العسكر هدفهم واحد.. نحو استنساخ انقلاب 92، بأسلوب ناعم

أسلوب تعامل المؤسسة العسكرية مع الحراك الشعبي استحضار حي لروح انقلاب يناير كانون الثاني 92، وهدفه الأسمى، لكن بأسلوب مغاير وبحجج مختلفة لدفع التغيير والحفاظ على الوضع الراهن

لم يفاجئ قائد الأركان أحدا بتجديد تمسكه بخارطة الطريق التي ورثها عن الرئيس المخلوع أو وضعها بمعيته، وتأكيده على ضرورة تنظيم الرئاسيات المرفوضة شعبيا، رغم انتهاء مهلة إيداع الترشيحات دون تسجيل أي ترشح ذي أهمية، وعدم توفر أي شرط من شروط تنظيمها. فالرجل ماض في مهمته لإنقاذ النظام بأي ثمن. 

ما يزال الفريق متمترسا وراء رفضه الاستجابة لمطلب الحراك تنحية رموز نظام بوتفليقة بحجة أنه “غير موضوعي وغير معقول، بل وخطير وخبيث، يراد منه تجريد مؤسسات الدولة وحرمانها من إطاراتها وتشويه سمعتهم”.. ثم يعود ليجدد تعهده بالاستجابة لمطالب الحراك المشروعة دون أن يوضح عن أي مطالب يتحدث.. قايد صالح لم يتوقف عند هذا فحسب بل وضع نفسه مباشرة في مواجهة الحراك الشعبي من حيث يدري أو لا يدري..

قيادة الأركان – الحراك الشعبي وجها لوجه

فمنذ الجمعة الحادية عشرة بدأ الحراك الشعبي يستقر على مشهد لم يكن أحد يتمنى أن يستقر عليه، قائد الأركان وجها لوجه مع الحراك الشعبي. أصبح قايد صالح واجهة النظام الذي يطالب الحراك بتغييره، وحامي رموزه المرفوضة شعبيا.
وقد تقلب قائد الأركان في ثلاثة مواقف متباينة منذ اندلاع الشرارة الأولى لانتفاضة الشعب الجزائري ضد ترشح رئيس مريض مشلول لولاية خامسة.

مع اندلاع الشرارة الأولى للاحتجاجات كان قائد الأركان منهمكا في توفير ظروف وشروط إنجاح انتخاب الرئيس المخلوع لولاية خامسة.. يتصدى بكل شراسة عسكرية لكل المواقف الرافضة للاستحقاق والدعوات إلى تأجيلها. من هذا المنطلق لم يتردد في تخوين مسيرة الثاني والعشرين من فبراير/شباط الماضي والمشاركين فيها ويصفهم بالمغرر بهم..

موقف سرعان ما اكتشف قائد الأركان أنه كان خارج سياق التاريخ، فالأمر لا يتعلق باحتجاجات حزبية أو فئوية أو مهنية، إنها ملايين الجزائريين تخرج كل جمعة بنسائها ورجالها وشيبها وشبابها في مسيرات سلمية تطالب بوقف المهزلة، فبدأ يقترب من الحراك الشعبي ويبتعد عن الرئيس، ليعلن عن تأييده لمطالب الحراك ويصفها بالشرعية ويتعهد بتلبيتها، ما لم يف به إلى حد الآن ولن يفي به.

فباستثناء دفعه الرئيس إلى التنحي بإرغامه أو بالاتفاق معه، لم يستجب لأي مطلب من مطالب الحراك الشعبي، وظل يداري الحراك بالمواربة والمناورة، حتى نفد صبر الحراك وأضحى يطالب برحيل القايد صالح نفسه، ويصفه مباشرة برئيس العصابة تارة وبحاميها تارة أخرى.

انتهى المطاف بالمشهد السياسي إلى هذه المعادلة الخطيرة قيادة الجيش في مواجهة الحراك الشعبي لمنع حدوث التغيير، مآل لم يكن يستبعده العارفون بطبيعة النظام السياسي في الجزائر شبه الرئاسي المغلق الذي تهيمن فيه المؤسسة العسكرية على باقي المؤسسات بل وتتحكم فيها، جيش يتحكم في الجمهورية ويعين رؤساءها ويتحكم في مصيرها من وراء ستار ويتدخل مباشرة عندما تكون سيادته على الدولة مهددة، وهذه هي عقيدة الجيش.

نزار – قايد صالح وجهان لهدف واحد

إنه سيناريو انقلاب جانفي (يونيو) 92 نفسه، الذي قاده نزار وجماعته بهدف الحفاظ على النظام وتفادي حدوث التغيير الجذري، يتكرر اليوم مع اختلاف في التفاصيل فقط. فكما قاد نزار انقلاب يناير/كانون الثاني 92، يقود قايد صالح انقلابا ضد الإرادة الشعبية للحيلولة دون تغيير النظام كما يطالب الحراك.
وهذا يعني أن ما يجمع بين الجنرالين على اختلافاتهما الكثيرة مصلحة الجيش العليا وهدفه الأسمى وهو الحفاظ على سطوة المؤسسة العسكرية على الجمهورية أي منع أي تغيير يمس جوهر النظام القائم على هيمنة المؤسسة العسكرية على الدولة بكل مؤسساتها وهياكلها.

 طبعا مع اختلافات شكلية هذه المرة تتعلق بظاهر الأشياء دون المساس بمخبرها:

أولا، في هوية قائد الانقلاب وتصنيفه وشعاراته السياسية.. فإذا كان الجنرال نزار يصنف ضمن ضباط الجيش الفرنسي الذين التحقوا بالثورة في الوقت بدل الضائع، وعليه يتهم بأنه جاء في مهمة وظل وفيا لفرنسا، فإن قايد صالح يقدم على أنه مجاهد، مناوئ للنفوذ الفرنسي، ينتمي لما يسميه أنصاره المدرسة النوفمبرية الباديسية (نسبة لثورة نوفمبر/تشرين الثاني، ورائد النهضة الجزائرية عبد الحميد بن باديس)

ثانيا: في أبعاد الأزمة الشعبية وطابعها السلمي وهذا ليس مزية من المؤسسة أو حرصا من القايد على أرواح الجزائريين، إنما بفضل بعد الحراك الشعبي الواسع. فلو كان احتجاج فئة أو حزب أو تيار لفتك به الجيش، كما فتك بإسلاميي جبهة الإنقاذ عقب انقلاب 11 يناير/كانون الثاني 92..

سلمية الحراك هزمت بطش العسكر

والدليل أن كل تهم التخوين والتشويه وتبرير العنف وطبول الحرب والعنف اللفظي والاستفزازات التي تدفع إلى رد الفعل العنيف كانت حاضرة في ممارسات الأمن سواء بالتضييق والحصار واستعمال الغاز المسيل للدموع..

وفي أدبيات خطابات القايد صالح وافتتاحية الجيش الأخيرة الأشبه بخطابات الحرب المرعبة:” الجهات المغرضة والأيادي الخارجية والأهداف المشبوهة وتدخل قوى أجنبية، المتآمرون على المصلحة الوطنية، والمغامرون، الشعارات المشبوهة، البيادق، الأبواق، عرابو المخططات الخبيثة”

فمن غير المعقول أن يخون الشعب برمته في كل أنحاء الوطن ويطلق عليه النار في كل أنحاء البلاد.

وثالثا: تبدل في تشكيل التحالفات بتبادل الأدوار بين التيارات السياسية والنخب المثقفة. العلمانيون والنخب المفرنسة وما يعرف بالحداثيين كانت متحمسة لتدخل الجيش عام 92 وأيدت انقلابه وبررته وزودته بأذرع إعلامية نافذة، بينما عادته معظم التيارات الوطنية الديمقراطية وبعض الإسلاميين والنخب المعربة.

ما يحدث اليوم العكس تقريبا انتقل معارضو انقلاب 92 إلى مؤيدين للجيش هذه المرة فيما انتقل مؤيدو الأمس إلى معارضي اليوم، بينما ظل المبدئيون من مختلف التيارات وعموم الشعب في الموقف نفسه أي معارضة توجه الجيش في الحالين.

أمل الجزائريين في سلمية الحراك، وردع الفتنة

أسلوب تعامل المؤسسة العسكرية مع الحراك الشعبي استحضار حي لروح انقلاب يناير/ كانون الثاني 92، وهدفه الأسمى، لكن بأسلوب مغاير وبحجج مختلفة لدفع التغيير والحفاظ على الوضع الراهن وضمان استمرار هيمنة العسكري على السياسي، وبقاء سيادة المؤسسة العسكرية على الدولة بكل مؤسساتها؛ لكنه يبقى محاولة انقلاب غير مكتملة الأركان بعد.

ما زال بوسع الحراك أن يفشلها إن واصل صموده بسلميته وحضاريته ومقاومته بوحدته ولم يستسلم لتهديدات القيادة العسكرية ويرتبك من تحذيراتها، ولم تنل منه معاول الهدم من الداخل، وقاوم مؤججي النعرات والفتن لشق صفوفه.. تحديات أثبت الجزائريون في مليونياتهم قدرتهم على رفعها ومواجهتها باقتدار لحد الآن على الأقل..

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه