فيروز والفن.. معبَد الرأي العام وأفيون الشعوب!

المشكلة ليس مع الفنان في حد ذاته بل مع الفنان الإله الذي يتربع على عقولنا من دون حول ولا قوة منا، فسيدنا إبراهيم عندما هدم الأصنام ترك كبيرهم.

بعيداً عن التحليل السياسي للقاء الجامع ما بين ماكرون وفيروز آثرت قراءة العمق الاجتماعي والثقافي لهذا الموقف الصادم الذي كشف النقاب عن زيف الوعي العربي والرأي العام المخمور بالعاطفة والفنانين والمشاهير والرياضيين الذين تحولوا اليوم لإله يُعبد من دون الله!

 فكم قيل سابقاً إنّ الناس على دين ملوكها، واليوم فإنّ العبارة الأدق: الناس على دين فنانيها والفنانون على دين ملوكهم وأفرع المخابرات! فالفن والتلفاز وملعب الكرة معبَد العصر والفنانون أصنامه والرأي العام هو الدرويش الذي يحوم ويدور في المعبد حول أصنامه من دون أدنى مقومات الفقه والوعي! لدرجة أنّ هذا المعبد الفنّي تحوّل لمعبد متنقّل مع الإنسان المعاصر والمقاتل المعاصر والكاتب المعاصر والمقاومة المعاصرة، فأصبح المقاوم والسياسي والكاتب والمفكّر يصاحب ويستحضر دوماً هذه الأصنام ليتقرّب إلى الرأي العام زلفى، لدرجة أنّه كسب الرأي العام وخسر فكره وذاته، أي أنّ العملية نجحت إلّا أنّ المريض  قد مات، تاهت البوصلة فتحولت الأداة لهدف والهدف لسراب اجتماعي محال  الوصول إليه!

سلوك الفنان

  ليس ذلك فقط، بل أصبح سلوك الفنان أو المغنّي هو الأساس الذي تنطلق منه سلوكيات النخب الحديثة والمقاومة المعاصرة وكلّ أمر اجتماعي في عالم الحداثة، لتتحوّل كلّ أشيائه لصلوات فنّية ترتل الأغاني والأناشيد والقصائد محاولة في ذلك تقليد النموذج المثالي الذي نصّبه الإعلام معياراً اجتماعياً للسلوك الراقي الجميل المرهف الحضاري! فأصبحنا نقاوم ونتعلّم وننتقد ونعبّر عن كل ما نعانيه بالدبكات الشعبية والأغاني الوطنية وعبادة المشاهير والمغنين والفنانين كبديل حضاري واجتماعي عن تصدير العلم والمثقف والمتعلّم والمعلّم بكافة المجالات! ولا شك في أنّ ذلك ليس ظاهرة عفوية أو ارتجالية بل إنّ النظام السياسي يتبع هذا النوع من السلوك الاجتماعي بغية توجيه الرؤية الاجتماعية والثقافية نحو اتجاه معين أو التأثير فيه، ويتصف هذا السلوك بأنّه أحادي الاتجاه، أي يتجه من المصدر إلى المتلقي، فالرسالة تنطلق من المصدر إلى الشرائح الاجتماعية بشكل مكثف وأُحادي ومؤثّر في الواقع الاجتماعي والثقافي الذي يتحول لمفعول به لا حول له ولا قوة!

صناعة الرموز الفنية

    وهنا يأتي السؤال المفصلي هل يتوجّب علينا كحراك اجتماعي نخبوي مثقف وواع أن نهمّ باستثمار أو صناعة رموزٍ فنيّة نواجه بواسطتها الرموز المقابلة عند الطرف الآخر؟ وعليه إن فرضنا صحة المقترح جدلاً سنواجه سؤالاً آخر وهو: إلى أي مدى يمكننا مواجهة أبطال هوليود بأبطال الفن المحلّي والمسارح الشعبية التي هي أساساً غيوم متفرّقة وبسطات فنّية لا تخرج عن سلطة إدارة سماء هوليود السياسية، وعليه نكون بذلك أشبه بمن يحارب النووي بسكين لا تقطع تفاحة! هذا بمعزل عن أنّ مجرّد دخولنا ساحة الحرب الثقافية والاجتماعية بأدوات فنّية  مماثلة هو سلوك خاسر بداية لأنّ الطرف المعادي ثقافياً وسياسياً في هذا التوقيت الحضاري يكون هو من اختار ساحة العراك الثقافي والفكري والاجتماعي، وإنّ مجرد محاربة العدو ومنازلته في المكان الذي يريده هو، هو بحد ذاته انتصار مبدئي وثقافي واستراتيجي في علم السياسة لصالح الطرف الآخر. وفيما يتعلّق بأساس قضيّة الحرابة الثقافية بالفنانين والمغنين ولاعبي الكرة والمشاهير المفلسين فكرياً حتى ولو كان النصر حليفنا كحضارة فهو هزيمة إنسانية وفكرية واجتماعية وعقلية بكل ما تعنيه الكلمة، فربما يكون هو انتصار لتيار سياسي يسعى إلى الحكم، ولكن يكون ذلك على حساب الإنسان والاتزان الثقافي والاجتماعي وتغييب العقل! لذا فإنقاذ الإنسان يكون بتوعيته لا بتكريس واستثمار مرضه وضعفه وغبائه لتحقيق أغراض أو أهداف سياسية هي لن تتحقق أصلا في ظل هذا المجتمع المشلول الذي ينازع ويحتاج لعلاج بل لصدمات كهربائية ولوقفات صارمة واعية صادقة من نخبه الثقافية والاجتماعية والسياسية، من خلال سعيها لتوعية الرأي العام بأن الفنان هو هُبَل العصر الذي يتوجّب علينا تهديمه لا تكريسه في عقل الأمّة الإنسانية!

تحرير الانسان

 الواجب اليوم هو تحرير الإنسان من القيود والسروج الفنّية التي وضعها له الإله السياسي لتحقيق مصالحه وتكريس العبودية له دون منازع!، فالسيطرة على عقول العامة بالفنانين والتنويم المغناطيسي السينمائي يؤدي لقتل التدافع الفكري والعطب الثقافي ووأد نتاج الحراك الاجتماعي المحلّي الحر. وقائل ربما يقول لكنّ هناك فنانين على خُلق وأجيب هؤلاء: المشكلة ليس مع الفنان بحدّ ذاته بل مع الفنان الإله الذي يتربع على عقولنا دون حول ولا قوة منّا، فسيدنا إبراهيم عندما هدم الأصنام ترك كبيرهم وقال لقومه مستهزئاً: “بل فعله كبيرهم هذا”، وذلك لأنّه يسعى لهدم هؤلاء الأصنام بعقل العامة وعدم الاقتصار على هدمها المادي وهذا ما يجب فعله اليوم في ظل المتغيرات الآنية، فالحالة العاطفية مع الفنانين والمشاهير الفارغين هو بحد ذاته تحول لمرض نفسي خطير لا يؤثر على الإنسان ذاته فحسب بل يؤثر على الحضارة والدين ومفهوم الإنسان كإنسان عاقل مفكّر ومحب، لذا ما يجب هو هدم هؤلاء الفنانين في عقولنا وتقويض الفن بأساليب وطرق وليس القضاء على الفن بذاته بالمطلق ولكن هذا لا يتم بمعزل عن صناعة منظومة اجتماعية متكاملة ومتناغمة، أمّا الفن ضمن المنظومة السياسية والاجتماعية الحالية فهو هُبل معاصر بلا منازع وتكريسه في المعادلة الاجتماعية كارثة حضارية ويؤثر على ولادة الحوامل والفواعل الاجتماعية المسؤولة عن نهضة الحضارات.

تسويق لشخص

   وبناء على ما سبق يتفهم المتابع سلوك الإرادة السياسية المتحكّمة وسعيها منذ بداية الحراك الشعبي العربي إلى تسليط الضوء وتعويم بعض القيادات الفنّية والإعلامية والرياضية وتسويقها للرأي العام كرموز وطنية للحراك الشعبي ذاته، وهذا الأمر والظاهرة في غاية الوضوح في سوريا والسودان ولبنان، ويبدو جلياً أن دافع تسويق السياسة المتحكّمة للقيادات السلكونية الفنية هو الخوف من أن يُفرز الحراك قيادات فكرية وأيديولوجية وسياسية واجتماعية، لأنّ تسويق فنان أو إعلامي هو تسويق لشخص، أما تسويق سياسي أو قيادة دينية معتدلة هو تسويق لأيديولوجية وفكر، وهذا ما لا يريده البتة الفاعل السياسي للحراك الاجتماعي العربي، زيادة على ذلك فإنّ تسويق الشخصيات الفنية والإعلامية هو تسويق لأداة مسبقة التصنيع وجاهزة للاستخدام من قبل الأنظمة السياسية والتي تختار هذه الشخصيات بعناية وبناء على خلفيتها الأيديولوجية وقابليتها للتطويع والاستخدام، لذا فإنّ استراتيجية تأطير الرأي العام وسوسه بواسطة شخصيات فنّية ومشاهير هي احتلال لحيّز الرمزية ومصادرة اجتماعية لاحتمالية ولادة التدافع العربي والإسلامي لحوامل سياسية واجتماعية وفكرية وثقافية قادرة على المقاومة الحضارية المدنية المستقلّة النابعة من تصورات ومفاهيم دقيقة قادرة على بناء الذات الاجتماعية والسياسية والفكرية بالتوازي مع مصارعة النقيض أو المحتل الثقافي والاجتماعي!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه