ترمب: مُوكِّلي لم يسرقْ العِجلة!

 

 

كأيِّ مُحامٍ «فَهْلَوِيٍّ» ترافَعَ الرئيسُ الأمريكيُّ «دونالد ترمب» عنِ الْجُناةِ فِي قضيّةِ مَقْتلِ الصّحفيِّ السُّعوديِّ «جمال خاشقجي»، فَنَفَى قيامَهُم بالجريمةِ وألْصقَها بـ «المارِقِينَ»، لِيُذكِّرَنا بحكايةٍ تُرْوَى فِي أوسَاطِ المُحامِينَ، عَنِ الْمُحامِي الّذِي ينْدَفعُ للتّرافعِ دونَ أنْ يلمَّ بموضُوعِ الدَّعوَى، والبعضُ يقولُ إنَّها واقعةٌ حقيقيّةٌ وليستْ مجرَّدَ «حدُّوتةٍ» تُذكرُ للدّرسِ!

فالمُحامِي الفَهْلَوِيُّ، لمْ يُمعنْ فِي قراءةِ أوراقِ القضيّةِ، فقَرَأَ سطْرَينِ منْها، فعرَفَ أنَّها تقومُ علَى سرقةِ عِجْلةٍ (وهي صغارُ الأبقارِ)، وقدْ ضُبطَ المُتّهمُ مُتلبّساً بسرقتِها؛ إذْ وُجدتْ فِي منزلِهِ، فلا داعِيَ للإنكارِ. والحالُ كذلكَ، ولأنَّهُ مُحامٍ «فَهْلَوِيٌّ» كترامب تماماً، فَقَدِ انْدفعَ أمامَ هيئةِ المحكمةِ مُترافعاً، وارتفعَ صوتُهُ، وَهُوَ يقولُ إنَّ مُوكِّلَهُ لمْ يسرقْ العِجْلة، لكنْ هي الّتي سارتْ خلْفَهُ، دونَ أنْ ينْتبِهَ لَهَا، طمَعاً فِي البرسيمِ الّذِي يحمِلُهُ، فلمّا دخلَ منزلَهُ، دخلتْ خلفَهُ، وهنا جاءَ منْ لهُم صفةُ الضّبطيّةِ القضائيّةِ، ليضْبطُوهَا داخلَ المنزلِ!

بيدَ أنَّ القاضِيَ عاجلَهُ: المسروقُ عَجَلةٌ يا أستاذُ (أيْ درّاجةٌ) وليسَ عِجْلةً (مُؤنّث عِجْل)، ومَن يؤكّدونَ أنَّ الواقعةَ حقيقيةٌ، يَزيدونَ علَى ذلكَ بأنَّ المُحامِي اعتزلَ المُحاماةَ بعدَ هذِهِ الواقعةِ، وقدْ مرِضَ، وماتَ بعدَ ذلكَ بأسابيعَ قليلةٍ مِنْ فرطِ الخَجَلِ، فرُّغمَ كلِّ شيءٍ فلمْ يفقدْ مُحامِي سارقِ العَجلةِ، الإحساسَ باعتبارِه نعمةً، على العكْسِ منْ مُحامِي (الدمِ) الأمريكيِّ «دونالد ترمب»، الّذي يُدركُ وقائعَ القضيّةِ جيِّداً، علَى العكسِ منْ هذَا المُحامِي، ومعَ ذلكَ ترافعَ عنِ الْجناةِ فبرَّأَهُم وألصقَ الاتِّهامَ بـ «المارِقينَ»!

الكينج سلمان

لقدْ وعدَ «ترمب» الرأيَّ العامَّ لأكثرَ مِنْ مرّةٍ بأنّهُ سيتّصلُ هاتفيّاً بـ «الكينجِ سلمانَ»، بحسبِ قولِهِ ليقفَ منْهُ علَى حقيقةِ مقتلِ الصحفيِّ السعوديِّ «خاشقجي»، حتَّى صارَ الوعدُ بالاتّصالِ خبراً باهتاً بفعلِ التَّكْرارِ، وعندَما دقّتْ ساعةُ الحظِّ، اتّصلَ وبشّرَ بأنَّ الملكَ السّعوديَّ نفَى علمَهُ بمَا حدثَ لـ «لجمال خاشقجي». ولَا نعْرفُ إنْ كانَ علمُه لمْ يتّصلْ بخبرِ مقتلِهِ؟.. أمْ بالمُتورطينَ باغتيالِهِ؟، وإنْ كنَّا نحمدُ اللهَ ونشكرُ فضلَهُ، لأنَّ الملكَ لمْ يسألْهُ: «ومَنْ جمال خاشقجي؟».

وعلَى الرُّغمِ مِنْ هذَا فإنَّ «ترمب» بدَا مُسلِّماً بمَا سمِعَ، وعليهِ فقدْ «ترافعَ»، مُتطوعاً أو مُوكَّلاً، بقولِهِ: «قدْ يكونُ قُتلَ علَى يدِ مارقينَ»، دونَ أنْ يُحدّدَ ما هُوَ المقصودُ بـ «المارقينَ» الّذينَ يعنِيهم!

مَا علينَا، فـ «المارقُونَ»، يُقصدُ بهِم فِي السّياقِ، أنَّهم خارجُونَ على طوعِ الملكِ وولِي العهدِ، ليضعَنا هذَا أمامَ تساؤلاتٍ تحتاجُ إجابةً منَ المُحامِي الأمريكيِّ «الْفَهْلَوِيِّ»!

فالجريمةُ لمْ تتمَّ فِي الشّارعِ، ولكنَّها ارتُكِبَتْ داخلَ القنصليّةِ السّعوديّةِ، فهلْ يُفهمُ منْ كلامِه أنَّ القنصلياتِ والسّفاراتِ السّعوديةَ صارتْ أوكاراً فِي قبضةِ «المارِقِينَ»، وأنَّ دائرةَ «المروقِ» واسعةٌ لدرجةِ أنّها تشملُ شخصيةً دبلوماسيّةً كالقنصلِ؟!

أفراد العصابة

وإذَا كانتِ الرّوايةُ التّركيةُ تتحدّثُ عنْ خمسةَ عشرَ شخصاً، زارُوا إسطنبولَ لساعاتٍ معدودةٍ يومَ ارتكابِ الجريمةِ، وزارُوا القنصليّةَ قبلَ الانتقالِ لبيتِ القنصلِ، ومَنْ تمَّ التعرُّفُ عليهم منْهم تبيّنَ أنّهم منَ الْدائرةِ الضّيقةِ لولِي العهدِ، فهلْ يعني هذَا أنَّ «المروقَ» فِي السّعوديّةِ، يختلفُ عنِ «المروقِ» المعروفِ لغةً، واصطلاحاً، وتاريخاً؟!

وإذَا كانَ «المارقُونَ» يتصرَّفونَ علَى هذَا النّحوِ، فيملكونَ حقَّ الحركةِ في طائراتٍ خاصّةٍ، والتصرّفِ، ولهم سلطةُ اتّخاذِ القرارِ حتّى ولو كانَ قتلَ مُواطنٍ فِي مقرِّ قنصليةِ بلادِه، فإذا سلّمْنَا بأنَّ كلَّ هذا جرَى منْ وراءِ ظهرِ الملكِ وولِي العهدِ، فألا يعنِي هذا أنّنا أمامَ سلطةٍ فاقدةٍ للشرعيّةِ، وأوّلُ شروطِ الحكمِ هُو الدّرايةُ، وبسطُ النّفوذِ على مؤسّساتِ الدّولةِ، ومُحاربةُ «المارقِينَ»، فماذَا لو كانَ «المارقُونَ» هُمْ منَ الدّولةِ السّعوديّةِ ومِنَ الدّائرةِ الضّيقةِ الّتِي تحيطُ بولِي العهدِ؟!

وهلْ يعنِي هذَا أنَّ القيادةَ التركيةَ عنْدمَا كانتْ تتّصلُ بالسّعوديّينَ للحصولِ على مُوافقةٍ بتفتيشِ القنصليّةِ ومقرِّ إقامةِ القنصلِ، كانَ مَنْ يردُّ عليهم هُمُ «المارقونَ»، فيرفضونَ منحَ المُوافقةِ ورفعَ الحصانةِ عنِ القنصلِ؟!

«دونالد ترمب» ليسَ مثلَ الملكِ سلمانَ، لا يعرفُ ماذَا حدثَ لـ «جمال خاشقجي»، فهُو يُدركُ أنَّهُ قُتلَ داخلَ قنصليّةِ السّعوديّةِ في إسطنبولَ، ولهُ تصريحٌ قديمٌ بأنَّه «دخلَ القنصليةَ حتماً ولمْ يخرُجْ»، بجانبِ تهديداتٍ أُخرى، لكنْ مِنَ الواضحِ أنَّهُ كانَ يبتزُّ من أجلِ الوكالةِ، فهلْ كان فِي اتّصالِهِ بـ «الكينجِ»، يتّفقُ على الأتعابِ، وما هُوَ ما تخوّفَ منهُ الجميعُ مُبكّراً، سواءٌ في الدّاخلِ الأمريكيِّ، أو فِي الخارجِ، فليسَ هُو الشّخصَ الّذي يُؤتمَنُ على قضيةٍ كهذِهِ، لاسيَّما أنَّه يتحرَّكُ بالمالِ.

بيان الثلاثي

لقدْ ارتفعتِ الأصواتُ داخلَ الولاياتِ المُتّحدةِ، منَ الإعلاميّينَ، ومنَ الْحزبِ الدّيمقراطيِّ، تقولُ إنَّ «ترمب» سيتفاوضُ ليحمِي الجناةَ بمقابلِ ما يتحصّلُ عليهِ من المالِ السّعوديِّ، وقد صدرَ بيانُ الثلاثيِّ (بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا) يُشيرُ إلَى أنّها ستراقبُ سلامةَ الإجراءاتِ وتطالبُ بتحقيقٍ شفافٍّ. فلا أحدَ يثقُ فِي (العاهلِ) الأمريكيِّ!

وقد باتَ واضحاً أنَّ هذا الدفعَ الذي أبداه مُحامِي ولِي العهدِ السّعوديِّ «دونالد ترامب»، إنَّما يمهّدُ لما تمَّ الاتفاقُ عليه فعلاً، وهو ما تأكّدَ بعدَ ساعتَينِ من إبدائِهِ، وإن بدا الجانبُ السعوديُّ فِي تجاوزِ مرحلةِ النّفِي، إلى المرحلةِ التاليةِ، عقبَ هذا الاتّصالِ، والذي منَ الْواضحِ أنّه تمّ بنصيحةٍ مِنْ «مُحامِي الدمِ»، وهُو اصطلاحٌ يُطلقُ علَى صنفٍ منَ المُحامينَ المصريّينَ تخصّصُوا فِي قضايا القتلِ والثّأرِ، وأحدُهم دخلَ السياسةَ على كِبرٍ، ولم أسمعْ عنهُ أنّه كسبَ قضيةً واحدةً، لكنّها «السمعةُ» في أوساطِ الجهلِ والجهلاءِ!

بعدَ المكالمةِ الهاتفيّةِ، قرّرَ الملكُ سلمانُ بدءَ تحقيقٍ داخلَ المملكةِ في عمليةِ اغتيالِ «جمال خاشقجي»، وعهِدَ للنائبِ العامِّ للقيامِ بهذه المُهمّةِ، ولأنَّ الجريمةَ جرتْ على أراضٍ سعوديّةٍ (القنصليةِ) فإنَّ القضاءَ السعوديَّ هُو المختصُ بالمحاكمةِ، وبعدَ إعلانِ «ترامب» بأنَّ الجناةَ قدْ يكونونَ «مارقينَ»، نشرتْ وسائلُ إعلامٍ غربيّةٍ، أنَّ المتفقَ عليهِ هُو أنْ يتمَّ الزجُ بعددٍ منَ الجناةِ للمُحاكمةِ، دونَ الاقترابِ منَ الفاعلِ الأصليِّ الّذي وقفَ وراءَ هذِه العمليّةِ، وهُو سلوكٌ ينتمِي لتقاليدِ تجّارِ المخدراتِ الكبارِ، عندما يزجُّونَ فِي كلِّ قضيةٍ يتهمونَ فيها بأحدِ صبيانِهم فيُسجنُ بالنيابةِ، وممّا يُؤسفُ لهُ أنَّ دولةً كانتْ تمثلُ قيادةَ العالمِ العربيِّ والإسلاميِّ حتّى وقتٍ قريبٍ تُمارسُ القتلَ!

الذي يُثبت فؤادَنا، أنّه باتَ منْ الْواضحِ أنّ تركيا لنْ تتاجرَ فِي الدمِ المُراقِ، فبعدَ ساعاتٍ منْ تفتيشِ القنصليةِ كانَ الإعلانُ عنْ وجودِ دلائلَ أوليّةٍ تفيدُ أنَّ القتلَ تمَّ داخلَها رُغمَ المحاولاتِ السّعوديّةِ لطمسِ الأدلةِ!

وفِي أيِّ مكانٍ يتمُّ التحقيقُ، فالعالمُ كلُّه وقفَ علَى الجانِي الحقيقيِّ، الّذي (انتهى) رُغم توكيلِه ترامب، لأنَّه فِي دفاعِه اتّهمَ الدولةَ السعوديّةَ بأنّها تُدار بواسطةِ «المارقينَ»!

فالمُوكِّل لمْ يسرقْ العِجْلةَ..فالمسروقُ هو عَجلةٌ يا أستاذُ!

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه