مقتطفات من يوميات مصري في المحروسة

وأفهمني أن الشكوى الجماعية تعتبر تمردا، ولو هناك مشكلة فعلى كل فرد التقدم بشكوى عن نفسه، وأنهى كلامة بتعبير “الجيش فيه أنا مافهوش إحنا”

 

 الليلة عيد والكل سعيد، وكل سنة وأنتم طيبون وبخير وبسعادة. في مصر مثل مشهور يقول: “بعد العيد ما يتفتلش كحك” المقصود الأمور والتصرفات والقرارات التي تحدث وتصدر بعد فوات أوانها، ولكن للأسف طوال الوقت في مصر ما “بيتفتلش الكحك غير بعد العيد”، فمعظم كوارثنا سببها أن القرار أو الانتباه أو الاهتمام بالكوارث لا يحدث إلا بعد فوات الأوان.

وهذا ما ساد وطغى على يومياتي في هذه الفترة العصيبة التي أكتب لكم البعض القليل منها:

الشقة اللي فيها كورونا :

“إيه اللي حصل لنا يا مصريين” لما كان حد يوصف مصر كان “بيقول البلد اللي لو واحد حصلت له حادثة فيها الناس تجري عليه وتشيله، ومصر لما اتصابت بالكوليرا في الأربعينيات من القرن الماضي، شباب القرى جهزوا الساحات لعزل المرضى ورعايتهم”، الغريب ما نسمعه الآن من أن أما تموت بكورونا ويرفض أبناؤها دفنها، خوفا من العدوى، وهو خوف مبالغ فيه وفي غير محله، أو طبيبة تموت أثناء القيام بواجبها في مواجهة المرض، ويرفض أهل قريتها دفنها خوفا من العدوى، وبالأمس كانت مأساة أسرة مكونة من زوج وزوجة وابن وابنة أصيبوا بالمرض، والزوج في حالة متأخرة، ورفض المستشفى استقباله لعدم وجود أماكن، واضطرت الأسرة إلى العزل في المنزل، وبمجرد أن علم الجيران بالأمر فرضوا عليهم حصارا في الخروج والدخول، واستقبال أطعمة أو أدوية، بل قطعوا عنهم المياه! وعندما حاولت الأسرة جلب الطعام من محلات توصيل الأطعمة للمنازل، كان عامل المحل عندما يعرف العنوان يسأل: “الشقة اللي فيها كورونا؟” ويقطع المكالمة!

الزوج حالته تتردى واقترب من الموت وهو المصير الذي ينتظر بقية الأسرة بعده بساعات أو أيام، ومنذ أيام هرب مصاب بكورونا من مستشفى حكومي نتيجة الإهمال وسوء أحوال المستشفى الذي يمكن أن يسبب مرضا لإنسان سليم، والمفاجأة أن بعض الأهالي طاردوه كالكلب الأجرب في الشارع!

 هل سنقتل المرضى في الشوارع كما نقتل الحيوانات الضالة؟

ماذا حدث للمصريين الذين كانوا إذا مرض سابع جار لهم يحملونه على الأكتاف ويجرون به للمستشفى؟ هل هو الفقر أم اليأس أم فيروس أخطر من كورونا أصاب المجتمع المصري؟ كل عام وأنتم بخير.

حكومات النذالة الميري:

علمتنا حكوماتنا والأنظمة الميري التي تحكمنا الفردية والأنانية وهي قيمة تتعارض مع كل مفاهيم الحكم الديمقراطي الذي يعتمد على وعي الشعوب، وهذه القيمة السلبية نتاج تفاعلي طبيعي مرتبط بمنطق العقلية العسكرية عندما تتورط وتنخرط بالسياسة وتصل للحكم، فالأصل في العسكرية هو الطاعة والعزوف عن التحرك الجماعي، والعسكري لا يحق له في هذا المجتمع إلا التعبير عن نفسه فقط، وأية محاولة للتعبير عن مشكلات جماعية تعتبر في العسكرية جريمة تستوجب المحاكمة، وأتذكر عندما كنت أحظى بشرف الخدمة العسكرية، أن تعرضت مجموعتي لمشكلة تتعلق بعدم توافر مياه الشرب، فأخذت الفرقة وذهبت للضابط المسؤول الذي انتفض وكأن حية لدغته، وأخذ يصرخ بأوامر فهمنا منها أنه يأمرنا بالانصراف الفوري، وطلب مني الذهاب للمكتب، وهناك أخذت أول درس ميري حيث أخبرني الضابط أنه يرأف بحالي وبجهلي ولن يحيلني للمحاكمة وأفهمني أن الشكوى الجماعية تعتبر تمردا، وأنه لو هناك مشكلة فعلى كل فرد التقدم بشكوى عن نفسه، وأنهى كلامة بتعبير “الجيش فيه أنا مافهوش إحنا”، ولهذا تفهمت الحوار المشهور بين الصاغ أنور السادات رئيس الجمهورية والنائب كمال أحمد في السبعينيات من القرن الماضي عندما تحدث النائب عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية ومنها البيض “والناس مش لاقية فلوس تشتري بيض”، قاطعه السادات وسأله: “أنت يا كمال دخلك ما بيسمحش لك تشتري بيض؟”، فأجابه النائب: “بيسمح”، رد عليه السادات: “طب أقعد”، هو نفس المنطق العسكري الفردي الذي جعل السادات يتجاهل أن النائب يعبر عن حال جموع المواطنين الذين انتخبوه وليس عن حاله وحده، هو نفس المنطق الذي جعل الحكام ذوي الأصول العسكرية وأنظمتهم وحكوماتهم يطاردون المواطنين المحتجين أو المعارضين في الشوارع ويقتلونهم في الميادين ويلقون الشباب في السجون، لأنهم يحاولون التعبير عن معاناة الشعب والبحث عن حلول جماعية للمشكلات، وهذا في عرف المرجعيات العسكرية جريمة كبرى، وللأسف مع طول فترة حكم المرجعيات العسكرية انعكس هذا المنطق الأعوج على الشعب وتأثر الكثير من الفئات و الأجيال به، وهو ما أدى إلى تدهور وانهيار كثير من قيم الكرم والشهامة ودماثة الخلق بين المصريين لننتهي لمشهد رفض أبناء دفن أمهم الميتة، أو حصار سكان عمارة لشقة مرضى وحرمانهم من الماء والطعام حتى الموت بحجة الخوف من العدوى، إنه تفاعل الطبيعة العسكرية مع السياسة والحكم. وكل عام وأنتم بخير.

رجل الأعمال وتمثيلية الدولة الرشيدة :  

 “اصطبحنا واصطبح الملك للمالك، كان أول خبر أستقبله في هذا اليوم الرمضاني الاحتجاج شديد اللهجة الذي صرخ به رجل الأعمال فرج عامر ضد قرار الدولة بمنح العمال إجازة عيد الفطر خمسة أيام مدفوعة الأجر، لما فيه من إجحاف وظلم لرجال الأعمال، واستقبلت الخبر بريبة أقرب لليقين بأن هناك أمرا غير طبيعي لمعرفتي الوثيقة بطبيعة الارتباط بين الرأسمالية المصرية النتنة والحكومة المصرية وهي العلاقة شديدة الشبه بالزواج الكاثوليكي، فمجتمع رجال الأعمال المصري السائد فيه هو أسوأ أنواع الرأسماليات المستغلة غير المنتجة للسلع الاستراتيجية، ويسهم في شراستها هذا التزاوج بينها وبين النظام الحاكم الذي جعل منها سلطة شديدة الاستبداد والشراسة تدعم النظام الفاشي ويدعمها، ولهذا فالعلاقة بين أصحاب رؤوس الأموال والعمال هي علاقة استغلال ومص دماء من دون أية مظلة حماية حكومية أو نقابية للعمال، بل العكس غالبا ما تكون مظلة الحماية الحكومية موجهة لحماية رجال الأعمل ومساندتهم في استغلال العمال وهو ما يفسر كميات الفصل من العمل التي شهدتها الكثير من المؤسسات الخاصة في الفترة الأخيرة، وكثير من مشاهد تدخل أجهزة الأمن لمطاردة ومعاقبة العمال المحتجين على سوء علاقات العمل وتدني الأجور، هذا غير القوانين والقرارات التي يتم إصدارها لتمكين رجال الأعمال من استغلال العمال، بل إن الأمر وصل في بعض المؤسسات إلى أن طلبت الإدارة الممثلة لأصحاب العمل من بعض العمال الاستقالة غير المسببة تحت ضغط التهديد بأجهزة الأمن والاعتقال والمطاردات، ولهذا فإن صدور قرار بمنح العاملين خمسة أيام إجازة بأجر فترة العيد، ليس ميزة كبيرة للعمال المنتهكة حقوقهم بشكل واضح والمستغلين أبشع أنواع الاستغلال، وليست ضررا كبيرا على رجال الأعمال القادرين على تعويض هذا الأجر المدفوع في الخمسة أيام من عرق العمال أنفسهم، هذا بالإضافة إلى أنه ليس هناك آلية تمكن الحكومة من معاقبة رجال الأعمال الذين يمتنعون عن تنفيذ هذا القرار بدليل آلاف الأحكام الصادرة من المحاكم العمالية لصالح العمال والمركونة بسبب تواطؤ الأجهزة التنفيذية والحكومة مع رجال الأعمال

لهذا استقبلت خبر غضب رجال الأعمال من قرار الإجازة استقبال مرتاب وتعاملت معه وكأني أتعامل مع مشهد الزوجة الصغيرة التي تمثل الغضب والدلال على زوجها العجوز العاجز لابتزازه في طلب ما، فهكذا هي العلاقة بين الرأسمالية الفاسدة والنظام الحاكم الأكثر فسادا. وكل عام وأنتم بخير.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه