاكمة في الحقبة الماضية، لا يبرر لمؤسسات التعليم أن تقف مكتوفة الأيدي وأن لا تُوصل التعليم إلى أهل الخنادق وأصحاب البنادق! لذا فإنّ إصرار مؤسسات التعليم على عدم الرهبنة والاعتكاف في محراب الشرائح الشبابية الصغيرة الناشئة وعدم اعتزالها للشريحة الشبابية المتحكمّة في مفاصل المؤسسات العسكرية والسياسية، يعد ضرورة اجتماعية وخطوة واعية ورائدة تُحسَب لمؤسسات التعليم في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري. ويجدر التأكيد بهذا السياق على أنّه لا يوجد في تلك المناطق اليوم عسكريٌ واحد، بل هناك مدنيٌّ مسلّح يدافع عن مدنيّ أعزل ومستضعف، فالسلاح تحوّل لثقافة فرضها التخاذل والتكالب الدولي، ولا بدّ للمؤسسات الاجتماعية الفاعلة أن تتعامل مع هذه الثقافة انطلاقاً من واقعها الاجتماعي، لا انطلاقاً من خيالات وأدبيات “حقوق الإنسان” المتحيّزة والمسيّسة والمنطلقة من واقع اجتماعي وسياسي مختلف!

هندسة عقلية المثقف

إنّ دفع المثقف الواعي للانخراط بالحراك المسلّح أو تثقيف البندقية هو الكفيل بمكافحة الإرهاب وتحقيق السلام والفاعلية الحضارية واستقلالية البندقية وضبط إيقاع الواقع الاجتماعي والسياسي والعسكري وحفظه من التدهور الاجتماعي والارتزاق والعمالة المغفّلة (غير المقصودة). وبما أنّ مسألة دفع المثقف للانخراط المسلّح اليوم غير واردة لأسباب تربوية اجتماعية متراكمة وخارجة عن دائرة تأثير المؤسسات الاجتماعية التربوية الفاعلة اليوم، فإنّ تثقيف البندقية هو الخطة الإسعافية والسبيل الأوحد المتناسب مع الواقع السوري، لأنّه المتغير القابل لأن يكون في دائرة تأثير مؤسسات التعليم الساعية لإعادة هندسة الواقع الاجتماعي وتحويله إلى فاعل حضاري انطلاقاً من ذاتيته.

ولا شكّ أنّ تثقيف البندقية يجب أن يتوازى مع خطط استراتيجية سياسية تسعى لإعادة هندسة عقلية المثقف الناشئ، من خلال مصالحته مع الفكر العسكري وتربيته عسكرياً وإشراكه في المؤسسات العسكرية ليكون أحد فواعلها القيادية، سعياً لردم الهوّة الموجودة ما بين الإدارة العسكرية والشرائح النخبوية الثقافية المسؤولة عن إدارة عقول الأسر والأفراد، فإنّ وجود هذه الهوّة واستنباتها سابقاً أدّى إلى غياب لغة الأفكار المشتركة بين كلا الجناحين، فتحوّل الطرفان لفاعلين يتصارعان بدل أن يتكاملا، النخب الثقافية تقلّب الرأي العام على القوى العسكرية والقوى العسكرية تعتقل الشرائح الثقافية بغية تحقيق استقرارها السياسي، ما أدّى لإدخال المؤسسات والقوى الاجتماعية في إطار حلقة مفرغة تستنزف حضورها الاجتماعي والسياسي والإنساني! وأحياناً -نتاجاً لهذه الهوّة الفكرية والسلوكية بين الطرفين- يتحوّل الطرف الثقافي بحكم القوّة لأداة وظيفيّة لدى القوى العسكرية المتحكمة في مفاصل الحياة الاجتماعية والسياسية، حيث تسعى بواسطتها العسكرة إلى ترويض الشعوب والتدليس والتلاعب بعقولهم بغية عرقلة التدافع الفكري الإنساني المسؤول عن تطور الحضارات وصناعة الإنسان الفاعل وتهديد الإمبراطورية العسكرية، وعليه إنّ الطريق الوحيد لتجاوز هذه الإشكالية الاجتماعية هو تثقيف المؤسسات العسكرية على المستوى القريب، وإعادة هندسة المثقف على أساس عسكري على المستوى البعيد، ليصل الواقع الاجتماعي ليومٍ يتحوّل المثقف ذاته إلى قائده العسكري العام.

يعني ذلك أننا بحاجة اليوم لتربية العسكري ثقافياً وتربية المثقف عسكرياً، بهدف صناعة إنسان قوي متوازن يحكم ذاته وغير قابل للتجنيد الوظيفي لدى النقيض الحضاري أو الحاكم العسكري غير المتعلّم القابل بطبيعة الحال إلى الإرتهان المغفّل أو الارتهان الحقيقي الذي يسعى بواسطته إلى المحافظة على ذاته من خلال ترويض التدافع الإنساني وتطويقه، فالمثقف القوي الواعي صعب الارتهان لأن نشوته الكبرى تكمن في تحويل أفكاره لسلوك حضاري، أمّا العسكري غير المتعلم الذي لا يملك مشروعاً فكرياً وثقافياً سيرمي جماعاته الإنسانية في دائرة الاستنزاف الاجتماعي نتيجة صراعه مع النخب الثقافية المؤثرة والمسؤولة عن التدافع داخل المجتمع، أو سيكون قابلاً للارتهان إلى النقيض الحضاري والسياسي بغية المحافظة على ذاته من حراك الرأي العام والتدافع الإنساني الاجتماعي الذي يحكمه بقوة البندقية، لأنّه بطبيعة الحال إذا لم يكن لهذه القوى مشروع حضاري ستتحوّل بندقيتها إلى أحد أجزاء مشاريع الآخرين الحضارية، لذا لا خيار أمام المثقف الطموح الساعي لتحويل أفكاره لسلوك اجتماعي وتأسيس حضارة وامبراطورية إنسانية إلّا أن يكون قوياً بذاته وإلا تحوّل لأداة تضليلية مصابة بالعقم الحضاري وغير قادرة على الإنجاب!

الوهم الكبير

لوهمُ كبيرٌ هو الظنّ أنّ القوة العسكرية قد تغيب يوما واحداً عن الحكم السياسي، فهي الغائب الحاضر الذي لا يمكن تجاهله البتة، ولا يمكن للجسد السياسي المستقل والفاعل حضارياً أن يحيا دون ضخّ الدّم الثقافي داخل الجسد العسكري، فلا أحد سوى القوّة العسكرية الواعية بإمكانه منح الاستقلال السياسي للدول والحكومات التكنقراطية، ولا يمكن استنبات هذه القوّة الواعية إلّا بتربية المثقف عسكرياً أو بتثقّيف البندقية، لأنّ البندقية الجاهلة لا يمكن أن تثق بأي فريق سياسي ثقافي نخبوي فاعل.

استناداً لما سبق، نستطيع أن نفهم إصرار المحتل والأنظمة العسكرية المستبدة على العزل التام ما بين المؤسسات العسكرية والعلوم الإنسانية الاجتماعية الدينية، كان الأمر ببساطة لضمان التبعية والولاء المطلق للعسكر (العبيد الجدد) بهدف توظيفهم لدى العدو الثقافي الخارجي وتنفيذ الأوامر دون اعتراض ولصناعة القوة دون تأسيس لمشروع حضاري وثقافي مستقل، فهذا من شأنه إغراء الجنود بتأسيس حضارة مستقلّة كاملة الأركان والمقوّمات الحضارية! وعليه إنّ الفصل التام ما بين الجندي وتعليم العلوم الإنسانية الاجتماعية الدينية لدى نظام الأسد، لم يكن مصادفة بل كان انطلاقاً من رؤى استراتيجية تسعى لتصنيع جيوشٍ إيديولوجية غائبة إنسانياً ومستغلَّة حضارياً ومنوّمةً مغناطيسياً بهدف سهولة الاستخدام السياسي، وهذا ما يفسّر همجية الجيش السوري وقدرة أسراب طيّاريه على قصف شعبٍ ومدنٍ بأكملها دون أن يرفّ لهم جفن!

استراتيجية الغمز واللمز

بناءً على ما تقدّم، نفهم استراتيجية الغمز واللمز الإعلامي المسيس والمدعوم لصالح قوى وأحزاب سياسية متحكّمة مناهضة للحراكات الشعبية، أو بعبارة أدق منها من هو مع الحراكات الشعبية لكنّه بالوقت ذاته ليس مع حكم هذه الحراكات الشعبية لذاتها، أي تسعى هذه الجهات المعنيّة إلى توظيف هذا الحراك لصالح قوى وإيديولوجيات سياسية فاعلة أخرى في محاولة لامتلاكها أكبر قدر من أوراق التفاوض السياسي الدولي التي تخدم بدورها مصالح قوى واستراتيجيات سياسية لا علاقة لها بطموحات وأهداف الحراك الشعبي! أيضاً ما يبدو لم يتم عفوياً تجاهل المؤسسات الإعلامية المعارضة لكلمة أحد المقاتلين الذين تخرّجوا في كلّية حلب الحرة منذ أيام، فعلى سبيل المثال احتوى خطاب هذا الطالب المتخرّج زخماً ووعياً إيجابياً لافتاً ويسطّر بماء الذهب ويستحق أن يُسلّط الضوء عليه إعلامياً في وسائل التواصل الاجتماعي لهذه القنوات، لكنّ ما يبدو أن استراتيجيات الإعلام المعارض لا تنطلق من ذاتية شرائحها الاجتماعية بل من مصالح الرؤى المضطربة والإيديولوجيات الضيقة والتمويل الأرعن الساعي لتسويق عبوات ثقافية مستوردة لا تتناسب مع الإنسان السوري، لتكتفي مثل هذه المؤسسات بتسليط الضوء على الجانب السلبي فقط من ظاهرة الشباب الثائر المتصالح مع بيئته الاجتماعية والثقافية! فإنّ تلفزيون سوريا المعارض على سبيل المثال لا الحصر لا يوجد فيديو مصوّر إلّا ويحوّله لمادة إعلامية في وسائل تواصله الاجتماعي، حتى وصل فيه الأمر أن يحوّل أحد الفيديوهات التي يقتل داخلها الابن أمّه لمادة إعلامية يسوّق بواسطتها هذا السلوك الاجتماعي الشنيع، لكن هذه المؤسسات لم تكن مستعدة لتسويق الجانب الإيجابي لظاهرة الشاب الثائر الساعي للتعلّم والمتصالح مع بيئته الثقافية والاجتماعية!

باختصار، عندما يتحكّم المتعلّم بالعسكرة ويتسلل التعليم للمؤسسات العسكرية ليتحكم ويقود، ستنتهي الحروب ويضمحلّ الإرهاب ويولّي زمن استغلال المقاتل الدرويش وتجنيده كأداة وظيفية تسعى لتحقيق مصالح النقيض الحضاري والاجتماعي على حساب الذات، عندها فقط سيُقضى على الخلاف بين البندقية والقلم لتبدأ مرحلة البناء وصناعة الذات الثقافية والحضارية. أخيراً أهمس بأذن طلاب مؤسسات التعليم الوليدة لأقول لهم: لا تقلقوا يا أصدقائي من عدم اعتراف مؤسسات التعليم الدولية بشهاداتكم، فالاعتراف تحصيل حاصل، لأنّه لن يُسمح لمثل هذه المؤسسات الفاعلة المؤثرة أن تغرّد خارج سرب التعليم العام، فالمسألة مسألة وقتٍ لا أكثر، العنصر الأهم هو أن نعترف نحن بمؤسساتنا ونبنيها لنتعلّم فيها، جامعة حلب الحرّة اليوم، هي الجامعة الأولى التي اختار فيها الطالب أساتذته بدل أن يختار الأستاذ طلبته!

المصدر : الجزيرة مباشر