إسراء غريب، بأي ذنب قُتلت؟!

 

شغلت قضية المغدورة إسراء غريّب الرأي العام الفلسطيني والعربي والدولي بأحداثها ومجرياتها، فالفتاة المغدورة التي لقت حتفها بسبب الضرب والتعذيب؛ ذكر النائب العام الفلسطيني أنه تم تحويل ثلاثة متهمين إلى المحاكمة بتهمة قتلها. وقد رشّح أكثر المتابعين للقضية عبر وسائل التواصل الاجتماعي أن هؤلاء الثلاثة هم زوج أختها وأخواها.

وإن أكّد النائب العام الفلسطيني في مؤتمره مؤخراً أن القتل لم يكن بدافع الشرف، وإنما بسبب الضرب والتعذيب خلافاً للمادة 330 الخاصة “بالقتل غير المقصود”؛ إلا أن الكثير من هؤلاء المتابعين ربطوا دوافع القتل بما تم تداوله في الأسابيع السابقة من أن إسراء غريّب قد خرجت مع خطيبها في مكان عام، وهو ما أثار غيرة قريبة لها، فتمكنت هذه الأخيرة من إيغار صدر والدها وإخوتها عليها، وكانت النتيجة ضربها وتعذيبها، على الرغم من أن خروجها كان بإذنهم وبشكل رسمي حسب العرف والتقليد المتبع في الخطوبة والزواج. وتبقى الحقيقة والدوافع وراء هذه الجريمة حبيسة نتائج التحقيق وما تصرّح به الجهات الرسمية، وكل ما يقال حولها ما هو إلا تسريبات وتكهنات من العامة.

وأد البنات في القرن الحادي والعشرين

ولكن الحقيقة المؤكدة هي أن هذه الجريمة تسلط الضوء على ظاهرة تعيشها الأنثى في بعض مجتمعاتنا العربية المعاصرة، حالة يُنظر فيها إلى الأنثى على أنها مخلوق ناقص الآدمية والحقوق، وجوده عيب وعار بالأساس، فبالتالي أي شبهة حول خطأ تقترفه هذه الأنثى تعتبر سبباً كافياً لاستباحة دمها وإزهاق روحها، أليس هذا صورة حديثة من صور وأد البنات؟!

فوأد البنت؛ هو دفنها وهي على قيد الحياة بإهالة التراب عليها حتى تلقى حتفها، وقد اشتهر به عرب الجاهلية في فترة ما قبل الإسلام، وإن كنّا لا نعرف متى بدأ هذا النظام على وجه التحديد، إلا أن الدكتور علي عبد الواحد وافي يقول: إن هذه العادة لم تكن متّبعة عند جميع العرب، بل كانت مقصورة على بعض القبائل من ربيعة، وكنده، وطي، وتميم.

وكانت الطريقة السائدة في الوأد أن تُحفر بجانب الموضع الذي اختير لولادة الأم حفرة عميقة، فإذا ظهر أن المولود أنثى، قذف بها حية عقب ولادتها مباشرة في هذه الحفرة، وأهيل على جسمها التراب، وبعضهم كان يلجأ إلى وأد بناته في أمكنة خاصة بعيدة عن المنازل حتى “لا يدنسها بجثثهن ورفاتهن”!!

أما عن الدوافع والأسباب وراء إقدام هذه القبائل على هذا العمل المشين، فهي متعددة، فمنها خشية الفقر والإملاق، وذلك أن الرجل في مجتمع البادية والأعراب أقدر على جلب الرزق من المرأة، فبالتالي يعتبر مورداً للدخل والرزق على خلاف المرأة حسب اعتقادهم. ومن هذه الأسباب أيضاً؛ خشية العار وصيانة للعرض، وذلك مخافة أن تقع هذه الأنثى سبيّة في المستقبل، فيستبيح عرضها الأعداء، أو خشية من أن ترتكب هذه الأنثى عملاً مشيناً يجلب العار لأهلها وقبيلتها.

ولقد تطور هذا المفهوم لدى البعض في ذلك المجتمع الجاهلي وأصبح وازعه دينياً، حيث ساد الاعتقاد أن الأنثى رجس أو أنها من خلق الشيطان لم تخلقها الآلهة التي كانوا يعبدون كاللات، والعزى، ومناة، وبالتالي يجب التخلص منها تقرباً ونصرة لهذه الآلهة.

مقصد حفظ النفس مقدم على ادعاء الشرف

ثم جاء الإسلام ونزل القرآن وحارب هذه العادات الخاطئة والمقيتة، وندد بها، وجعلها من الكبائر، لما فيها من قتل نفس لم ترتكب جرماً ولا إثماً يستحق عقوبة الإعدام، ولما فيها كذلك من تدخل في سنة الله وإرادته، وإخلال للنظام الذي أوجده الله.

أكد الإسلام على ذلك من خلال بيان المقاصد العامة له، وهي التي أسماها علماء أصول الفقه ومقاصد الشريعة بالضروريات الخمس: حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال. فهذه الضروريات أساس قوام الحياة واستقامتها، لذلك يقول الدكتور وهبة الزحيلي في تعريفه لها: “هي التي يتوقف عليها حياة الناس الدينية والدنيوية، بحيث إذا فُقدت اختلّت الحياة في الدنيا، وشاع الفساد وضاع النعيم الأبدي وحل العقاب في الآخرة”.

فجعل الإسلام حفظ النفس من الركائز الأساسية التي تستقيم بها الحياة وتصان بها الحقوق، وإزهاقها بغير حق كبيرة من الكبائر المحرمة تحريماً قاطعاً لا لبس فيه، ولا يحق ذلك لكائن مَن كان سواء كان أباً أو أخاً أو أي قريب بوجود الدولة والقانون، وبهذا كُتب لهذه العادة الجاهلية الوحشية أن تتوقف بشكل قطعي، بل أصبحت عبارة عن روايات تاريخية نسمع بها ولا نراها.

إلا أننا في عصرنا الحاضر أصبحنا نراها ونعيش معها، ولكن تحت مسمّيات وأدوات مستحدثة، فمن وجهة نظري، الجرائم المعاصرة التي تسمى بجرائم الشرف، لا تقل سوءاً ولا إثماً عن جرائم وأد البنات التاريخية التي حاربها الإسلام وقضى عليها، بل إنها أمر مستقبح لا يقبله عقل مستقيم ولا فطرة سليمة.

إسراءات لا إسراء واحدة

كثيرة هي القصص والأخبار اليوم التي تتحدث عن وقوع مثل هذه الجرائم في مجتمعنا العربي المعاصر، وبين أهل الأرياف والبوادي على وجه الخصوص. فإسراء ليست إلا واحدة من كثير من الإسراءات اللاتي قضين على أيدٍ تطاولت على القانون، وقررت تطبيق عرف وتقليد مجهول المصدر إلا من عقلية خاطئة تنظر للأنثى على أنها مجلبة للعار والفضيحة، وذلك باسم العرف والتقليد.

مشكلتنا مع عقلية تعتقد أن الكمال والرفعة والوجاهة في المجتمع لا تتم إلا من خلال تقاليد وعادات مختلقة ومتوارثة، قد تتيح بعض هذه العادات قيام معارك طاحنة بسبب رفض أحدهم شرب فنجان قهوة عُرض عليه، أو بسبب رمي أحدهم غطاء رأس شخص آخر، أو بسبب تزويج فتاة دون استئذان ابن عمها. لا ننكر أن هناك الكثير من العادات والتقاليد التي ترسخ الكرامة والشهامة التي حث عليها ديننا الحنيف، ولكن ليست كلها، فالواجب أن يكون الشرع هو الأساس في التعامل مع هذه التقاليد، فنجيز ما يتوافق معه، ونترك ما يتعارض.  

ثم فيما يخص الأنثى وقضايا الشرف، فالفتاة ما هي إلا بذرة تنمو وتتربى في بيئة وأجواء أسرتها، فإن كانت الأسرة صالحة، تنشأ هذه الفتاة صالحة، وإن كانت غير ذلك سيظهر نتاج هذه التنشئة فيها، فبالتالي الأب أو الأخ الذي يحكم أن أحد محارمه قد جلبت له العار؛ عليه أن يحاسب نفسه أولاً: هل وفّر لهذه الفتاة التربية الصحيحة، والتنشئة السليمة، وهل كان لها قدوة حسنة وأسوة صالحة؟!

مسؤولية الشريعة والقانون

لا نعرف على وجه التحديد متى تسرب هذا الفكر إلى مجتمعاتنا العربية، بعد أن خلّصنا الإسلام من ظاهرة وأد البنات وقضى عليها، لقد أصبح هذا المفهوم أمراً هيّناً مألوفاً بين الذكور، ففي فيديوهات تم إعادة نشرها بعد حادثة الغدر بإسراء غريّب، منها ما هو عبارة عن لقاءات عشوائية للصحفي جعفر عبد الكريم من قناة دي دبليو (DW) الألمانية، مع شريحة من الرجال، ذكر أحدهم أن مجرد خروج اخته للعمل دون استئذانه يعد أمراً كافياً لأن “يطخّها” أي يرميها بالرصاص.

هذه الكلمة ذكرتني بسنتي الأولى على مقاعد الدراسة في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية، عندما تحدث أحد الأساتذة المحاضرين عن عصيان الفتيات أهاليهن وخروجهن عن مشورتهم، فقال: “حينها يكفيها رصاصة ثمنها سبعة قروش!!”، طبعا لم تملك الطالبات في القاعة شيئاً سوى الحوقلة.   

فالمسؤولية في تغيير هذه المفاهيم الخاطئة ليست مقتصرة على أصحاب التخصصات الشرعية -بعد تصحيحها عند بعضهم طبعاً-، بل هي مسؤولية أهل القانون أيضاً، وذلك أن قانون العقوبات في أغلب الدول العربية يتعامل مع القتل بدافع الشرف بتساهُل وتخفيف للعقوبة التي قد تصل إلى بضع سنوات أو أشهُر، بدلاً من الإعدام أو السجن المؤبد، وهو ما يتعارض مع الشريعة الإسلامية.

فالشريعة تنص في قانون عقوباتها على أن عقوبة الإعدام لا تطبّق إلا في حالات معيّنة، مثل القتل العمد، والحرابة، والمرتد، والزاني المحصن (مع وجود خلاف في الحالتين الأخيرتين). فمن المجمع عليه أن من يرتكب أو ترتكب كبيرة الزنا، أو أي معصية من شأنها أن تفضي إليه، لا يجيز هذا قتلها أو قتله، فمن أي منطلق يتحدث أصحاب هذا الرأي؟ وهل يبيح الإسلام أي عادة أو تقليد تتعارض مع صريح نصوصه ومقاصده؟ ثم وإن جاز ذلك، فهل أمر القتل بيد من أراد؟ ووقتما شاء؟

غيرة كغيرة سعد

وقد سبق أن كنت حاضراً في نقاش حول هذا الموضوع، وكان من يجيز القتل بدافع الشرف يتحجج ويستدل بحديث سعد بن عبادة رضي الله عنه، عندما راجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة، ففهم من هذا الحديث أن رسول الله قد أقر سعداً على رأيه.

فقد ورد في الحديث أن سعد بن عبادة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا رسول الله، الرجل يجد مع أهله رجلاً، أيقتله؟ قال رسول الله: لا، فقال سعد: بلى والذي أكرمك بالحق!، فقال عليه الصلاة والسلام: اسمعوا إلى ما يقول سيدكم”.

وفي رواية أخرى، أنه قال: “والذي بعثك بالحق، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: “اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني؟”.

فالبعض فهم هذا الحديث على أن رسول الله قد أقر سعداً على قتل من يجده في فراشه مع زوجته بدافع الغيرة، وهو خطأ، فالفهم الصحيح لهذا الحديث يقود إلى أن رسول الله قد استنكر عدم رضاء سعد بهذا الحكم، لكنه لاطفه في الرد لكثرة مناقبه ومكانته عنده، بالإضافة إلى أنه سيدٌ في قومه، فيكون الرد عليه بما يليق بمقامه، وهذا ما فهمه الصحابة الحاضرين، حيث ورد في رواية أخرى أن الصحابة اعتذروا لرسول الله عن سعد وقالوا: “يا رسول الله لا تلمه، فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً، وما طلق امرأة له قط فاجترأ رجل منا على أن يتزوجها من شدة غيرته”. ولو فهموا أن رسول الله أقره على رأيه، لما برروا قوله بهذا التبرير.

ولهذا قال ابن القيم معقباً على هذه القصة:”فلو أذن له في قتله لكان ذلك حُكماً منه بأن دمه هدر في ظاهر الشرع وباطنه، ووقعت المفسدة التي درأها الله بالقصاص، وتهالك الناس في قتل من يريدون قتله في دورهم ويدعون أنهم كانوا يرونهم على حريمهم، فسدَّ الذريعة وحمى المفسدة وصان الدماء، وفي ذلك دليل على أنه لا يقبل قول القاتل ويقاد به في ظاهر الشرع”.

فالتهاون في هذا الأمر يجعل القتل أمراً هيناً، ولأتفه الأسباب، قد تصل أحياناً لمجرد الشك. ثم إنه من الملاحظ أن هذا الحديث كان حولَ حكم التعامل مع الرجل المذنب، لا المرأة، فالعرب ترى أنه من المعيب أن يقتل الرجل المرأة ويستقوي عليها، وتعتبر ذلك سبة في حقه.

لا ينكر أحد أن اقتراف هذا الإثم يعتبر أمراً معيباً وكبيرة من الكبائر، فالخطيئة ذنب متفق عليه، لكن العقوبة يحددها الشرع ويطبقها أهل القانون لا الأفراد، أما فيما يخص العار فمن المفروض أن لا يلحق الأهل والأسرة، وإنما صاحب الإثم نفسه، ولهذا قال الله تعالى مخاطباً نوح عليه السلام عندما رفض ابنُه اللحاق به وفضّل أن يكون مع الكافرين، وهو ابن نبي، فقال تعالى: “إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح”. فالعمل غير الصالح يحمل صاحبه وزره دون غيره، وعندما يقوم المجتمع بتحميل هذا الوزر لجميع الأهل والأقارب فاعلم أن ثمة خلل مجتمعي بحاجة إلى علاج. 

أسئلة بحاجة إلى إجابات

لم يثبت أن الفقيدة إسراء غريب رحمها الله قد ارتكبت إثماً أو فاحشة. وتبقى هناك مجموعة من الحلقات الغامضة والمفقودة في قضيتها، وبعض الأسئلة التي لا تزال مثارة وتبحث عن إجابة:

فمثلاً، ما دور زوج الأخت في هذه القضية، مع العلم أنه غير محرم لها، فبأي صفة يحكم على عرضها، ويتدخل في تعذيبها كما أشيع؟

ثم من العجيب والغريب أيضاً ظهور الأخ، وزوج الأخت في فيديوهات مختلفة وعلى محطات تلفزيونية رسمية يشرحون بالتفصيل كيف أنها كانت متلبسة بالجن وتعاني من مسّه؟ فلماذا تعطي هذه القنوات مساحة لتضليل الرأي العام ونشر الخرافات؟

من التفاصيل الواردة أيضاً، أن إسراء تعرضت للضرب في بيت أهلها، ثم نقلت إلى المستشفى تعاني من كسر في العمود الفقري، ثم ما لبثت أن خرجت قبل إجراء أي عملية وعادت بعد أيام جثة هامدة، فأين دور المستشفى في إنقاذ روحها، ومن أصدر إذن المغادرة تحت هذه الظروف؟ خصوصاً مع ظهور فيديو مسرّب يظهر فيه صراخها، ويذكر ناشطون أن إخوتها وزوج أختها كانوا يقومون بضربها، فأين الأطباء والأمن؟ ثم كيف تخرج من المستشفى وثمة احتمال تعرضها للعنف والقتل الأسري؟

هل ستجري وزارة الصحة تحقيقاً حول ذلك؟

ستبقى قضية إسراء غريّب رحمها الله مثالاً على المفاهيم والعادات والتقاليد المغلوطة، والتي انتشرت في مجتمعاتنا بشكل يتعارض مع صريح الأدلة والنصوص الشرعية، ولن يكون تغيرّها وتصحيحها بالأمر الهيّن، إلا أنه غير مستحيل شريطة أن يكون هناك توجهات ونوايا جادّة من أصحاب التأثير والقرار، ولعل الفقيدة تكون الدافع والمحفز الرئيسي نحو هذا التصحيح. وإن لم نقم بذلك فجميعنا مسؤولون أمام الله، كما سيُسأل قاتلوا إسراء، بأي ذنب قتلت؟!  

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه