لماذا لا يرد السيسي على التسريبات؟

فقدنا “شياكة” مبارك في التدخل بالقضاء. ووصلنا إلى الدرجة التي يجرؤ فيها من كان على أن “يكلم قاضي” أو “نائب عام” للمساعدة في إفلات مجرمين من العقاب. هذه الفجاجة الخشنة التي تم فضحها، يواجهها السيسي بما يستطيعه وهو التجاهل والصمت. فليس لديه غير ذلك.

 

*سعيد شعيب

من حيث المبدأ دعني أقول لك إنني ضد نشر أي تسريبات، وضد الاستخدام السياسي أو حتى القضائي لها. ولذلك كنت ضد نشر التسريبات التي نشرها أنصار النظام الحالي في مصر لتشويه العديد من الشخصيات، أو على وجه الدقة الشخصيات البارزة التي شاركت في ثورة يناير المجيدة.
من المهم هنا أن نتذكر أن الرأي العام في مصر كان يستهجن  ولا يستريح لها قبل ثورة يناير.

لعلك تتذكر التصريح الشهير لوزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي “اللي يخاف ميتكلمشي في التليفون”. وكان يقصد التنصت على المواطنين. والحقيقة أنه لاقي هجوماً متوقعاً من المعارضة، لكن الأهم أن احداً من رجال الحزب الوطني وقياداته لم يجرؤ على الدفاع عنه. وهنا لابد أن اذكرك أن ذات الوزير وامام المحكمة، بعد ثورة 30-6 ، قال بفخر إنه كان يمارس التجسس على المصريين، وإنه كرجل صاحب “أخلاق حميدة” ، كان يوجه النصح لمن انحرف أو انحرفت أخلاقياً بأن يعودوا إلى الصراط المستقيم.

من المهم ايضاً أن أذكرك أن هناك صحفيا كان يعمل مستشاراً إعلامياً لوزير الثقافة فاروق حسني، ولسبب أو لآخر أصدر كتاباً سجل فيه لقاءات وجلسات للوزير مع الكثيرين. الغريب أن هذا الكتاب لم يلق أي ترحيب من المعارضة، وكثيرون اعتبروه عملاً غير أخلاقي.  بل قال لي وقتها معارض وصحفي مرموق “ازاي آمن له انه يقعد معايا على القهوة”.  

الآن تجاوز أمر التسريبات هذه المحددات الأخلاقية. فحرب التسريبات سواءً أردنا أم لم نرد أصبحت جزءًا من الواقع السياسي في مصر. وأصبحت أداة قاطعة في الحرب الضروس بين أنصار النظام الحالي وخصومه السياسيين.

وسواءً أعجبني ذلك أم لا، فقد أصبح مصدراً هاماً للمعلومات، ولما يدور في الكواليس. هذا طبيعي في دولة تخاصم الشفافية، وفي دولة منذ عقود طويلة لا توجد فيها آلية محترمة للرقابة على مؤسسات الدولة ومحاسبة أي مسئول صغير أو كبير. فمع تعدد الرؤساء الذين مروا علينا، لم تكن هناك إرادة سياسية لتفعيل قدرة المجتمع علي تطهير نفسه.

تعددت التسريبات القادمة من جهة السيسي وأنصاره، لكني اظن أن التسريب الأخير هو أخطرها. فقد نقلنا من خانة التخمينات إلى خانة التأكد من أن هناك تدخلا سافرا في القضاء المصري. وليس صحيحاً ما كتبه صديق عزيز مدافعاً عن السيسي ونظامه. فهو لم ينكر طلب مدير مكتب السيسي من اللواء ممدوح شاهين لكي “يكلم القاضي عشان ابن هيكل”، والمقصود الأستاذ محمد حسنين هيكل الصحفي الشهير، الذي تقول الاتهامات إنه متورط مع جمال مبارك في قضايا فساد.  ولكن على أرض الواقع كما كتب صديقي فما زال ابن هيكل على قوائم ترقب الوصول .
لكن صديقي لم يقترب من الكلام عن  أن “شاهين يكلم قاضي قضية الترحيلات”، والمقصود بها قتل متهمين داخل سيارة ترحيلات. فقد طلب التدخل لصالح ضابط شرطة متهم، وهو في ذات الوقت ابن قيادة كبيرة في الجيش.
الأمر بعيداً عن التفاصيل من الصعب تبريره، كما أنه من الصعب تبرير عدم وجود رد من السيسي ولا من مؤسسة الجيش، ولا من اللواء شاهين ولا من أي حد. وكأن هذا لم يحدث من الأساس، أو كأنه حدث في بلاد الواق واق. كل ما صدر هو بيان هزيل من النائب العام المتهم في التسريبات بأنه ينفذ أوامر قادة في الجيش. والغريب أن البيان قال إنه سيجري التحقيق في “التسريبات المزورة”. فقد قرر أنها مزورة قبل أن يجري التحقيق.

أما ردود بعض الإعلاميين مثل الأستاذ خالد ابو بكر على قناة اوربت، فلا يمكننا التعامل معها بجدية، لأنها في النهاية “طق حنك”، بمعنى أنه لم يتم التعامل المهني معها، أي استدعاء ضيوف معبرين عن كل الأطراف، لإدارة نقاش جاد حول ما تطرحه من قضايا. وأظن أنك لا تحتاج لأن أقول لك لو أن هذه التسريبات كانت ضد الإخوان واثناء حكمهم لمصر ماذا كانوا سيفعلون.

السيسي لم يرد ولم يهتم لأنه مثل أي عسكري لا يهمه ولا يعنيه ما يسمونه الرأي العام أو حق الناس في المعرفة، فهذه هي طبيعة القادم من المؤسسة العسكرية، بدون أي خلفية سياسية، وبدون أي برنامج سياسي.

وإذا اضفت على ذلك أنه يعرف أنه يحظى بشعبية ليست بالقليلة، كما أن الصحافة والإعلام ـ”في ايده”.  وتركيبة دكتاتورية مثل هذه من الطبيعي ألا ترى أن تراكم مثل هذه الجرائم، هو ما سيؤدي به إلى نهايته مثل من سبقوه، أو من هم مثله في الدنيا كلها. 

لكن دعني أقول لك أنه من الإنصاف القول إن التدخل في القضاء والسيطرة عليه، لا تخص السيسي ونظامه وحدهما، ولكنها جريمة دائمة. ففي عهد مبارك كانت التدخلات تتم “بشياكه”، فمثلاً التفتيش القضائي، أي الذي يحاسب القضاة على تجاوزاتهم تابع لوزارة العدل، أي تابع له.
وخذ مثلاً العمل الإضافي للقضاة لدى نقابات ووزارات ومؤسسات كمستشارين بألاف الجنيهات. أضف إلى ذلك سيطرة وزارة العدل على المحاكم الابتدائية. ومن الصعب أن ننسى الصمت طوال مختلف العهود على توريث القضاء. وشارك في هذه جريمة التوريث من هم محسوبين على مبارك، ومن هم محسوبين على معارضته. وإذا أضفت إلى ذلك النيابات، يصبح الأمر أكثر مأساوية ، فهي غير مستقلة تماماً، ولا أظنك بحاجة إلى المزيد من الأدلة على ذلك. 

إذن فالأمر هو أن القضاء في مصر غير مستقل. والحقيقة المرة أنه يعمل إلى حد كبير لصالح من يحكم. والحقيقة الأكثر مرارة، هي أن هذا كان متوقعاً من أنظمة حكم ديكتاتورية جسمت على قلب البلد منذ 1952 .لكنه لم يكن مقبولاً أن يستمر بعد ثورة يناير. فالمؤسف هو أن الإخوان ومختلف القوى السياسية ومعهم المجلس العسكري، لم يكن لديهم مشروع محترم لكي يصبح القضاء مستقل مثل الدول المحترمة. وكان هدف كلاً منهم هو أن يستخدم هذا القضاء لصالحه وضد خصومه السياسيين. وبعد ثورة 30-6 لم يتغير الأمر، بل سار إلى الأسوء. ففقدنا حتى “شياكة” مبارك في التدخل. ووصلنا إلى الدرجة التي يجرؤ فيها من كان على أن “يكلم قاضي” أو “نائب عام” للمساعدة في إفلات مجرمين من العقاب.
هذه الفجاجة الخشنة التي تم فضحها، يواجهها السيسي بما يستطيعه وهو التجاهل والصمت، فليس لديه غير ذلك.
_______________
كاتب صحفي مصري

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه