حراك شعب الإعلاميين ضدّ المرزوقي

لا يجوز لإعلاميّ (نزيه) أنْ يُسيء لمفكّر ورئيس سابق، يُستقبلُ باحترام حيثما حلّ ليحاضر في المحافل الدوليّة، فيختزلَ محاضرة في مقاطع تُفبرك بطريقة تآمريّة.

عبد الرزاق قيراط*

يتعرّض الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي مرّة أخرى لحملة إعلاميّة تتهمه بالعمالة وإثارة النعرات، وتحريض الشعب التونسي على الانتـفاضة من جديد.

وتقوم تلك الحملة على استغلال المحاضرة التي ألقاها مؤخّرا في  الدوحة وبثتها قناة الجزيرة مباشر، حيث تناول زعيم “حراك شعب المواطنين”، موضوعا شائكا يتعلّق بآفاق الربيع العربي بعد سنوات صعبة حوّلت أحلام الشعوب الثائرة من أجل التحرّر إلى كوابيس مزمنة تعمل على عودة الاستبداد بواسطة الانقلاب في مص،ر والإرهاب في تونس والحرب في سوريا، والفوضى في ليبيا.

واللافت في الحملة الجديدة أنها شكّلت ما يشبه الحراك الذي لا يهدأ، ولا يتردّد في استعمال كلّ الوسائل الكفيلة بتشويه صورة المرزوقي لدى فئات كثيرة من التونسيّين الذين يصدّقون ما يقال لهم على شاشات التلفزيون، وعلى أمواج الإذاعات الكثيرة التي خصّصت مساحات واسعة للإطاحة بخصم سياسيّ لدود.

وبلغ ذلك الحراك، (حراك شعب الإعلاميين) ذروته بالمقطع المفبرك الذي بثته قناة الحوار التونسي في برنامج “اليوم الثامن” حيث وقع التلاعب بأجزاء من محاضرة المرزوقي لتضليل المشاهدين بمقتطف قال فيه: “سنتخلّص منكم ولو أدّى الأمر إلى حرق البلد”. غيّر أنّ ذلك الكلام الذي يمثّل تهديدا مباشرا يمسّ أمن الوطن واستقراره، ورد في سياق آخر يتعلّق بالشأن السوريّ.

لا يجوز لإعلاميّ (نزيه) أنْ يسيء لمفكّر ورئيس سابق، يُستقبلُ باحترام حيثما حلّ ليحاضر في المحافل الدوليّة، فيختزلَ محاضرة في مقاطع تُفبرك بطريقة تآمريّة خدمة لأطراف سياسيّة تحكم اليوم، وضربا لمن يعارضهم بطريقة ديمقراطيّة مشروعة. فذلك السقوط الأخلاقيّ كفيل بتقويض مصداقيّة المرفق الإعلاميّ، وتشويه المشهد السياسيّ برمّته، ما يمثّل خيبة كبيرة للتونسيّين الذين حرّروا الإعلاميين بعد ثورة لم يشاركوا فيها ولم يساندوها، حتّى يعملوا على تنوير الرأي العام لا تضليه والعودة إلى ضرب المعارضين الشرفاء كما كان يحدث في عهد بورقيبة وبن علي.

لقد تعرّضت صورة المرزوقي أثناء حكمه إلى ألوانٍ من الإساءة في منابر إعلاميّة لا حصر لها، فاتّهم بإسقاط هيبة الدولة، والعبث بمؤسّساتها، وتجرّأت أصواتٌ على التشكيك في مداركه العقليّة، واعتباره مضطرباً لا يصلح لرئاسة البلاد. ويُهاجم هذه الأيام، بشراسة ، تُــنتهك خلالها قواعد شرف المهنة والضوابط التي تضمن نزاهة العمل الصحفيّ. وليس الرئيس المرزوقي غافلاً عن ذلك كله، فقد تحدّث عن مهاجميه في كتابه “ننتصر.. أو ننتصر”، فقال مشخّصاً العلل التي أصابت جسم الإعلام: ” ما شاهدناه إبّان الثورة، سواء في تونس أو مصر، من انهيار للإعلام، مرتبط أوثق الارتباط بانهيار قاعدته الأخلاقيّة، حيث أطلّ علينا (صحافيّون) يكذبون ويبثّون الكراهيّة، ويحرّضون على العنف ويقتاتون من المال القذر، ويستعملون حريّةً لم يناضلوا أبداً من أجلها كأداة لقتلها”.

وفي ردّه عن الهجمة الأخيرة قال المرزوقي:” الموضوع ليس دعوتي لحرق البلد من عدمه وليس هل صحيح أنني طلبت رفع المشانق. فلا أحد يمكن أن يصدّق لحظة كلاما كهذا يصدر من تلميذ غاندي ومانديلا .. الموضوع التردي الهائل لإعلام تجاوز كل الخطوط الحمر. الموضوع انهيار مريع لكل القيم في التعامل مع المعارضين والخصوم السياسيين.

الموضوع ليس حرية الإعلام وإنما حقّ التونسيين في المعلومة الصحيحة وحمايتهم من التضليل… ” وأنهى ذلك التصريح الذي نشره على صفحته الرسميّة بالفيسبوك بقراره التوجّه إلى العدالة “لتقول كلمتها وتأخذ موقفا واضحا في الدفاع عن أبسط القيم والقوانين التي تضمن تواصل الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات”.

ومع ذلك، فإنّ الحسم لصالح المرزوقي أو ضدّه سيكون بعيدا عن القضاء ومتاهاته القانونيّة في مرحلة ما زالت تشهد تباطؤا في تركيز المؤسسات المحايدة النزيهة التي تضمن حياة ديمقراطيّة سليمة من التجاوزات والإخلالات التي تعطّل دور المعارضة، وتشوّه  زعماءها وأتباعها إعلاميّا أو قضائيّا.

سيكون الحسم في الميادين والساحات لحماية مكتسبات الثورة التي يتهدّدها مسار خطير. فما أشبه اليوم بالأمس، إذ تسير أوضاعنا نحو إعادة إنتاج المنظومة القديمة على نفس المنوال المستبدّ الذي يسانده قضاء مُسيّر وإعلام مُطبّل ومعارضة مهمَّشة، وشعب مكبّل. وهو المنوال الذي لا يتحمّل الأصوات التي تعارضه، وتتنبّأ بسقوطه نتيجة “انفجارات اجتماعية وسياسية” كما ذكر المرزوقي في محاضرته متوقّعا اشتعالها مجدّدا في بلدان الربيع العربيّ ” بسبب توافر البيئة الملائمة لها  حيث تتسع دائرة القمع والفساد والفقر.

ولأنّه تنبّا بالثورات العربيّة قبل وقوعها عندما قال سنة 2010 إنّ الشعوب العربيّة تواجه أنظمة مستبدّة بسلاح “إرادة الحياة”، فإنّ المرزوقي يُخيف على الأرجح النظام التونسيّ القائم اليوم بنبوءته الجديدة، وقد تزامنت مع الاحتجاجات المستمرّة في منظقة الحوض المنجميّ وفي مدن مجاورة بالجنوب التونسيّ، فحرّض عليه “شعب الإعلاميّين” ليشنّوا ضدّه حراكا يتهمه بالعمالة والخيانة والتآمر كما كان يفعل النظام القديم في عهد بن علي. فالتاريخ يعيد نفسه بدقّةٍ متناهيةٍ، عندما يتعلّق الأمرُ بالسياسة ونتائج صراعاتها. وإنها لكرّة خاسرة

________________

*كاتب تونسي

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه