العُهْدة العُمَريَّة.. نظرة نقدية لمتنها ونصوصها

تحدثنا في مقالنا السابق عن (العهدة العمرية)، وهي معاهدة أو وثيقة بين عمر بن الخطاب، وجماعة من أهل الكتاب، وتحدثنا عن نقد هذه العهدة من حيث سندها، وأنها لا تصح من حيث السند، وبقي أن ننظر إليها نظرة أخرى نقدية لمتنها ونصوصها، وما اهتمامنا بنقد سندها ومتنها، إلا لأن كثيرا ممن يؤصلون لفقه وأحكام التعامل مع غير المسلمين، وما لهم وما عليهم، يعتمدون عليها، ويرونها عمدة في الباب.

معاهدة يمليها المغلوب على الغالب!!

أما نقد متن العهدة العمرية فإن الباحث لا يحتاج إلا لمراجعة ما كتبه ابن القيم نفسه في بدء حديثه عن الشروط، ليرى رأي العين ما في الروايات من تضارب ملحوظ، فقد نصت الرواية الأولى على أن أهل الجزيرة هم الذين كتبوا إلى عبد الرحمن بن غنم، ثم كتب عبد الرحمن إلى عمر، بينما نصت الرواية الثانية على أن عبد الرحمن كتب مباشرة لعمر حين صالح نصارى الشام، وتبين في الرواية الثالثة أن عبد الرحمن إنما صاغ شروط النصارى في كتاب لعمر، فمن العجب العجاب أن يملي المغلوبون على الغالب شروطهم كأنه كان في حاجة إلى أن يوادعوه!

وفي الروايات الثلاث اكتفى ابن القيم بسردها واقتنع بصحة إسنادها دون تخريجها، ولم يقع التضارب فقط حول الذي اشترط العهد: أهو الغالب أم المغلوب؟ بل وقع في المتن المكتوب نفسه: فقد اشتملت الرواية الأولى على شرطين ألحقهما عمر بنفسه بذلك العهد، أحدهما: منع الذميين من شراء سبايا المسلمين، والآخر: خلع عهدهم إذا ضربوا أحدا من المسلمين، بينما خلت من هذين الشرطين الملحقين الروايتان الباقيتان.

معاهدة لأي مدينة؟

وفي بعض متون الروايات عبارات تثير تساؤلات إن لم نقل مشكلات: فحين صاغ عبد الرحمن بن غنم شروط النصارى في كتاب لعمر لم ينص على اسم المدينة التي جرى فيها هذا العهد، بل اكتفى بعبارات غامضة شديدة الإبهام هي قوله: “هذا كتاب لعمر من نصارى مدينة كذا وكذا”، فإن تكن المدينة المقصودة هنا هي دمشق قصبة الولاية، فإن نصوص عهد دمشق التي أعطاها خالد بن الوليد أهل الشام تختلف اختلافا جوهريا عن نصوص هذا العهد، وفيها من سماحة الإسلام ما ليس في روايات ابن القيم الثلاث: إذ أعطاهم خالد ـ كما في رواية ابن عساكر ـ أمانا على أنفسهم، وأموالهم، وكنائسه، وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم، لهم بذلك عهد الله، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة الخلفاء والمؤمنين، لا يعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية” وإن تكن المدينة المقصودة بعبارة “كذا وكذا” غير دمشق من مدن الشام فمن العجيب المدهش أن عمر نفسه لم يعاهد أهل حمص أو أهل القدس مثلا إلا عهودا بالغة السماحة والبساطة، خالية من العنف والتعقيد: فأهل حمص أومنوا على أنفسهم وأموالهم وسور مدينتهم وكنائسهم وأرجائهم، وأهل المقدس أعطوا الأمان لأنفسهم وأموالهم، وكنائسهم، وصلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر ملتها: أن لا تُسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيّزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم. ففي هذا التهرب من تحديد المدينة التي جرى فيها العهد ما يثير الريب في الرواية، ويحيط رواتها بالشبهات، بل يكاد يصمهم بتعمد الإبهام تدليسا وتمويها.

مفردة غير عربية في العهدة

وشد الزنانير على الأوساط عبارة في هذا العهد العمري لا تكاد نصدّق ورودها فيه: فالزنانير جمع تكسير للفط (الزنار) الذي هو لفظ يوناني موضوع للمنطق أو الحزام، وما كانت الزنانير بهذه الصيغة الجمعية، شائعة الاستعمال في عهد عمر، وربما لم تدخل العربية إلا عن طريق الآرامية التي كانت لغة أهل الكتاب، وإنما دخلت العربية بعد أن أصبحت علما على الحزام، وبعد أن أصبح الحزام علامة مميزة لأهل الذمة عن المسلمين، فكيف يستعمل عمر في عهده لفظا لمّا يشع ولمَّا يعرفه الناس؟ وكيف يستعمل هذا اللفظ الأعجمي رغم قيام المنطق أو الحزام مقامه؟!

وإن ارتيابنا في هذه اللفظة ليزداد إذا رأينا أبا يوسف في كتاب الخراج يتحدث عن (زنارات) عمر، لا عن (زنانيره) وعن المناطق المشدودة على الأوساط في معرض حديثه عن عمر بن عبد العزيز لا عن عمر بن الخطاب، من غير أن يشير هنا إلى الزنارات أو إلى الزنانير. وليثق القارئ أن ليس في هذا الكلام تلاعب بالألفاظ، فإن شيوع لفظ معين، بصيغة جمعية معينة، في عصر من العصور، يومئ إلى مدى استخدامه ومعرفة الناس به، فإن طبق هذا كاملا على عصر عمر ابن الخطاب استنتج الباحث كم في القول باستعمال عمر للفظ الزنانير من مجانبة للصواب.

تناقض عجيب

ومما نستغربه في متن هذه الشروط ـ وله في إسنادها أثر لا ينكر ـ أن يحرّم نصارى الجزيرة وغيرها من مدن الشام على أنفسهم وأولادهم تعلم القرآن، فأي جريمة يرتكبون لو تعلموا القرآن؟ وكيف يشرطون هذا الشرط على أنفسهم من تلقاء أنفسهم؟ وكيف نوفق بين شرطهم هذا وبين اقتباسهم آية الجزية بألفاظها في بعض عهودهم؟

وإذا أقررناهم على عدم تعليم أولادهم القرآن، فمعنى هذا أننا منعنا أنفسنا من واجب دعوتهم إلى الإسلام، وهل يوجد نص يمنع غير المسلم من تعلم القرآن، أو تلاوته؟! وقد شهدت كل عصور المسلمين تعلم غير المسلمين للقرآن، وحفظهم لآيات منه، بل إن قصة إسلام عمر بن الخطاب نفسه فيها أنه تُلي عليه القرآن وهو مشرك من أخته فاطمة، وأعطته الآيات الأولى من سورة (طه)، وكذلك في نص صريح للقرآن الكريم في سورة التوبة: “وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون” (التوبة: 6)، والآية واضحة الدلالة في أن سماع كلام الله وهو القرآن، أمر مطلوب منا أن نقوم به نحو كل مشرك وكافر، فكيف يتوافق هذا الواجب مع وثيقة تمنع غير المسلمين من تلاوة القرآن، أو تعليمه أولادهم؟!

وإنما نأخذ هذه المآخذ على روايات ابن القيم وحده، وهي التي صرح هو بصحة أسانيدها، ولو قارناها بروايات أخر تعددت صورها في بطون كتب التاريخ لتضافرت أسباب التناقض والتضارب، فكدنا نرى رأي العين أنّا إن لم نعلّم على هذه الروايات بالضعف فأقل ما نحكم به عليه كثرة الإدراج فيها، إن كان لها أصل صحيح فزيد على هذا الأصل من الأحكام الفقهية ما كتبه له السيرورة والبقاء بعد عزوه إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب!

ومهما يكن من شيء فإن الذي ينبغي ألا يفوتنا أن نصارى أهل الشام ـ في رواية ابن عساكر ـ وجهوا كتابهم إلى أبي عبيدة بن الجراح والي عمر على الشام؛ فما ندري بعد هذا كله ما عسى أن يكون عمل عبد الرحمن بن غنم في كتاب العهد لو ثبت أن هذه الرواية أجود وأنظف أسانيد من روايات ابن القيم الثلاث!

والأمر مع بذلك يبدو أهون وأيسر، فإن المؤرخين الذين أسهبوا في مواد هذا العهد وتفصيلاته ـ ولا سيما في موضوع الغيار وإلزام الذميين بالزنار ـ كانوا من المتأخرين، فما عرض قط لأزياء الذميين ابن جرير الطبري ولا البلاذري من أئمة التاريخ المتقدمين. بل من العجيب أن عهد عمر بصورته التقليدية ظل مجولا خلال القرن الهجري الأول ولم يبدأ ظهوره إلا في أواخر الثاني، وذلك ما يحملنا على الاقتناع في آن واحد بصحة أصوله وكثرة الإدراج على تلك الأصول.[1]

تعارض العهدة مع نصوص المخالفة لغير المسلمين

وما يستغرب هنا في العهدة العمرية، هو أمر عمر بن الخطاب لهم، بلباس معين، وشد زنار، وغيره، من باب ألا يتشبهوا بالمسلمين فيكون هناك تمايز، وهو أمر لم يصدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان حاكما للمدينة المنورة، وفيها اليهود وهم أهل كتاب، ولم يطلب منهم في كل مواثيقه مثل هذه الأمور.

بل الذي صح عنه أنه كان صلى الله عليه وسلم يأمر المسلمين بمخالفة اليهود والنصارى والمشركين، وليس العكس، كما في الأحاديث:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا خفافهم”.[2] وفي رواية: “خالفوا اليهود والنصارى، فإنهم لا يصلون في خفافهم، ولا في نعالهم”.[3]

وحديث: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم من الأنصار بيض لحاهم، فقال: يا معشر الأنصار حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب، فقالوا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم، ويوفرون سبالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وفروا عثانينكم، وقصروا سبالكم، وخالفوا أهل الكتاب” فقالوا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتخففون، ولا ينتعلون، فقال: “انتعلوا وتخففوا، وخالفوا أهل الكتاب”.[4]

وحديث: (تسحروا خالفوا أهل الكتاب). [5] وحديث: (خالفوا المشركين، احفوا الشواب وأوفوا اللحى). [6]

بل ورد الأمر بالمخالفة، والنهي عن التشبه بأهل الكتاب في القرآن الكريم، في قوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم” (البقرة: 104).

فكل النصوص السابقة ورد فيها الأمر بالمخالفة في الاعتقاد والسلوك المميز دينيا للمسلم، ولم يرد فيها أمر لغير المسلمين بالتمايز.

هذه بعض انتقادات توجه لمتن (العهدة العمرية) بعد أن تم نقد سندها، وثبت ضعفها وعدم ثبوتها، فالعهدة العمرية لا تثبت سندًا، ولا تستقيم متنًا. وبقي أمر مهم لا بد من نقاشه، وهو مدى الدلالة الفقهية والتشريعية لأحداث وتصرفات تاريخية للصحابة أو للخلفاء الراشدين، هل تكون مصدرا لتشريع، أو سندا لحكم فقهي؟


[1] انظر: مقدمة دكتور صبحي الصالح لكتاب (أحكام أهل الذمة) (1/42ـ46) وعنه نقلنا معظم هذه الأفكار بتصرف.

[2] رواه أبو داود (652) والبزار (3480) البغوي في شرح السنة (534)، وأخرجه الحاكم (1/260) وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي (2/432) عن شداد بن أوس رضي الله عنه.

[3] رواه ابن حبان (2186) عن شداد بن أوس رضي الله عنه، وصححه شعيب الأرناؤوط (5/561).

[4] أخرجه أحمد (5/264) والبيهقي في الشعب (2/259/2) عن أبي أمامة رضي الله عنه، وحسن اسناده ابن حجر في فتح الباري (10/354) والألباني في الصحيحة (1245) (3/249).

[5] رواه المحاملي في الأمالي (231) عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

[6] رواه البخاري (5892)، ومسلم (259) (54)، وأبو عوانة (1/189)، والبيهقي في السنن (1/150)، وفي الشعب (6433)، والبغوي (3194) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه