بالمَهر وليس بالأَجر

(1)

شاهد معلمه يقتل صبياً، فلم يستطع الصمت، وشاهده يخرق سفينة فسأل مندهشاً واعترض متشككاً، برغم تحذيره من عدم السؤال أو استنكار الأفعال، وهكذا بدا الفراق بين المعلم والتلميذ، وهكذا يستشري الفراق بين الناس.

(2)

من سأل واعترض واستنكر كان نبياً، ومن قال له (وهو يعاقبه على السؤال): “هذا فراق بيني وبينك” كان عبداً صالحاً يمشي بالحكمة، ومع ذلك لم تستمر الرفقة بين الاثنين، لأن كتمان الأسئلة صعب، ولأن التناقضات يجب أن تثير فينا الدهشة، والدهشة كما يقول الفلاسفة أم السؤال وأم المعرفة، لهذا تشجعت في مقال على السؤال وعلى كشف التناقضات التي نمارسها كما لو كانت بديهيات أحادية الجانب، ففي المساء انهمرت التعليقات لإظهار عظمة الاستيعاب الفرنسي للمهاجرين من جنسيات أخرى، فقد لعب الأفارقة فحصلت فرنسا على كأس العالم، وتشعبت الرسائل مرة لتقريع اليمين المعادي للمهاجرين، ومرة لتحية ثورة الإخاء والحرية والمساواة التي لونت جلود الفرنسيين بالأصفر والأسمر وأضافت لهم طاقات متجددة من خارج العرق الإثني ومن خارج المعتقد الديني ومن خارج الحدود السياسية، لكن نفس المنادين بعظمة الاستيعاب وفضائل التعايش بين المقيمين والوافدين تحدثوا في الصباح بصورة نقيضة عن قانون مصري يسهل حصول الأجانب على الجنسية المصرية، فلماذا اختلفت وجهة الحديث بين الليل والنهار؟، وهل في الاختلاف تناقض أم حكمة مخبأة؟

(3)

لا تخشوا من المقدمة المعقدة للمقال، فحياتنا أكثر تعقيداً مما نراها، والتناقضات التي تطفو على سطح حياتنا ليست خطايا، لكنها أسئلة تبحث عن إجابة ومعادلات لابد من التوصل لتفاعلاتها ونتائجها حتى لا تظل عالقة تثبت فشلنا وركودنا وتعثرنا، ففرنسا فازت بمقدار قدرتها على امتصاص الغرباء بتجانس مجتمعي نادت به ثورتها الأم، وأمريكا فعلت ذلك بعد قرنين من الحرب والصراع والاستعباد والفصل العنصري والظلم، وهكذا فعلت عشرات الدول الأوربية التي فتحت حدودها للوافدين بشروط وقواعد تضمن التجانس والتعايش وفق دستور إنساني منفتح وغير عنصري، فأصبح الجزائري زين الدين زيدان فرنسيا، وأصبح المغربي مروان أو الشاذلي بلجيكيا، وأصبح الأفريقي أوباما رئيساً أمريكياً… إلخ، وبالتالي فلا عيب أن تسعى مصر لامتصاص طاقات غريبة من مجتمعات أخرى لتجديد خبراتها ودمائها وإضافة قوة حضارية تعوض الفقر المادي والفكري الذي تعيشه، خاصة وأن الجنسية المصرية لم تكن حكرا على المصريين منذ قرون طويلة، فقد تجنست أعراق كثيرة بالجنسية المصرية منذ 20 قرنا على الأقل، ولعلك تذكر أن كليوباترا ليست مصرية العرق، ولا سعاد حسني، ولا جورجي زيدان، ولا روز اليوسف، ولا العز بن عبد السلام، ولا صلاح الدين الأيوبي، ولا عمرو بن العاص من قبلهم، وإذا نظرت إلى رأسك وإلى رؤوس من يجلسون بجوارك فسوف تجد متحفاً يسجل تاريخ التنوع العرقي والجغرافي لمصر، فما المشكلة إذن من التوسع في منح الجنسية لغير المصريين؟

(4)

المشكلة ببساطة ووضوح في الشروط وفي دوافع منح الجنسية، فالجنسية طوال القرون الفائتة كانت تتم بالمعايشة، بالتمصر الواقعي.. هذا ما حدث مع طوائف المغاربة التي أقامت في مصر دهورا حتى تمصرت، وهذا حدث مع القبائل العربية الوافدة مع الفتح الإسلامي وبعده والتي صارت خيطاً متينا من خيوط النسيج المجتمعي، وهذا حدث مع الأتراك الذين أقاموا وتزاوجوا طوال ثلاثة قرون مع المصريين، وهكذا لم يعد محمد علي ألبانياً بل مصريا، ولم يعد يوسف شاهين ولا عمر الشريف لبنانيا، ولم يعد محمد نجيب سودانياً، وهذا التمصر والاندماج المتهمل لا يمكن أن يحدث كصفقة سريعة بالأجر، مقابل إيداع مبلغ من المال في خزينة الحاكم، فهذا يزرع في لحم الوطن جاسوساً، ولا يضيف قيمة إبداعية أو مالية، ومن يستصعب هذه الكلمات ويراها تضخيما للحبة حتى تصير قبة، فليناقش مع نفسه الفرق بين الزواج والدعارة، لا ننزعج ونسعى لتحريم الجنس في الزواج ونراه أمراً طبيعياً ونبحث عن حلول لتنشيطه حال تعطله، بينما نحتقره في الفعل الثاني ونتعامل معه كصفقة عابرة سرية تؤشر على الانحلال والعار، لأنه سلوك تجاري رخيص لا يؤدي إلى تكوين أسرة وتقوية مجتمع بقدر ما يجلب العار ويؤكد السقوط.

(5)

القصة إذن ليست شوفينية مغلقة نطالب فيها بطرد الجنسيات المقيمة في مصر والتضييق عليها، إذ يجب أن تظل مصر مفتوحة ومضيافة ومستوعبة لكل من يحبها ويطلب ودها ويخطبها ويحفظ كرامتها ويتزوجها راضياً فخوراً، أما الذين يعرضونها للبيع ويتاجرون بها كسلعة للأثرياء والقادرين، فأولئك هم القوادون الذين يجب أن نتصدى لهم، وتلك هي النقطة الفاصلة في قانون “بيع الجنسية”.. فمصر تمنح جنسيتها راضية لمن يحبونها ويحترمون مكانتها ويفون بوعودها ويدخلونها بسلام آمنين، ولا تسلم نفسها لكل من يدفع، لأنها حرة، والحرة تجوع ولا تأكل بجنسيتها.

#العرض_مستمر

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه