الدراما والوطنية والإرهاب

 

لست ناقدًا دراميًا، ولكني مشاهد ومتلق قديم للأعمال الدرامية، خاصة في رمضان، ولست إرهابياً مأجوراً ولا وطنياً رسمياً من الذين يتماهون في الحاكم ويذوبون فيه عشقاً.

لماذا هذه المقدمة التعريفية؟ لأني ببساطة لا أريد من القارئ بعد أن ينتهى من المقال أن يصنفني ضمن فرقة من الفرق التي سأتعرض لها في كلماتي.

رغم ما ذكرته في البداية من أنني مشاهد للأعمال الأدبية، خاصة في رمضان، إلا أنني لم أشاهد أي عمل من الأعمال الدرامية هذا العام، خاصة مسلسل الاختيار، الذي سأتحدث عنه مستندًا على الدعاية المبالغ فيها التي سبقت عرضه وعلى المشاهد المتقطعة التي تم فرضها علينا في القنوات وعلى الإنترنت، وكل هذا يكفي لمعرفة تفاصيل المسلسل وهدفة والتنبؤ حتى بمشاهده المباشرة والموجهة التي تستهدف إثارة المشاعر الإنسانية، واستغلالها لصالح طغمة تحكم، ولو بالابتزاز أو الاغتصاب.

الدراما الموجهة

تعلمنا على يد السلف الصالح من النقاد والمثقفين أن أسوأ أنواع الأعمال الأدبية والدرامية هي الأعمال الموجهة بتعليمات لفرض صورة ذهنية معينة حول أحداث أو أفراد، وأن أفضل الأعمال الأدبية والدرامية هي التي تكون تفاعلا بين الانعكاس الصادق للواقع والمشاعر الإنسانية بلا رتوش ولا تجميل، حتى لو كانت ذات أهداف سياسية، ولهذا مثلاً نلاحظ ضعف كثير من الأعمال السينمائية الهوليودية التي تناولت الحرب العالمية مدفوعة بأهداف سياسية للدعاية للبطولات الأمريكية وتهميش أدوار الدول الأخرى، مقارنة بأفلام كثيرة تناولت هذه الفترة من خلال أحداث ومواقف إنسانية.

وأيضا على المستوى المحلي، وعلى سبيل المثال، إذا ما قارنا بين فيلم «في بيتنا رجل» وفيلم «بور سعيد»، فرغم أن كلاهما يتناول موضوعا واحدا وهو الجهاد ضد المحتل الأجنبي، إلا أن الأول تناول الموضوع من خلال قصة إنسانية واقعية تعكس كل المشاعر البشرية وطنية وعاطفية وغيرة وخيانة وندما، سطرتها يد الأديب الراحل إحسان عبد القدوس، فخرج عملا فنيا متكاملا وتبوأ مكانة متميزة في تاريخ السينما المصرية، أما العمل الثاني «بور سعيد»، فرغم مشاركة نخبة من الفنانين المصريين المتميزين فيه ورغم أنه يتناول نفس الموضوع وهو الجهاد ضد المحتل، إلا أنه خرج عملا ماسخا مائعا لا لون له، ودخل بسرعة شديدة دائرة النسيان، لأنه كان تقريبا أشبه بتنفيذ تكليف إداري من الدولة آنذاك لعمل فيلم يعلي من الدور النضالي للدولة والشعب في مواجهة العدوان الثلاثي، فخرج بلا روح ولا معنى رغم سمو هدفه.

عاصرت الدراما الرمضانية عندما كانت تتناول موضوعات اجتماعية إذاعية مثل “أفواه وأرانب”، وموضوعات إنسانية مثل مسلسل الأم، وموضوعات فلكلورية تراثية مثل شفيقة ومتولي، وحتى عندما كانت المسلسلات تتناول موضوعات سياسية كانت انعكاسا حقيقيا للواقع، وتعبير عنه بحلوه وبمره وبعيدا عن هدف إرضاء السلطة، مثل مسلسل “ليلة القبض على فاطمة”.

دراما الإلهاء

وبعد هزيمة 1967 ظهرت كارثة الدراما الموجهة المقصود بها إلهاء الشعب عن التفاعل مع مشاعرهم الوطنية الممزوجة بمرارة الهزيمة، فظهرت مسلسلات الإلهاء وأبرزها ثنائيات فؤاد المهندس وشويكار «شنبو في المصيدة»، «أنت اللي قتلت بابايا»، «العتبة جزاز»، «أنا وبابويا على نص أخويا»

وبعد عام 1973 وتحريك الموقف على الحدود الشرقية مع إسرائيل عام 1973، بدأت الأعمال الدرامية الموجهة لتأكيد صورة ذهنية حول نصر عسكري متكامل، ونجاح بطولي للقيادة السياسية الحاكمة آنذاك، لتصبح فيما بعد ستارا تختفي وراءه تحركات سياسية تجاه التقارب مع العدو الصهيوني وحليفه الأمريكى تحت دعاوى السلام، ويتحول بعدها النصر إلى مقدمة لمؤامرة انقلبت بالوضع وأصبحت بعدها حكومات مصر وكثير من الدول العربية ،تابعة لإرادة الصهيونية وحليفها الأمريكي يتحكمون في مقدرات المنطقة وأحداثها السياسية، وهو ما أدى إلى انهيار على كافة النواحى داخل المجتمع المصري.

ما علينا وليرجع مرجعنا إلى الأعمال الدرامية الموجهة، كما قلت فهناك فرق بين الدراما التي تشكل انعكاسا حقيقيا لهموم مجتمع وواقعة، والدراما السياسية الموجهة، وهذا يظهر بوضوح في مراحل مختلفة شهدت أعمالا درامية موضوعها القضية الوطنية المتعلقة بالاحتلال الصهيوني، إلا أنها كانت مختلفة من ناحية التأثير والشكل بحسب الدوافع والأهداف منها، ففرق كبير بين فيلم “أرض السلام” لفاتن حمامة وعمر الشريف الذي تم إنتاجه في الخمسينيات من القرن الماضي ليناقش التضامن الشعبي العربي في مناصرة الشعب الفلسطيني ضد المحتل الغاصب الصهيوني، وأيضا أفلام ما بعد هزيمة 1967 المعبرة عن الواقع الحقيقي لأزمة الشعب المصري وإحساسه بمرارة الهزيمة مثل فيلم: العصفور، وفيلم أغنية على الممر، وهو مالم يتوافق مع مصلحة النظام الحاكم آنذاك الذي كان يستهدف استخدام الدراما، وسيلةً لإلها الشعب ودفعة لنسيان الهزيمة؛ فكانت الأعمال التي ذكرت لها أمثلة من ثنائيات فؤاد المهندس وشويكار، وعقب عام 1973 بدأت موجة أفلام النصر على العدو الصهيوني بمجموعة أفلام كان أبرزها أفلام: “أبناء الصمت”، و”الرصاصة لا تزال في جيبي” وغيرها، وهنا وبنظرة نقدية يظهر بوضوح الفرق في المستوى الفني ومستوى الأداء بين الأفلام المعبرة عن الواقع والأفلام ذات الأهداف الحكومية الموجهة، وهو أمر لن يثار حوله جدل كثير لوضوحه لرداءة النوع الثاني وضعفة وركاكته، وقوة النوع الأول ورسوخه بقوة في ذاكرة السينما المصرية.

دراما الاستغلال السياسي

وعندما بدأ التقارب السياسي بين النظام المصري والعدو الصهيوني، وبدأت الصورة البشعة للصهيوينة في الظهور بوضوح في المنطقة العربية وخاصة من خلال المذابح التي ارتكبوها تجاه الشعب الفلسطيني، كان لا بد للحفاظ على هذه المصالح أن تغير مسار المشاعر الوطنية من العداء للصهيونية التي أصبحت صديقا، إلى العداء لعدو جديد يجذب الالتفاف حول قيادة النظم الحاكمة الموالية للمؤامرة الصهيونية العالمية بدلا من الثورة عليها، فبدأت فزاعة الإرهاب، الذي كان جزءا منه حقيقيا، وانعكاسا لانهيار مجتمعي مقصود، وكان جزءا مصنوعا، وجزءا ثالثا دعائياً، وبدلا من العدو الصهيوني أصبح الهدف الإرهاب الأسود الذي يهدد الوطن ويستلزم تنازل الشعب عن أي خلافات بينه وبين النظام الذي يحكمه، فبدأت سلسلة الأعمال الدرامية حول الإرهاب والتفجيرات والاغتيالات، التي أغلبها في الحقيقة مجهولة المصدر والهدف

الاختيار

الموضوع تفاصيله كثيرة ويحتاج للتناول من أكثر من زاوية إلا إنني أريد التعرض لمرحلة نوعية مختلفة يتم فيها استخدام الدراما هذه الأيام بهدف تأكيد أهمية الالتفاف حول النظام الحاكم الحالي، رغم كل إخفاقاته في الحكم وانتشار الفقر والمرض والانهيار المجتمعي على مستويات الصحة والتعليم والثقافة بل وفي كل النواحي، وهي مرحلة استخدام سيرة الشهداء والموتى كأحجبة جاذبة ودعائية للسلطة، وأقصد الشهداء في سيناء وغيرهم من خيرة شباب مصر، الذين دفعوا حياتهم في حرب مع عدو مجهول، وحرب بلا أهداف أو ذات أهداف مريبة منها إبعاد النظر عن المخاطر الحقيقة على الوطن سواء من ناحية الحدود الشرقية مع إسرائيل أو ما يتعلق بها من ناحية الحدود الجنوبية مع إثيوبيا ومخاطر سد النهضة، وكلها في النهاية تتعلق بالتمكين الصهيوني في المنطقة وتدعيم مشروع شرق أوسطي يمكن من هيمنة دول استعمارية على المنطقة وتقسيمها على غرار التقسيمات الاستعمارية لنفس المنطقة في بداية القران الثامن عشر.

ومن هذه الأعمال الدرامية المغرضة مسلسل الاختيار الذي استخدم سيرة شهداء من أبناء الوطن أمثال الشهيد أحمد المنسي والشهيد هيثم فتحي وغيرهما، من الشهداء من الجنود، من بسطاء وغلابة هذا المجتمع، وحتى تناول صورة الإرهابي جاءت ناقصة ومشوهة وخالية من أي حقيقة تجعلنا نضع يدنا عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء موقف هشام العشماوي، الذي انتقل بنفسه من صفوف الجنود المدافعين عن الوطن إلى صفوف المعارضة المسلحة للنظام الحاكم، ولم يفكر النظام بنفس الأسلوب الذي اتبعه بنجاح جزئي النظام الحاكم فترة حكم أنور السادات عندما ظهر شكري مصطفى مؤسس جماعة التكفير والهجرة، التي اغتالت الشيخ محمد حسين الذهبي وزير الأوقاف آنذاك، وهو الأسلوب الذي لم يتوقف في مجابهة هذه الجماعة عند حد محاكمتهم وإعدامهم، وإنما وضع هذه الحالات قيد البحث والدراسة على يد العديد من علماء النفس والجريمة ليصل إلى أسباب تحول شخص مثل شكري مصطفى من شاعر لقاتل وإرهابي، وشخص مثل أحمد طارق من ضابط شرطة لقاتل في جماعة التكفير والهجرة، لتتكشف نتائج مهمة أبرزها أن التحول في شخصية شكري مصطفى تجاه الإرهاب جاء نتيجة التعذيب البشع الذي مورس عليه أثناء حبسه فترة حكم جمال عبد الناصر.

الشاهد من كلماتي والخلاصة أن النظام يتخذ من الأحداث وسيرة الشهداء وألام أسرهم وسيلة لخلق حالة من الاستنفار تجاه الالتفاف حوله وتأييده بدلا من وضع يده على الأسباب الحقيقية للأزمة التي يرى البعض أنه جزء من صناعها.

أتذكر قول الشاعر الراحل نجيب سرور: «إذا أصبح عذاب الموتى سلعة أو أحجبة أو أيقونة فعلى العصر اللعنة والطوفان قريب».

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه