الجزائر: بعد ستة أشهر من “الصراع” مع القيادة العسكرية

 

ظل الصراع بين “العسكري والسياسي” في جوهر أزمة الشرعية المطروحة في الجزائر منذ الاستقلال، غير أنه لأول مرة يُطرح موضوع طبيعة الحكم في الجزائر بهذا العمق والحدة بين الأوساط الشعبية، ويطالب الجزائريون بصراحة وإلحاح إنهاء حكم العسكر في البلاد، ويدعون إلى دولة مدنية. دشنت ثورة الثاني والعشرين من فبراير/شباط عهدا جديدا في سعي الجزائريين نحو الحرية والديمقراطية، ومنعطفا إستراتيجيا في تطلعهم إلى تغيير نظام الحكم في البلاد تغييرا جذريا.

بعد إسقاط الولاية الخامسة للرئيس بوتفليقة، وإحباط كل محاولات التمديد، والالتفاف على مطالب الشعب، ما انفك المشهد السياسي في الجزائر يتركز شيئا فشيئا ليستقر على سجال ثنائي بين المؤسسة العسكرية بقيادة قايد صالح، والحراك الشعبي الذي يرفض لحد الآن أن تكون له قيادة، ما يكون قد منجه حصانة أكبر ومناعة أصلب في مواجهة محاولات السلطة تفتيته من الداخل.

قايد صالح يضع نفسه في مواجهة الحراك

والحقيقة أن الفضل في استقرار الوضع على هذه الثنائية يعود لتدخلات قائد الأركان في الحياة السياسية واستحواذه على مقاليد الحكم بخطاباته الأسبوعية التي أصبحت تصنع الحدث وتستأثر بترقب الجزائريين. خطابات قايد صالح كانت في معظمها ردودا مباشرة على مطالب الحراك، ومواقف استفزازية تجاهها، ذلك لأنها أولا خرق لدوره الدستوري وسطو على صلاحيات رئيس الدولة، ثم إنها كانت تحمل أحكاما على الحراك الشعبي بالتخوين تارة، وبتهم العمالة لما يسميه العصابة، أو للخارج مباشرة تارة أخرى، هذا ناهيك عن تهم الاختراق، ووصف المطالب التعجيزية أو التي تجاوزتها الأحداث.

قائد الأركان نجح في تنصيب نفسه الخصم الأول والأساسي للثورة الشعبية فأصبح في عين الإعصار الثوري، وفي جوهر الشعارات المنددة والهتافات المستنكرة. لقد تركزت مختلف الشعارات والهتافات والأغاني السياسية حول انتقاد شخص قائد الأركان، ورفض قراراته، واتهامه بالفساد وحماية “العصابة”، والدعوة لمحاسبته والمطالبة برحيله..

خوض قائد الأركان في محاججة الحراك الشعبي مباشرة في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الجزائر، رفع الغطاء عن حقيقة حكم العسكر للبلاد الذي ظل موضوعا مسكوتا عنه. فقد دأبت المؤسسة على تسيير مقاليد الحكم من وراء حجاب أو بالوكالة، أو عن طريق هيئة أو رئيس معين في أحلك الأوقات، كما حدث عقب انقلاب يناير/كانون الثاني عام ألف وتسعمائة واثنين وتسعين.

“هيئة الحوار”.. محاولة إغواء فاشلة

القيادة الجديدة أزاحت عن المؤسسة العسكرية إزار الحياء، فوضعتها في جوهر النقاش. ففي كل ثلاثاء (الحراك الطلابي) وجمعة (الحراك الشعبي العام) تهتف الحناجر في كل شوارع البلاد وساحاتها: “دولة مدنية لا عسكرية”، “بركات بركات(يكفي) من حكم الجنرالات”، “الشعب لا يريد حكم العسكر من جديد” إضافة للهتافات المنددة بقائد الأركان..

الشعب يريد تغيير النظام تغييرا جذريا وإقامة حكم مدني تعود فيه المؤسسة العسكرية إلى حياض الجمهورية مؤسسة دستورية من مؤسسات الدولة تخضع لقوانين الجمهورية ومواثيقها.. لكن القيادة العسكرية لا تنظر للموضوع من الزاوية نفسها، وتصر على البقاء في الجهة المقابلة المعاكسة، تمضي قدما في تنفيذ خطة تبنتها بالموازاة مع إقالة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، تهدف إلى تنظيم انتخابات رئاسية في أسرع وقت وبأي ثمن لضمان بقاء النظام واستمرار إحكام قبضتها على مفاصله..

وتصر قيادة المؤسسة على فرض ورقتها رغم رفض الحراك، وكلما أحبط الحراك الشعبي محاولاتها كلما غيرت الخطة دون الهدف، وعادت لمسعاها من جديد.. هيئة الحوار والوساطة فكرة اهتدت إليها السلطة الفعلية بعد فشل مسعاها الأول بتنظيم رئاسيات في الرابع من جويلية يوليو/تموز الماضي.. الفكرة أرادتها مغرية بإيهام الرأي العام بأنها مستقلة في عملها وقراراتها، فأعلنت عدم تدخلها في تشكيل اللجنة واتصالاتها وعملها، والتزمت بألا تشارك كل مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسة العسكرية في الحوار.

قائد الأركان يلغي التزامات رئيس الدولة…!

غير أن الواقع كان مغايرا فقد حددت السلطة الفعلية موضوع الحوار ورسمت حدوده التي لا تتجاوز موضوع الرئاسيات فقط من حيث الاعداد والتنظيم، حرصا منها على أن تفضي نتائج الحوار إلى تنظيم انتخابات رئاسية وفق تصورها وشروطها وبرعاية إدارتها، انتخابات تزكي مرشح السلطة ولا تترك شيئا للصدفة أو المفاجأة. كما أن التطورات كشفت بأن السلطة الفعلية هي التي اتصلت برئيس المجلس الشعبي الأسبق كريم يونس المقيم في فرنسا وعهدت له رئاسة اللجنة ومنحته إقامة فاخرة وامتيازات مغرية حسب ما يتداولة الناشطون، ودعمته ببعض الأعضاء المضمون ولاؤهم. ثم جاءت الصدمة الكبرى التي كشفت المستور، عندما رفض قائد الأركان إجراءات التهدئة التي وعد بها رئيس الدولة هيئة الحوار..

الرئيس بن صالح وعد هيئة كريم يونس بإجراءات طمأنة تتمثل في إطلاق سراح معتقلي الرأي الذين حبستهم العدالة بتهمة حمل الراية الأمازيغية، وتخفيف الحصار المضروب على العاصمة أيام الجمعة، وفتح مجال الحريات ووسائل الإعلام.. غير أن قائد الأركان وفي موقف غريب أعلن رفضه تلك الإجراءات جملة وتفصيلا، وذهب إلى أبعد من ذلك بتخوين من يطالبون بها واتهامهم بالعمالة لصالح ما يسميه العصابة. رد فعل قايد صالح فجر الهيئة في بداياتها الأولى بانسحاب عضوين من أعضائها وعدول بعض الأعضاء المحتملين من الالتحاق بها.

وفي تطور مريب للأحداث رُممت الهيئة في سرية تامة بضم أعضاء جدد، وتراجعها عن شروطها بعد نفاد المهلة التي حددتها للسلطة لتنفيذ وعودها بإجراءات التهدئة. وباشرت الهيئة اتصالها بما أسمته فواعل الحراك الشعبي مع شباب اتضح فيما بعد أنهم من مناضلي حزبي المولاة جبهة التحرير والتجمع الديمقراطي الذين أعلنت الهيئة اقصاءهما من الحوار لتورطهما في الفساد وتزكية نظام بوتفليقة. ليتأكد الجميع في آخر المطاف أن هيئة كريم يونس مكلفة هي الأخرى بمهمة تمرير مخطط السلطة الفعلية القديم في ثوب جديد..

“الاحتفاظ بالحكم” غاية تبرر كل الوسائل

مُضي السلطة الفعلية قدما بكل إصرار في وضع ترتيبات الانتخابات الرئاسية وتحديها للإرادة الشعبية، وادعائها بأن كل مطالب الحراك الشعبي الأساسية تحققت تحقيقا كاملا، عوامل تؤكد أن المؤسسة متصلبة في مواقفها لا تقبل المرونة ولا التنازل، وليست مستعدة البتة للتفاوض حول دورها في الجمهورية، أو تصور إمكانية تنازلها عن نفوذها، ودورها، ومكانتها وسطوتها ومزايا ضباطها المادية والمعنوية، أو حتى تقاسم السلطة مع المدنيين كما حدث في تجارب أخرى تمهيدا لخروجها السلس والسلمي الآمن من الحكم.

تصلب قيادة المؤسسة، وقد أخرجت صراعها من أجل الاحتفاظ بالحكم إلى العلن على غير العادة، وحرصها على رئاسيات سريعة تحت الطلب، مضمونة النتائج بأي ثمن، مرده حسب العارفين بكنه الظاهرة العسكرية في البلاد، توجسها من المستقبل وما قد تتعرض له من محاسبة وتنكيل كما تفعل حاليا مع بعض “الزملاء السابقين”، إن هي سمحت بمسار ديمقراطي حر وشفاف، هذا طبعا بالإضافة إلى استحالة التفريط فيما يتمتع به الضباط السامون من مكاسب ومناصب ورواتب ضخمة، وتقاعد مترف…

في صراعها مع الحراك الشعبي، وفي مختلف محاولاتها الالتفاف على مطالبه، سعت السلطة الفعلية، في عملية إعادة انتشار واسعة، إلى تغيير مبرراتها وحججها وبالتالي تحالفاتها لاستقطاب تأييد شعبي. فعلى عكس انقلابيي جانفي يناير/ كانون الثاني 1992، تبنت السلطة الفعلية شعارات وطنية وإسلامية على غرار الباديسية (نسبة لرائد النهضة الجزائرية العلامة عبد الحميد بن باديس 04/12/1889-16/04/1940) والقيادة النوفمبرية (نسبة لشهر نوفمبر/تشرين الثاني تاريخ اندلاع ثورة التحرير 1954)..

رعونة السلطة تفتح الأزمة على كل التطورات

وقد نجحت السلطة الفعلية في هذا المسعى ما أعطى الصراع والنقاش حول صدقها وأحقيتها بقيادة الإصلاح بعدا آخر. وأحدث شرخا سلخ من الحراك الشعبي فئة معتبرة من المثقفين مما كان يُعرف بالأكثرية المسحوقة في فترة العشرية الحمراء نهاية القرن الماضي، وتغول التيار العلماني بجناحيه العسكري والمدني الذي كان يوصف بالأقلية الساحقة. كما نجح الحراك الشعبي في منازعة السلطة الفعلية، وإفشال كل محاولاتها للالتفاف على مطالبه، وطرح موضوع الدولة المدنية بقوة. 

وتبدو القناعة مشتركة بين المتنازعين باستحالة نجاح أي طرف في فرض إرادته عنوة على الطرف الثاني.. فلا السلطة الفعلية قادرة على ترتيب أي استحقاق والنجاح في تنظيمه وفق شروطها وأهدافها لضمان استمرار النظام دونما غطاء شعبي، ولا الحراك الشعبي قادر على تغيير النظام وإقامة دولة مدنية دونما استعداد هذه السلطة للتفاوض والحوار استعدادا حقيقيا صادقا..

قناعة مشتركة، لكنها أفضت إلى انسداد ما انفك يحتدم، وتصلب في الإرادات ما فتئ يشتد.. وضع دفع السلطة الفعلية لمناورات جديدة بغية استغفال الحراك الشعبي باختلاق تزكية تبرر لجوءه إلى رئاسيات مفبركة، لكنها تبقى غير مضمونة النجاح.. واضطر الحراك الشعبي إلى تصعيد احتجاجاته السلمية والتهديد باللجوء إلى عصيان مدني مفتوح على كل المخاطر. وضع كارثي ينذر بالانفجار ما لم يتمسك الحراك بزخمه الشعبي وسلميته اللتين حرمتا السلطة من اللجوء إلى القمع والعنف “هوايتها المفضلة” في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية.. وما لم تتدارك السلطة الفعلية غلوها وإفراطها في رفض الإرادة الشعبية، وتتراجع عن غيها وتحترم إرادة الشعب وتعترف بسيادته وبحقوقه الدستورية.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه