سايكس بيكو – ترمب بوتين

 

معذرة على ما جاء في عنوان المقال من اختلاف في المراكز بين أشهر دبلوماسيين في العقد الأول من القرن العشريين وهما الدبلوماسي الفرنسي فرنسوا جورج بيكو ونظيره البريطاني مارك سايكس وبين أشهر حاكمين في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وهما دونالد جون ترمب حاكم أمريكا ونظيره فلاديمير فلاديميرو فيتش بوتين حاكم روسيا، ولكنهم جميعا جمعتهم صفة واحدة وهي أنهم قادة تقسيم وتدمير وتهيئة المنطقة العربية لإخضاعها لهيمنات استعمارية مختلفة الأشكال والأجناس.

ببساطة وبعيدا عن التباسات التاريخ السياسي المعقد للمنطقة العربية نسترجع أحداثا مرت بها المنطقة قبل ما يزيد عن مائة عام، ربما أراها متشابهة مع أحداث تمر بها نفس المنطقة اليوم وربما يراها البعض قدرا «سيزيفي» ضرب المنطقة العربية وفرضه عليها تحالفا أزلي من طرفين… الاستعمار والخيانة.

ونبدأ من نقطة جلاء جنود الفرنسيين عن مصر 1801م وبدء تحركات بريطانيا العظمي لضم مصر إلى مستعمراتها التي لا تغيب عنها الشمس، ونجاحها في تحقيق هدفها عام 1882م بعد مشاهد ومناورات بينها وبين فرنسا التي لم تقطع الأمل في الهمينة على مصر مرة أخرى، وما استتبع ذلك أو ما لازمه من ازدياد أطماع استعمارية أخرى في المنطقة مثل إيطاليا وبلجيكا وغيرها وتزامنه مع ظهور الملامح الأولى لضعف الدولة العثمانية.

كان المشهد في اللحظة التي توقفت عندها يوحي بأن هناك صراعا استعماريا بين فرنسا وإنجلترا على الهيمنة والسيطرة على المنطقة العربية، وربما يجد بعض الساسة أن في هذا الصراع الاستعماري توازنا يعرقل هذه المطامع، ولكن الأحداث التالية أكدت سذاجة هذه الرؤية.

عندما بدأت الأطماع الاستعمارية الغربية تزداد في الشرق انزعج الفرنسيون والإنجليز من هذه المزاحمة في الصراع والتي تقلل فرصهم في الهيمنة على المنطقة، ولأن الصراع غير عقائدي ويتعلق بالمطامع الاستعمارية تغاضي الغريمان عن عدائهما القديم وقررا التعاهد والتوحد على قيادة مخطط تقسيم المنطقة لتصب في النهاية في مصلحتهما التي هي ليست بالضرورة تكمن في سيطرتهما الاستعمارية المباشرة على دول المنطقة، وإن كان الأسلوب المعتمد للهيمنة في هذه الفترة كان يتلخص في الاحتلال العسكري.

وبالطبع كان لا بد من ضمان وجود عوامل مساعدة داخلية محلية لتسهيل هذه السيطرة والهيمنة على المنطقة والتي كان انسبها زرع أنظمة أو ترويض أنظمة يرتبط وجودها بالاستعمار وتتداخل مصالحها معه، وهو ما يفسر الارتباك المتعمد واهتزاز موقف الأنظمة العربية المنفصلة مصالحها عن مصالح شعوبها إزاء كل الإجراءات الاستعمارية في المنطقة ومنها اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور وحرب 1948 وغيرها.

ما علينا… بدأت أول تحالفات إنجلترا وفرنسا في شكل حوارات سرية بين الدبلوماسي الفرنسي فرنسوا جورج بيكو ونظيره البريطاني مارك سايكس والتي توجت في عام 1916 م باتفاقية سايكس بيكو التي تم فيها الاتفاق بمباركة الإمبراطورية الروسية على تقسيم حوض نهري دجلة والفرات والجزء الساحلي من بلاد الشام (الهلال الخصيب) بين فرنسا وإنجلترا وتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا وخاصة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولي.

ودون الدخول في تفاصيل الاتفاقية إلا أن ما يهمنا هو هذا الاتفاق بين الغرماء على الهيمنة الاستعمارية على المنطقة ووضع بذرة تحكم استراتيجية داخل أقطارها، وللأسف لم يتم هذا فقط في إطار تخاذل الحكام والأنظمة العربية بل بمباركة معظمها!!، وظلت هذه الاتفاقية في إطار من السرية النسبية حتى قيام الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 وفضح الشيوعيين  للاتفاقية باعتبارها سلوكا استعماريا شارك فيه نظام القيصر في روسيا، وهو ما أدى عبر تفاصيل كثيرة إلى إعادة صياغة أهداف الاتفاقية وبنودها في معاهدة «لوزان» التي أدخلت تركيا «أتاتورك» في معادلة التقسيم وإعطائها حق الهيمنة الاستعمارية على شمال سوريا.

ربما يردد البعض أن معظم دول المنطقة العربية استقلت بعد ذلك، والحقيقة أن هذا الاستقلال لا يعني التخلص من الهيمنة والسيطرة الاستعمارية على المكان وخاصة بعد زرع إسرائيل في المنطقة بموجب وعد بلفور عام 1917 وإعلان دولة إسرائيل على أرض فلسطين 14 مايو (أيار) 1948 وهو اليوم الثاني لإلغاء الانتداب البريطاني على فلسطين!!

كل هذا تم بمباركة كثير من الأنظمة العربية وتخاذل متعمد من حكامها، وهو أمر طبيعي طالما مصالح الحكام أصبحت منفصلة عن مصالح الأوطان والشعوب، وأصبح مصير معظم الحكام مرتبطا برضاء المستعمر الخارجي، وأصبح معظم حكام العرب معبرين عن مصالح المستعمر أكثر من كونهم حراسا وأمناء على مصالح شعوبهم، إلا من رحم ربي.

زمن ترمب – بوتين

الاعتداء الثلاثي (أميركا وفرنسا وبريطانيا) على سوريا في مواجهة نظام بشار الأسد… يبدو في مشاهده الأولى أنه في مواجهة روسيا المتضامنة مع بشار الأسد.

والمشهد الذي تصدره الدول الغربية أنها مختلفة مع بعضها حول الأحداث والمشكلات في المنطقة العربية ومبرر التدخل هو مواجهة الإرهاب المزعوم والذي يدعى الغرب أن شرارات نيرانه تطال شعوبهم… أما السبب الحقيقي فهو الصراع بين هذه الدول على الهيمنة على المنطقة العربية وتحويلها بشعوبها إلى ترس يضخ خيرات بلاد العرب في خزائن بلاد الغرب، فلا تتعجب إذا علمت أن الضربة الثلاثية لسوريا كانت بالتنسيق مع روسيا، والغرض هو تهيئة المبررات للتدخل والوصول لاتفاقية تقسيم النفوذ أو المصالح في المنطقة على غرار اتفاقية سايكس بيكو وإن كانت بأشكال تختلف عن الأشكال العسكرية السابقة.

أما عن موقف الأنظمة العربية فهو امتداد لنفس موقف الأنظمة العربية والحكام العرب وقت اتفاقية سايكس بيكو في مطلع القرن العشرين، وأعتقد أنه لنفس الأسباب وهو ارتباط مصالح ومصير هذه الأنظمة وهؤلاء الحكام بمصالح المستعمر أكثر من ارتباطها بمصالح أوطانهم وشعوبهم، كما أعتقد أن حكام مرحلة ترمب – بوتين في القرن الحادي والعشرين قدموا من المساعدات الواضحة والمنظمة لتسهيل مهمة المستغل العربي بكرم زائد جعلهم أكثر تميزا عن أقرانهم الحكام العرب على مشارف القرن العشرين… ولكم في هذا الأمر مشاهد عديدة:

  • قمع الحريات في مصر وخاصة لكل الأصوات التي تواجه الهيمنة الاستعمارية في المنطقة وتدعو للاستقلال الوطني.
  • قيام النظام المصري بالتنازل على جزيرتي تيران وصنافير في البحر الأحمر للسعودية، رغم ما لهما من أهمية استراتيجية في الصراع العربي الإسرائيلي، واتضح بعد ذلك أن هذا التنازل كان في إطار تفاهمات غير معلنة بين الأنظمة المصرية والسعودية والإسرائيلية بهدف إقامة مشروع مشترك تشير كل الدلالات أنه ضمن مشروع كبير في الشرق الأوسط تحت رعاية أميركا.
  • سياسة التدليل للغرب والإغداق بالأموال على أميركا التي تقوم بها بالسعودية في موازاة مع سياسات قمع غير مسبوقة للمواطنين تتبعها الأسرة الحاكمة، والدخول في تحالفات احترابية داخل المنطقة لا تصب نتائجها إلا في صالح تشكيلات الغرب وأطماعها في المنطقة العربية.
  • قيام النظام المصري بصفقات تكلفت ملايين الجنيهات مع  دول الغرب وشراء أسلحة ومعدات لا مبرر لشرائها في ظل أزمة اقتصادية طاحنة تمر بها البلاد وبغرض إرضاء هذه الدول والحصول على دعمها في توطيد قواعد هذه النظم والحاكم وضمان حمايتها من ثورات شعوبها.
  • إغراق مصر في الديون على غرار ما حدث قبيل الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 دون الاهتمام بمشروعات تنمية وفتح الباب على مصراعيه للمشروعات الأجنبية وإغلاقه أمام الإدارات المحلية والوطنية، بما يجعل مصر في حالة احتياج وعوز دائم لدول الغرب وتحالف الاستعمار

ما بين سايكس – بيكو على مشارف القرن العشرين وترمب – بوتين على مشارف القرن الحادي والعشرين، أي على مدار قرن من الزمان، لم تقل الشعوب كلمتها بعد، ولكنها حتما ستقول كلمتها مرة واحدة وحاسمة لينتهي تحالف الخيانة والاستعمار إلى الأبد.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه