ازدهار بنغلاديش: دروس اقتصادية إلى السلطة المصرية

طحن بلا ضجيج، ارقام تتحدث عن نفسها، تغيرات اقتصادية هيكلية وجذرية، انعكاسات ملموسة على المواطن بصفة عامة وعلى الفقراء علي وجه الخصوص، وبالاعتماد على الذات وليس على وصفات صندوق النقد الدولي، ومن دون مزايدات على المواطن وحرياته، ومن دون تأنيب الشعب على الإنجاب وتهديده بحرمان أطفاله من بطاقة التموين، ومن دون تقسيم الشعب إلى صالحين يؤيدون السلطة وخونة يعارضونها، ومن دون مؤسسة عسكرية تنفذ المشروعات وتهيمن علي مقدرات الامة، ولا سلام وطني يعزف في استقبال المستشفيات وقبل مباريات كرة القدم، وكذلك من دون تحيا بنغلاديش ثلاث مرات.

 من دون كل ما سبق حققت بنغلاديش طفرات اقتصادية مشهودة، وفي سنوات معدودات، تتقارب مع ما أمضته السلطة المصرية الحالية في الحكم، ولا تزال عوائد منظومتها الاقتصادية والمرسومة من صندوق النقد الدولي لم تترجم إلى إنتاج حقيقي يخلق فرص عمل لطوابير العاطلين، ولم تنمِ القطاعات الإنتاجية الرئيسية الداعمة للتنمية الحقيقية والمستدامة، وضلت الطريق نحو المواطن المصري، ولم تعرف إلا جيوب الفقراء والبسطاء لتسدد فاتورة عجز موازينه الاقتصادية المختلفة.

وتأتي أهمية مقارنة التجارب الاقتصادية بين الدول المتشابهة الظروف والمؤشرات الرئيسة ليس من أجل المكايدة السياسية وإنما لاستخلاص الدروس والعبر التي يمكن الاستفادة منها لتحقيق الأهداف المنشودة، وكذلك للتأكيد على أنه مهما حدث من ترويج لإنجازات مزعومة فلا يمكن الاعتداد بها الا عندما تسد احتياجات المواطن البسيط الذي من المفترض أن يكون الهدف الرئيس لأي اصلاح مخطط، وربما تقدم هذه المقارنات دفعة للمواطن للمطالبة بحقوقه، وتنبيها للسلطة أنها ضلت الطريق.

ومن الجدير بالذكر أن حجم التبادل التجاري بين مصر وبنغلاديش يقدر بنحو 100 مليون دولار، وتاريخيا كان الميزان التجاري بين البلدين إيجابيا في صالح بنغلاديش، ومؤخرا فقط ارتفعت قيمة الصادرات المصرية نحو50 مليون دولار، ليتعادل الميزان بين البلدين. ومن أهم الصادرات المصرية الأسمدة الزراعية، والحديد والصلب، والمنتجات التعدينية، بينما تتركز الواردات المصرية منها في قطاع الغزل والنسيج.

بنغلاديش معجزة اقتصادية حقيقية

لم نكن نسمع عن جمهورية بنغلاديش التي تقع في الجنوب الشرقي من القارة الآسيوية الا أحاديث كوارث الفيضانات والمشردين، فكانت تصنف خلال القرن الماضي من بين الدول الأكثر فقرا في العالم، خاصة مع عدد سكانها الكبير والذي يبلغ 165 مليون نسمة تقريبا، ومساحتها المحدودة البالغة 147 ألف كيلو متر مربع، كما أنها دولة لا تمتلك ثروات طبيعية كبيرة وهي فقط محظوظة بثروتها الهائلة من الموارد المائية المتنوعة فى البرك، والمنخفضات الطبيعية (هاروس وبييل)، والبحيرات، والقنوات، والأنهار والمنخفضات الساحلية، أي انه يمكن القول ببساطة إنها دولة لا تمتلك إلا البشر والماء.

ورغم فقر الثروات الطبيعية فإن بنغلاديش وفي سنوات قليلة استطاعت أن تحقق تقدما اقتصاديا ملفتا، ويري الكثير من الخبراء الاقتصاديين أنه يجب تصنيف الازدهار الاقتصادي الذي تحقق مؤخراً باعتباره أفضل قصة نجاح اقتصادي في العالم، وأن الدولة الصغيرة الفقيرة أضحت مثالاً لقصة نجاح اقتصادي كبيرة.

وطبقا لبيانات البنك الدولي فقد حققت بنغلاديش نموا اقتصاديا فاق دول العالم المختلفة خلال الأعوام العشرة الماضية، كما أنها حققت معدل نمو بلغ 7.86% عام 2018، وطبقا لتوقعات المؤسسات الدولية فان البلاد ستحقق نمواً حقيقياً سنوياً لإجمالي الناتج المحلي نسبته 7.7 في المئة عام 2018-2019 حتى 2022-2023. وتتوقع الحكومة البنغالية أن يتجاوز النمو السنوي 9 في المئة خلال الأعوام الخمسة المقبلة.

وأوضح تقرير لمؤسسة الأبحاث العالمية لمصرف «إتش إس بي سي»، أن اقتصاد بنغلاديش سوف يقفز 16 نقطة بين عامي 2018 و2030، وهو المعدل الأعلى بين الدول. وقدّر حجم اقتصادها عام 2030 بحوالي 700 مليار دولار، مقارنةً بنحو 300 مليار دولار حالياً، ومقارنة بحجم ناتج محلي إجمالي للبلاد بلغ 102 مليار دولار في عام 2009. أي أنه تمت مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي مقوما بالدولار مرتين كاملتين خلال عشرة أعوام فقط.

بالطبع انعكس معدل النمو المرتفع والمستمر علي زيادة متوسط دخل الفرد، والذي زاد من 870 دولارا عام 2011 إلى 1080 دولار اعام 2014 ثم إلى 1.610 عام 2017 وأصبح 1.751 دولاراً عام 2018، أي بمعدل زيادة 201% تقريبا خلال أقل من عشر سنوات.

كما استطاعت بنغلاديش من خلال استمرار معدل النمو المرتفع مساعدة 50 مليون شخص على انتشال نفسها من براثن الفقر خلال عقدين، حيث قلصت معدلات الفقر من 44.2 في المئة عام 1991 إلى24.3% عام 2016. كما انخفضت نسبة السكان تحت خط الفقر المدقع 1.9 دولار/ يوميا من 34.8% عام 2000 إلى 14.8% عام 2016.

وحسب تقرير الثراء العالمي لعام 2018 تصدرت بنغلاديش قائمة الدول التي شهدت أسرع زيادة في عدد الأثرياء بين عامي 2012 و2017، حيث ارتفع عدد الأفراد الأكثر ثراء في بنغلاديش بنسبة 17.3 في المئة خلال تلك الفترة، ومن الجدير بالذكر ان التقرير يعرف الأفراد الأكثر ثراءً بأنهم الأشخاص الذين يمتلكون أصولاً قابلة للاستثمار تقدّر بنحو 30 مليون دولار على الأقل، مع استبعاد الأصول والعقارات الشخصية، مثل المنازل الأساسية، والمقتنيات، والسلع الاستهلاكية.

كما شهدت البلاد تدفقات قوية من النقد الأجنبي، كانت مصادرها الرئيسة من الصادرات والحوالات المالية والمساعدات الخارجية والمنح، وكذلك من خلال الاستثمار الأجنبي المباشر، حيث نجحت في جذب استثمار أجنبي مباشر يقدّر بنحو 3 مليارات دولار خلال 2017-2018، كما أظهر تقرير بنك بنغلاديش أن حجم التحويلات المالية المرسلة من المغتربين إلى البلاد وصل إلى مستوى قياسي مرتفع جديد في عام 2019، حيث بلغ مقدار التحويلات حوالي 18 مليار دولار.

وقد زادت صادرات بنغلاديش بصورة كبيرة خلال العقدين الفائتين، فبينما كانت 6.5 مليار دولار فقط عام 2000 تزايدت إلى 11.7 مليار دولار عام 2006 ثم قفزت إلى 25.5 مليار عام 2011، ثم توالت قفزاته حيث بلغت 32.8 مليار عام 2014، وأخيرا 37.5 مليار دولار عام 2018.  وبذلك فقد كان معدل النمو السنوي للصادرات البنغالية يتراوح بين 15 و17 % خلال السنوات العشر الأخيرة.

 كما تزايد اهتمام الحكومة بالقطاع الصناعي والذي أضحى يساهم بنحو 19 % من الناتج المحلي الإجمالي وبنحو 96.8 % من إجمالي الصادرات خلال 2017و2018، واستأثرت صناعة المنسوجات وحدها بنحو 80 % من إجمالي الصادرات البنجالية خلال العامين 2017 و2018، حيث صدّرت بنغلاديش ملابس تجاوزت قيمتها 28 مليار دولار، محققة المركز الثاني عالمياً بعد الصين، ويعمل في هذه الصناعة نحو 4.4 مليون شخص، 3 ملايين منهم من النساء.

وبالطبع انعكست تدفقات النقد الأجنبي السابق ذكرها على احتياطي النقد الأجنبي في البلاد والذي تزايد بأكثر من 450% على مدى الأعوام العشرة الماضية، حتى بلغ 33.3 مليار دولار في منتصف العام الماضي.

ورغم التزايد السكاني الضخم خلال العقد الماضي فإن النمو الاقتصادي استطاع أن يستوعب الأعداد المتزايدة الداخلة إلى سوق العمل، واستمر معدل البطالة المنخفض في البلاد على حاله تقريبا منذ عام 2000 والذي بلغ خلالها 3.3% بينما تراوح بين 4.3% و4.4 في الأعوام الخمسة الأخيرة. كما استمر معدل البطالة بين الذكور في حدود 3% إلى 3.3 % خلال السنوات الخمس الأخيرة، بينما انخفض معدل البطالة بين الإناث من 7.1% عام 2005 إلى 6.5% عام 2018.

التعليم والنساء

يمثل التعليم، لاسيما تعليم الإناث، أحد اسرار النجاح في بنغلاديش، حيث حفزت البلاد خطى تطوير التعليم من خلال تبني الوسائل التكنولوجية ودخوله الي العصر الرقمي.

وقد زاد الإنفاق العام على التعليم كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي من 1.9% عام 2009

إلى 2.1% عام 2000 ثم 2.5 عام 2017، كما زاد الانفاق على التعليم كنسبة من الإنفاق العام الكلي من 14.3% عام 2009 إلى20% عام 2000ـ، ليبلغ 18% عام 2017، وتعكس هذه الأرقام زيادة المخصصات المالية الحكومية الموجهة إلى قطاع التعليم خلال العقدين الأخيرين.

وقد تزايدت نسبة الملتحقين بالتعليم بمراحله المختلفة من 5.6% من إجمالي السكان عام 2000 الي 20.6% عام 2018، كما تزايدت نسبة الإناث منهم من 3.7% عام 2000 إلى 17% عام 2018.

وتشير الأرقام السابقة إلى أن الدولة اتخذت خطوات مهمة باتجاه التعليم بصفة عامة وتعليم الفتيات علي وجه الخصوص، وقد تواكب التوسع التعليمي مع منح النساء -والمجتمع بصفة عامة-فرصة أكبر للتعبير، سواء على مستوى الأسرة أو في المجال العام.

وساعد الازدهار الاقتصادي على توفير فرص عمل للملايين من السكان، وبصفة خاصة النساء اللاتي بدأن في تقاضي رواتب للمرة الأولى. كما نجحت برامج التنمية في قطاع الاستزراع المائي في المناطق الريفية في جعل ربات المنزل- اللاتي كنّ مواطنات من الدرجة الثانية – من أصحاب الدخول، ما حسّن مستوى الأسر ووضعها الاجتماعي.

أما عن دور منظمات المجتمع المدني، فيشير الخبراء إلى أنه بفضل جهود المنظمات غير الحكومية مثل “جرامين بنك” – الذي أسسه البروفيسور “محمد يونس” الحائز على نوبل للسلام – ومنظمة التنمية “بي آر إيه سي” وبالإضافة إلى الكثير من الأعمال الموجهة من الحكومة، حدث تحول كبير نحو تعليم الفتيات وزيادة فرص المرأة في المنزل والمجال العام، وقد ترجمت هذه الجهود إلى تحسن تعليم الأطفال وحالتهم الصحية، ووصل متوسط عمر الفرد إلى 72 عاماً، بالمقارنة بمتوسط أعمار الهنود والباكستانيين عند 68 و66 لكل منهما على التوالي.

وتشير إحصاءات البنك الدولي إلى أن نسبة المقاعد التي تشغلها النساء في البرمان البنغالي زادت من 2% في عام 2000 إلى أكثر من 20% في الأعوام الخمسة الأخيرة، ذلك بالإضافة إلى منصب رئيس الوزراء الذي تشغله الشيخة حسينة والتي أدت القسم في يناير/كانون الثاني 2019 للمرة الرابعة على التوالي رئيسة لوزراء بنغلاديش.

 كما أدى تبني التكنولوجيا الحديثة إلى تغيرات اجتماعية، وسرعة في التواصل، وزيادة للرغبة في تحقيق الديمقراطية. وقد عمل البرنامج الحكومي «بنغلاديش الرقمية» على توصيل خدمة الإنترنت والخدمات الحكومية بشكل أكبر إلى أقاصي البلاد. وبلغ عدد حاملي الهواتف المحمولة في البلاد، أكثر من 145 مليوناً، ويمثل ذلك زيادة قدرها 59 مليوناً خلال 6 سنوات فقط.

وطبقا للبيانات المتاحة من البنك الدولي فقد ارتفعت صادرات بنغلاديش من التكنولوجيا المتقدمة من 62 مليون دولار فقط عام 2008 إلى 93 مليون دولار عام 2015. 

وبالإضافة إلى ما سبق فقد دعمت الحكومة مبادرات الشمول المالي، فأصبح 34.1% من البالغين البنغال لديهم حسابات بنكية في 2017، وقاموا بعمليات مصرفية عبر الإنترنت، بالمقارنة بمتوسط 27.8% في غرب آسيا، و10.4% فقط من الحسابات المصرفية في بنغلاديش كانت من دون عمليات إيداع ولا سحب، مقابل 48% في الهند، وفقاً لبيانات البنك الدولي.

 ويرى جايشري سنغوبتا، الخبير الاقتصادي في مؤسسة «أوبزرفر ريسرش فاونديشن» أن الازدهار الاقتصادي البنغالي يعود بالأساس إلى نمو استثمارات القطاع الخاص وهو ما أدى إلى  نجاح صناعة الملابس بشكل كبير، حيث ساهم في كبر حجم شركات تصنيع الملابس بالمقارنة بنظيراتها في الدول المنافسة، ويعود ذلك بشكل كبير إلى قوانين العمل المختلفة وقدرة الشركات على التعاقد مع العمال.

الاستعراض السابق عن التطور والازدهار الاقتصادي في بنغلاديش أشار بصورة أساسية إلى التوجه نحو المواطن، فمعدلات النمو والصادرات المرتفعة تساقطت ثمراتها على الفقراء، في صورة تعليم وتمكين للمرأة ونشر للتكنولوجيا وخدماتها المقدمة إلى عموم الشعب، وكان ذلك في ظل إطار من دعم لحرية الراي والديموقراطية، ودور نافذ للقطاع الخاص، ودور منظم وراع من جانب الدولة، وفي ظل حراسة الجيش وقيامه بمهامه الرئيسية المعتادة.

وهكذا فان السلطة البنغالية تقدم الدرس الاقتصادي موجزا وبليغا إلى السلطة المصرية، ومفاده أنه لا يتحقق تحسن اقتصادي دونما مناخ حر يدعم المبادرة وروح الابتكار، وليس للتطور والازدهار الرقمي أهمية الا ببلوغه الفقراء وسداده احتياجاتهم ونشر العالة الاجتماعية بين المواطنين، وان الدور الاقتصادي للمرأة رافعة أساسية تحتاج الي الكثير من الجهد والعمل لكي تقوم بدورها النهضوي، وان لكل وظيفته، فالقطاع الخاص وظيفته سد حاجات المجتمع من السلع والخدمات، بينما تنظم الدولة العملية برمتها وتشارك بما لا يقبل عليه القطاع الخاص، كما أن للجيش دوره الرئيس في حفظ الامن القومي.

وأخيرا فإن كل ما سبق لن يتحقق إلا في ظل الاهتمام بالتعليم والذي يبدا من حتمية زيادة الإنفاق القومي عليه، ويمر بالاهتمام بالمعلمين والباحثين، وينتهي بالوصول إلى معدلات الدول المتقدمة في الإنفاق على البحث والتطوير؟

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه