ماذا يجري في كتالونيا؟

لم يكن اسم “كتالونيا” معروفا بوضوح سوى لدى المهتمين بالشأن السياسي وعشاق كرة القدم لشهرة فريق برشلونة (وهو كتالوني بالأساس) فضلا عن بعض المولعين بالثقافة السياحية. أما غيرهم فأغلبهم يكتفي بمعرفة وجود مدينة برشلونة في إسبانيا لا أكثر.

مؤخّرا حضر هذا الاسم بكثافة في نشرات الأخبار وجاء مُرتبطا بالمعجم اللّفظي المتعلّق بالانفصال والاستقلال. فماذا تُمثّل “كتالونيا” بالنسبة لإسبانيا وماذا يجري بها حتّى يصل الأمر إلى الدعوة لاستفتاء يضمن انفصالها؟؟

 حتى نتبيّن الخطوط الكبرى لما يجري اليوم بكتالونيا، جدير بنا أن نمرّ سريعا على بعض معطياتها التاريخية والجغرافية قبل الوصول إلى المعطيات السّياسية التي تحكم مشهد اليوم.

مقاطعة مثيرة للجدل

 فهي مقاطعة تقع في الشمال الشرقي لإسبانيا، تمتد على مساحة 32ألف كم مربع وتشمل 4 محافظات يسكنها أكثر من سبعة ملايين نسمة، منهم ما يقارب المليونين في عاصمة المقاطعة؛ برشلونة.

 تُعتبر “كتالونيا” أكثر مقاطعة مثيرة للجدل تحت حكم إسبانيا، المملكة ذات النظام البرلماني والتي تضم 17 مقاطعة ذات استقلال نسبي. جميع هذه المقاطعات تتمتّع بحكم محلي ولديها لغات وبرلمانات وأعلام وأناشيد رسمية ودوائر مالية وقضائية مستقلّة، لكنها جميعا تخضع للقرار الأعلى من الحكومة المركزية بمدريد. هذه التركيبة الحالية ينصّ عليها الدستور الإسباني منذ 1978 مع بعض التعديلات الطفيفة.

   قبل هذا التاريخ وعلى مدار ما يقارب من 900 سنة مضت، مرّت خريطة “كتالونيا” بعديد التّغيرات الجذرية، تراوحت خلالها بين الانتصارات والهزائم على أيادي الغزاة. واستسلمت بعد نضال مضني في سنة 1714 لحكم إسبانيا القوي. ورغم سطوة الحكم الاسباني حينها، إلّا أنّ الرموز السياسية الكتلانية استغلت تقلّبات النصف الأول من القرن العشرين ولملمت صفوفها واستأنفت مسيرة النضال نحو الاستقلال. لكن هذه المساعي هُزمت بالضربة القاضية على يد الديكتاتور فرانكو الذي حكم في الفترة من 1936 – 1975 تحت راية إسبانيا الكبرى، مُطوّعا القانون لتجريم الجهر بأيّ خصوصية تُمثّل المقاطعات.

 بموته مرّت إسبانيا إلى نظام برلماني ملكي أتاح لكلّ المقاطعات هامش الاستقلال الذي تتمتّع به اليوم.

وربّما يتضح بعد هذا الشرح المقتضب معنى أن يلاحظ المتابع اختلاف لغة وثقافة “كتالونيا” عن تلك التي في مدريد أو في إقليم الباسك مثلا، والعكس صحيح، فالتلاميذ والطلاب يدرسون بالكتلانية في برشلونة والباسكية في بلباو والاسبانية في مدريد، وأيام العطل مختلفة كذلك. إضافة إلى أنه من الممكن ملاحظة أن لغة الإدارة تلتزم بلغة كل إقليم تُمثله، والشرطة والأمن حاضر مثلا في المقاطعات بتمثيلاته المحلية والوطنية.  

الغزو الإسباني

خلاصة القول إن إسبانيا تجمع تحت جناحيها تشكيلة ثرية من الثقافات التي تفخر بخصوصيتها، وتطالب بعض مقاطعاتها بالانفصال معتبرة ” الأسبنة” غزوا.

   يرى بعض الانفصاليين أن “كتالونيا” وبلاد الباسك أساسا، ضيّعتا على نفسيهما فرصتي الاستقلال التام عند تكوين الحكومة الأولى والمصادقة على دستور 1978 (بعد موت فرانكو في 1975) بسبب تشرذم أحزابهم السياسية المحلية المطالبة بالانفصال حينها وعجزها في مواجهة الأحزاب المحلية الأخرى غير الراغبة في الانفصال والتي تآلفت مع الحكومة المركزية في مدريد ومثلت بذلك ثقلا سياسيّا حكم بأريحية طوال عشرين سنة تقريبا. في الوقت الذي تاهت فيه المبادرات الانفصالية وسط التجاذبات والمؤامرات السياسية.

ومع مستهلّ الألفية الثالثة، أصبحت الأرقام الاقتصادية والمالية الرسمية تكشف بالواضح سوء توزيع عائدات الإنتاج وتفاوت نسب الضرائب بين المقاطعات رغم أن الكتلانيين يساهمون بخُمس الناتج القومي الخام لإسبانيا ويدفعون النصيب الأكبر من ضرائب البلد كله.

 معطيات أُضيفت إلى قائمة الأسباب القديمة لرغبة الانفصال وأجّجت الغضب المتراكم لدى الكتلانيين وجعلت الأصوات الانفصالية تتنامى أكثر فأكثر. الأمر الذي دفع الحكومة المحلية الكتلانية (بأغلب مكوناتها) الى الانطلاق في مسار مفاوضات على مدى سنوات من المفترض أن يُتوّج باستفتاء حاسم في 01 أكتوبر/تشرين 2017 تُقرّر نتيجته الانفصال من عدمه.

 ورغم أنّ رسائل التبرّؤ من الانتماء لإسبانيا بلغت حدّا من الصّراحة لا مثيل له، إلا أن انفصالي “كتالونيا” حافظوا على سلميّة احتجاجاتهم في كل المناسبات.

خطوة الحكومة

  ونحن على مشارف سويعات من تاريخ إجراء استفتاء قد لا يجرى، تعيش “كتالونيا” ضبابية وتوتّرا بالغا، وتواجه إسبانيا بأسرها وعلى رأسها رئاسة الحكومة المركزية في مدريد أحلك أزماتها. إذ أقدمت في خطوات جريئة ومستفزة على إقرار قوانين متشددة ضد القيام بهذا الاستفتاء وصادرت على إثرها أدوات عمليّة الاقتراع وأمرت قواتها العسكرية بإغلاق المكاتب المخصصة للتصويت وعطّلت حتى تطبيقات الهواتف الذكية وصفحات الويب التي أعدّتها الحكومة المحلية بكتالونيا خصيصا لهذا الحدث. إضافة إلى إيقاف بعض العناصر السياسية وتغريم كل شخص تثبت مشاركته في العملية التنظيمية للاستفتاء.

أما الخطوة اللافتة في حدّة الموقف الحكومي من مدريد فتكمن في رفض التفاوض مع الحكومة المحلية عبر رئيسها بودج دي مونت من جهة وإرسال تعزيزات عسكرية ضخمة من جهة أخرى تحسبا لأي أعمال شغب أو مخالفة للقوانين.

  المشكل الغالب على المشهد يتلخّص في أن الحكومة المحلية وهي على مشارف موعد الاستفتاء بانت خارقة للقانون (في حال الإصرار على التصويت حسب أي مخطط بديل) ويتيمة (في ظلّ تبخّر وعود دعم بعض الحكومات الخارجية) ومتورّطة بين حماس السياسيين وأغلب سكان المقاطعة من جهة وتهديدات الحكومة المركزية بعقوبات مستقبلية (مهما كانت النتيجة) وغياب مواقف داعمة فعليّا سواء من الاتحاد الأوربي أو من حكومات بلدان الجوار من جهة أخرى.

استفتاء وإن لم يمرّ، كشف عن أزمة لا تبشّر بأي خير قريب.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه