ما بعد إدلب: سلامٌ بعيدٌ في وطن وشعب تمزّق

لنْ يتورّعَ الرّوسُ عنِ استعادةِ إدلبَ حتّى يكونَ انتصارُهم كاملاً، وينتشِي بوتين أكثرَ ممّا هو مُنتشٍ بحرْبِهِ علَى الإرهابِ الدّوليِّ.

روسيا تُسابِقُ الزّمنَ لِكَي تُعلنَ الانتصارَ فِي سوريا قبلَ نهايةِ هذَا العامِ 2018، انتصارَها على “الإرهاب”، إذْ هو المبرّرُ الّذِي جعلَهَا تنتقِلُ فِي نهايةِ سبْتمْبر 2015 إلِى مرحلةٍ أعلَى فِي دعمِ الأسدِ بأنْ تقودَ الحربَ بنفسِها، وتستثمرَ فرصةَ الحربِ المجنونةِ لتجريبِ أحدثِ مَا أنتجتْهُ مصانعُها مِنْ أسلحةٍ جديدةٍ فتّاكةٍ، وكذلكَ إعلانِ أنَّهَا لاعبٌ أساسيٌّ، بلْ ندٌّ للأمريكانِ علَى السّاحةِ الدَّوليّةِ، وتثبيتِ قدمَيها علَى شاطئِ البحرِ المُتوسّطِ بوجودٍ دائمٍ وغيرِ مسبوقٍ فِي سوريا، وهُو احتلالٌ صريحٌ.

ساحةُ التّجريبِ كانتْ أجْسادَ الشّعبِ السوريِّ مِنَ المدنيّينَ العزّلِ، ومِن قُرَى وبلداتِ ومدنٍ حوّلتْها صواريخُ روسيا قديمةً وجديدةً إلى أشْلاء وأطلالٍ وَفْقَ سياسةِ الأرضِ المحرُوقةِ.

وفِي قانونِ القيصرِ مَا لمْ يتمَّ تسليمُ المناطقِ المُستهدفةِ الّتِي حلَّ عليها الدّورُ وَفْقَ خُطّتِهِ العسكريّةِ المجدولةِ دونَ قيدٍ أو شرطٍ، فإنَّ التّدميرَ الشّاملَ والسّاحقَ سيكونُ مصيرَها حتّى للمُستشفياتِ والمخابزِ ومحطّاتِ المياهِ والكهرباءِ وسيّاراتِ الإسعافِ والدّفاعِ المدنيِّ وعناصرِ “الخوذِ البيضاءِ”.
وهذِه الإبادةُ تمّتْ فِي العديدِ مِنَ المناطقِ المنكوبةِ، وحلبُ مثالٌ لبشاعةِ عقليّةِ الحربِ الّتِي تُمارسُها قوةٌ غاشمةٌ ضدَّ جماعاتٍ مُسلّحةٍ لا هِيَ جيوشٌ مُنظّمةٌ، ولا هِيَ تمتلكُ قدراتٍ عسكريّةً يُمكنُ التفكيرُ وَلَو لحظةً بمُقارنتِها بالقُدْراتِ الرُّوسيّةِ الهائلةِ.

الإرهابي

 كلُّ مَنْ يتخنْدقُ ضدَّ الأسدِ هُوَ “إرهابيٌّ” عندَ روسيا، وكلُّ شيءٍ يرتفعُ عَنِ الْأرضِ، أَو يتحرّكُ عليهَا، هُوَ هدفٌ يختبئُ أَو يتنقلُ مِنْ خلالِهِ إرهابيُّونَ، ويكونُ استهدافُهُ مشروعاً عسكريّاً، الإرهابُ أكثرُ معنى فضفاضٍ فِي هذِه المرحلةِ مِنَ التّاريخِ يُوظّفُهُ مَنْ يريدُ استخدامَهُ كَمَا يشاءُ حتّى لَو سقطَ ملايينُ المدنيّينَ ضحايا مَا بينَ قتيلٍ وجريحٍ ومُشرّدٍ. 

لمْ يتبقَّ مِنْ سوريا فِي أيدِي “الإرهابيّينَ” سُوى مُحافظةِ إدلبَ، ومُصطلحُ “الإرهابيّينَ” هُوَ الوصفُ إجمالاً عندَ نظامِ الأسدِ، حيثُ يشملُ الجميعَ بلَا استثناءٍ حتّى المُعارضةِ المُسلّحةِ، وواجهاتِها السّياسيّةِ المُعترفِ بهَا دوليّاً والّتي يجلسُ معهَا على طاولةِ مُفاوضاتٍ بلَا جَدْوَى.
والرُّوسُ فِي باطنِهم يُؤمنُونَ بهذَا الوصفِ الشّاملِ للجميعِ، لكنّهُم فِي الظّاهرِ يتحدّثُونَ أحياناً عَنْ مُعارضةٍ مُسلّحةٍ – أو “ما يُسمَّى بالمُعارضةِ” – من بابِ التّقيةِ السّياسيّةِ، ومِنْ بابِ تأكيدِ ادّعائِهم بأنَّهم دخلُوا الحربَ لمُكافحةِ “الإرهابِ” فقطْ، ولافتةُ “الإرهابِ” الّتي تُرتكبُ تحتَها كلُّ الجرائمِ الشّنيعةِ معَ ضمانِ عدمِ المُحاسبةِ تُخفِي حقيقةَ الهدفِ الروسيِّ، وَهُوَ بقاءُ الأسدِ ونظامِهِ دونَ أدْنى تغييرٍ إصلاحيٍّ فِي البنيةِ السّياسيّةِ والأيدلوجيّةِ الحاكمةِ لهذَا النظامِ العائليِّ الوراثيِّ.

ومُؤتمراتُ حلِّ الأزمةِ بالتّفاوضِ السِّلْمِيِّ فِي جنيف وفيينا وأستانا والّتي لم تنتجْ شيئاً مُفيداً حتّى اليومِ هدفُها تبييضُ الوجهِ الروسيِّ بالظّهورِ أمامَ العالمِ بأنّ مُوسكو حريصةٌ علَى التّوصّلِ لحلٍّ سياسيٍّ حتّى لا يبدُو أنَّ الهدفَ مِنَ التّدخُّلِ هُوَ عسكريٌّ فقطْ، واستخدام القوةِ الهائلةِ لاستعادةِ كلِّ مَا فقدَهُ الْحليفُ قبلَ مُسارعتِها لإنقاذِهِ، وحتّى يبدُو الأسدُ وكأنّه راغبٌ فِي السّلامِ.

استفادَ الرُّوسُ مِنْ هذِه الاجتماعاتِ غيرِ الجادّةِ فِي استثمارِ الوقتِ لاستعادةِ كلِّ المُدنِ والبلداتِ الّتي خسرَها نظامُ دمشقَ، كانَ يوماً يُسيطرُ فقطْ علَى مساحةِ 11% – 8% مِنْ جغرافيا سوريا، واليومَ لم يبقَ خارجَ سيطرَتِهِ إلّا 8% فقطْ، وهِيَ مساحةُ إدلبَ تقريباً.
 وهنَا لنْ يكونَ للحلُولِ السِّلْميّةِ ومُؤتمراتِها معنى كبيرٌ، كمَا لنْ تمثّلَ ضغطاً علَيهِ لَو تفضّلَ وواصلَ الجلوسَ علَى مائدةِ التّفاوضِ، حيثُ سيتكلّمُ مِنْ منطلقِ المُنتصرِ، وسيتفاخرُ بأنّهُ خدمَ العالمَ بالقضاءِ على “الإرهابِ”، وسيقولُ: أينَ المعارضةُ؟، ومَا هُوَ وجودُها الحقيقيُّ علَى الأرضِ عسكريّاً وسياسيّاً؟

أزمة المعارضة

 ومشكلةُ المُعارضةِ المُسلّحةِ والسياسيّةِ أنّها لم تعُدْ موحّدةً، ولا حتّى في محنتِها الكُبرى الحاليةِ بعدْ أنْ فقدتْ كثيراً مِنْ أرضِها وزخمِها ومصادرِ قوّتِها، فَهِيَ مُعارضاتٌ وأطيافٌ ومنصّاتٌ، وكلُّ مُعارضةٍ وطيفٍ ومنصةٍ منها تابعةٌ لهذِا البلدِ أو ذاكَ تبعاً لِمَنْ يموّلُ ومَنْ يُؤوي ومَنْ يرسمُ أجندتَها، ومِنَ الْمُفارقاتِ أنَّ روسيا نفسَها لهَا معارضةٌ تتبعُها ويطلقُ عليهَا منصةُ مُوسكو!

فقدانُ المُعارضةِ المُعتدلةِ للوَحدةِ الجامعةِ ألحقَ ضرراً كبيراً بهَا، لكنَّ الضّررَ الفادحَ الّذِي أصابَها جاءَ مِنَ التّنظيماتِ الإرهابيةِ الفعليّةِ، “دَاعِش”، و”النّصرةِ”، ومَنْ يتشابُهُ معهُمَا فِي الأهدافِ الشّريرةِ.

ولولا رواجُ نظريّةِ المُؤامرةِ وتحكّمُها في بنيةِ تفكيرِ قطاعاتٍ من العقلِ العربيِّ الرسميِّ والشعبيِّ لسايرْتُ للنّهايةِ الّذين يزعمُونَ أنَّ “داعِش” إنتاجُ أجهزةِ استخباراتٍ دوليّةٍ مِنْ أمريكا إلَى إسرائيلَ وروسيا وإيرانَ ونظامِ الأسدِ، كما يرِدُ ذكرُ أنقرةَ وكلِّ عاصمةٍ لها مصلحةٌ فِي مُواصلةِ استخدامِ فزّاعةِ هذا التّنظيمِ والإرهابِ لإحكامِ سيطرتِها على السّلطةِ دونَ أيّةِ إصلاحاتٍ.

ويتبدّى اليومَ أنَّ جانباً مِنْ نظريةِ المُؤامرةِ هذِه يمنطقُ نفسَه، ذلكَ أنَّ كلَّ صاحبِ مصلحةٍ استفادَ مِنْ هذا التّنظيمِ الّذي أعطَى بمُمارساتِه صورةً مُخيفةً جعلتِ الْعالمَ الحرَّ يُصابُ بالفزعِ منهُ، ويقبلُ بالتّضحيةِ بأشواقِ الدّيمقراطيّةِ، ويدعمُ الاستبدادَ مدنيّاً أَو عسكريّاً تخوَّفاً مِنْ أنْ يكونَ صعودُ قُوى أخرى خارجَ قُوى الحكمِ المعتادةِ يُخفي وراءَهُ أنظمةً، إمّا داعشيةً، أو مُشجّعةً لأفكارِ الدواعشِ، وصعودُ اليمينِ المتطرّفِ فِي أوربا بكلِّ عنصريّتِهِ وعدوانيتِهِ تُجاهَ الإسلامِ والمُهاجرينَ واللاجئينَ أحدُ نتائجِ الداعشيةِ سواءٌ أكانتْ ظاهرةً حقيقيةً، أمْ صناعةً مُخابراتيّةً.

وبالبحثِ فِي الجروحِ النّازفةِ بالدّماءِ الغزيرةِ فِي المنطقةِ العربيّةِ نجدُ أنَّ كلَّ نظامٍ استفادَ بقدرِ مَا يريدُ من وجودِ داعِش، وقدْ لا يختفِي التنظيمُ تماماً، بلْ قدْ تنتجُ عنهُ نسخةٌ أشدُّ فِي الإجرامِ لأنَّ الحاجةَ لمثلِ هذِه الظّاهرةِ لاتزالُ قائمةً.

في النهاية

إدلبُ سِلْماً أو حرْباً ستعودُ للأسدِ، فالرُّوسُ لا يتحمّلونَ استمرارَ وجودِهِم العسكريِّ الضخمِ معَ الكلفةِ الماليةِ الكبيرةِ لعامٍ آخرَ، لذلكَ يعملُونَ بكلِّ وسيلةٍ لاستعادتِها، وتركيا فِي موقفٍ لا تُحسدُ عليهِ إذَا حدثَ اقتحامٌ للمُحافظةِ المُحاذيةِ لَهَا معَ مَا يترتّبُ علَى ذلكَ مِنْ خسائرَ استراتيجيّةٍ وسياسيّةٍ وعسكريّةٍ ونزوحِ مئاتِ ألوفٍ جددٍ إليها، وهِيَ لمْ تعُدْ تتحمّلُ نازحاً واحداً، ولدَيها ما يكفِيها ويفيضُ مِنَ النّازحينَ بجانبِ مشاكلِها الاقتصاديّةِ، وجبهاتِ الأزمةِ المفتوحةِ.

لنْ يتورّعَ الرّوسُ عنِ استعادةِ إدلبَ حتّى يكونَ انتصارُهم كاملاً، وينتشِي بوتين أكثرَ ممّا هو مُنتشٍ بحرْبِهِ علَى الإرهابِ الدّوليِّ، والأسدُ يتعجّلُ السيطرةَ علَى آخرِ جيبٍ للمُعارضةِ المُسلّحةِ وجبهةِ النصرةِ ليُلقي خطابَ النّصرِ، ويتحدّثُ فيهِ كَمَا يشاءُ عنْ بطولاتِهِ ويكرّسُ واقعاً ديكتاتوريّاً انتقاميّاً أشدَّ مما كان عليهِ قبلَ انتفاضةِ الشّعبِ السوريِّ للحريّةِ والكرامةِ والعدالةِ الّتي تخضّبتْ بالدِّماءِ وتمَّ تحويلُها إلى إرهابٍ مثلمَا تمَّ وصمُ الربيعِ العربيِّ بأنّه مؤامراتٌ وخياناتٌ وفوضى وخرابٌ للأوطانِ!

إنّها المنطقةُ التّي تعشقُ الحاكمَ الفردَ، هكذَا نشأتْ، وهكذَا تستمرُ، بلا أملٍ في التّغييرِ، لذلكَ يتجلّى إنجازُ أوربا الّتي أحدثت قطيعةً حقيقيّةً معَ العقلِ المُظلمِ، وبدأتْ عصراً جديداً معَ العقلِ المُستنيرِ فأسّستْ للحضارةِ العظيمةِ والدّيمقراطيّةِ الشّعبيّةِ والحُكمِ الرّشيدِ.

من الطبيعيّ أنْ يُحكِمَ الروسُ والأسدُ والإيرانيونَ وحزبُ اللهِ وبقيةُ الميليشياتِ الّتي تحاربُ معهُم قبضتَهُم علَى سوريا كاملةً ويُسلّمونَها للأسدِ ظاهريّاً، لكنَّ الواقعَ أنَّ كلَّ بلدٍ وطرفٍ مِنْ هؤلاءِ سيكونُ لهُ نصيبُهُ فِي البلدِ، إمّا فِي شكلِ احتلالٍ مُباشرٍ، أو تبعيّةٍ مِنْ نظامِ دمشقَ له، أو وصايةٍ عليهِ، فهُم أخلصُوا لهُ ودعمُوه بكلِّ السُّبلِ حتّى يعيدُوه حاكماً لكلِّ سوريا أرضاً، وليس شعباً، ولابدّ أنْ يسدِّدَ مَا عليهِ مِنْ فواتيرَ.

كلمة السر

المُعارضةُ المدنيّةُ الحالمةُ جرَفَها طوفانٌ مُدمّرٌ من تفتُّتِها أوّلاً، ثُمّ مِنَ النّظامِ وحلفائِهِ، ومِنَ التّنظيماتِ الإرهابيّةِ، ومِنْ أصدقائِها المُفترضِينَ الّذين لمْ يكنْ دعمُهم لهَا فعّالاً وتخلُّوا عنها تدريجيّاً ونسَوها اليومَ وتحوّلُوا مِن شعارِ أنّهُ لا مكانَ للأسدِ فِي السّلطةِ، إلى المُوافقةِ على بقائِهِ فِي السّلطةِ حتّى مِنَ الْأطرافِ العربيّةِ الّتي كانتْ تطالبُ برحيلِ الأسدِ حرْباً أو سِلْماً.

وإسرائيلُ كلمةُ سرٍّ مهمّةٍ فِي عدمِ إزاحةِ أمريكا والغربِ للأسدِ، فهِيَ تُريدُه وهُوَ بحالتِهِ الحاليةِ شديدةِ الهزالِ، حيثُ سيكونُ مُناسباً أكثرَ لهَا لجهةِ حمايةِ حدودِها وخدمةِ أهدافِها وعدمِ التّفكيرِ وَلَو دعائيّاً فِي استعادةِ الجولانِ، سوريا لعبةٌ دوليّةٌ كبيرةٌ حرْباً وسِلماً، ومصيرُها الأخيرُ ليسَ فِي أيدِي العربِ، ولَا حتّى تركيا وإيرانَ، إنّما فِي أيدِي قوَّتَينِ: روسيا وأمريكا، وفِي الخفاءِ قوةٌ ثالثةٌ وهِيَ إسرائيلُ.

قبلَ أيّامٍ، قالَ وزيرُ الخارجيّةِ الفرنسيِّ جان إيف لو دريان إنَّ الأسدَ قدْ فازَ بالحربِ، ولكنّه لم يفزْ بالسّلامِ دونَ حلٍّ سياسيٍّ يدعمُهُ وسطاءُ دوليُّونَ.

السَّلامُ في سوريا سيكونُ بعيداً جدّاً، فبشاعةُ الجريمةِ التّاريخيةِ مِنْ كلِّ أطرافِها لنْ تُعيدَ سوريا كمَا كانتْ، ولَا السّوريّينَ كما كانُوا. إدلبُ ستكونُ خاتمةَ الحربِ، لكنَّها لنْ تكونَ بدايةَ السلامِ لملايينِ الضّحايا والمظلومينَ، ولا بدايةَ جديدةً لوطنٍ كانتْ مكوّناتُهُ المُتنوِّعةُ ترتبطُ بخيطٍ دقيقٍ رفيعٍ، فهذَا الخيطُ تمزَّقَ، وهذَا الوطنُ تمزَّقَ أيضاً.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه