القديمة تحلىَّ لو كانت «وحلة»

«القديمة تحلى لو كانت وحلة»، وهو مثل يستخدم في مجال تعدد الزوجات ويعبرعن مدى حنين الزوج لزوجته القديمة

«الوحلة» عند المصريين أسوأ أنواع الطين، وأصبح اللفظ يستخدم للتعبير عن أسوأ الصفات والعار الذي ممكن أن يصيب أي إنسان، ومنها المثل الشعبي المصري «القديمة تحلى لو كانت وحلة»، وهو مثل يستخدم في مجال تعدد الزوجات ويعبر عن مدى حنين الزوج لزوجته القديمة حتى لو كانت تحمل أبشع الصفات!! والمثل المصري ينتمي لفئة الأمثال العاطفية غير العقلانية لأنه يستبعد سؤالا عقلانيا، لماذا يلجأ الرجل للزواج على القديمة رغم أنها كما يقول المثل حلوة في عينه حتى لو حملت كل الصفات؟

وكأنه فاتح مصر

ما علينا، تذكرت هذا المثل عندما شاهدت مشهد دخول علاء مبارك لمسجد الحسين واحتفال المصريين به وكأنه فاتح مصر الحديثة حتى إنهم تركوا الصلاة والتفوا حوله، ومن قبله تكرر المشهد حيث ظهر علاء وشقيقه جمال في مطعم شعبي ومقهى في إمبابة، ومرة أخرى ظهرا في شبرا، وفي كل المرات كانت الجماهير تحيط بهما محتفلة!! وتذكرت منذ بضع  سنوات قبيل عام 2011 وحتى ثورة يناير (كانون الثاني) من نفس العام عندما كانت مشاعر المصريين تحمل كراهية شديدة للأخوين وأبوهما، وكانت الهتافات في الشارع تعكس هذه الكراهية وخاصة بعد ما ظهرت نية توريث الحكم للابن جمال مبارك وإطلاق يد علاء مبارك في البيزنس ومن هتافات هذه المرحلة «سوزان مبارك…. باطل…. جمال مبارك…. باطل…. علاء مبارك…. باطل» و«يا جمال قول لأبوك الشعب المصري بيكرهوك» و«لا توريث بعد اليوم»، فهل نسى المصريون الأسباب الرئيسية لثورتهم 2011. أم شعروا أنهم أخطأوا في ثورتهم؟ أم هناك دوافع أخرى؟ أم هو مرض الحنين غير الموضوعي الذي يصيب البشرية عامة ويتعاظم بمبالغة عند المصريين خاصة.

يرى البعض أن مظاهر الاحتفال بالولدين في بعض مشاهد الظهور المفاجئ في المناطق الشعبية لا يحمل محتوى حب أو تأييد للولدين أو لوالدهما، ولا يحمل حتى حالة اشتياق وشجن تجاه الماضي، وإنما هو حالة من التظاهر ضد النظام الحالي ورسالة رفض له بصرف النظر عن طبيعة هذه الرسالة.

ويرى البعض أن الظروف الاقتصادية التي نمر بها وتدهورها بالمقارنة بنظام مبارك الذي ثار عليه الشعب جعل الناس يتصورون بمعادلة ساذجة بسيطة أن نظام مبارك كان نظاما أفضل من نظام السيسي غير مدركين الارتباط بينهما، وأن النتائج التي وصلنا إليها لأن هي امتداد للنظام المباركي السيساوي.

الحنين العاطفي

يبقى ما أريد أن أتحدث عنه وهو الحنين العاطفي المتناقض مع المنطق العقلي والذي يتميز به الشعب المصري.

العالم كله معرض بنسبة لحالة الحنين اللاموضوعي للماضي إلا أن المصريين يعشقون حالة الحنين للماضي بشكل مبالغ فيه وهي الحالة التي تتعاظم إلى حد افتقادهم الذاكرة حول هذا الماضي.

الفرنسيون رغم خبراتهم الثورية الكبيرة التي صدروها للعالم وأفكارهم التقدمية حول المساواة والجمهورية وتجاربهم مع النظام الملكي من خلال إعلان جمهوريتين، ورغم الأدبيات التي صدرها الفرنسيون حول مساوئ الحكم الملكي وبشاعته وهو الأساس التي بنيت عليه الجمهورية الفرنسية كأشهر دولة تنادي بالحريات والعدالة الاجتماعية، إلا أنه وبعد مئات السنين على أول ثورة اجتماعية على الملكية ما زالت هناك مجموعات فرنسية تنادي بعودة الملكية مستندة على الخطاب العاطفي التاريخي، الذي يصيب ذاكرة الشعوب بشلل!!

ونفس الحالة في ألمانيا التي عانت ويلات الحكم النازي ودفعت ثمنه سنوات طويلة من الانقسام والهزائم المنكرة، تظهر مجموعات تتبنى الفكر النازي وتطورت إلى حد تحولها إلى تيار في العديد من دول أوربا تحت اسم «النازيون الجدد».

وفي مصر الحنين للماضي أمر قديم ينتمي إلى الحالة العاطفية أكثر من الفكر السياسي أو التحليل العلمي، وهذا ينعكس على تفاصيل الحياة المصرية من حكايا متداولة وأساطير مصنوعة تحولت إلى جزء من تكوين الشخصية المصرية وقصص تاريخية بلا وجود.

حتى معظم الأغاني المصرية تبكي الماضي وتحن للزمان الذي ولى دون إدراك المآسي التي كان المصريون يعيشونها في هذه الأزمنة.

فات الميعاد

أتذكر تناقضا كان دائما يؤرقني في أغنية أم كلثوم «فات الميعاد» للشاعر مرسي جميل عزيز، وكان هذا التناقض في فقرة شعرية واحدة تقول: «وحرقة الآهات في عز الليل وقسوة التنهيد والوحده والتسهيد لسه ما همش بعيد، وعايزنا نرجع زي زمان قول للزمان ارجع يا زمان، وهات لي قلب لا داب ولا حب ولا انجرح ولا شاف حرمان».

كنت دائما أتساءل عن هذه الحالة التي تتألم وتشتاق لماضٍ لم تر فيه إلا الجروح والحرمان!!!»

أتذكر أبي رحمه الله عندما كان يروي لي قصص النضال ضد الإنجليز في الشوارع وحكايات الفتوات المصريين الذين كانوا يصطادون جنود الاحتلال، وكان دائما يصفهم بالأبطال، وأتذكر روايات أبي عن فساد ونزوات الملك فاروق وعن بشاعات تعذيب الإقطاعيين للفلاحين واستخدامهم كعبيد، إلا أنني أتذكر أيضاً حنين أبي لنفس الفترة وتحول حكاياته السلبية عن النظام الملكي إلى اشتياق، عندما يتعرض همسا في الستينيات لبشاعة السجون و«الحيطان التي لها ودان»، واختفاء أي شخص ضد النظام وذهابه للمجهول الذي كان معروفا لدى المصريين بـ«وراء الشمس»، وفي موضع ثالث كان أبي يهلل للنظام في افتتاح السد العالي وخطب عبد الناصر التي يشتم فيها الملك حسين ملك الأردن، ويسخر من ملك السعودية، ويتحدى الأمريكان!!

كان الأمر بالنسبة لي كطفل تناقضات جعلتني بعيدا عن أي مشاعر تجاه أي موقف من مواقف أبي المتناقضة، والحقيقة لم يكن أبي فقط الذي يحمل هذا التناقض بل كان معظم المصريين، يتعاملون بعقلهم مع الواقع ما بين مؤيد ورافض وبعاطفتهم مع الماضي الذي ثأروا عليه ويتناقض مع واقعهم!!

هي نفس حالة النزوع العاطفي تجاه فترة حكم مبارك التي شهدت انهيارات اقتصادية واجتماعية وسياسية وسجونا وجوعا وفقدان الشباب للأمل، هي الفترة التي دفعت الشعب المصري للخروج في مواجهة آلة الشرطة القمعية في 2011 يحمل كفه على يده ويطالب برحيل النظام القمعي والقضاء على الفساد، وبصرف النظر عن ما انتهت إليه الأوضاع وتمكن نظام أكثر فساداً من النظام المباركي، إلا أن هذا لا يعني إطلاقاً زوال أسباب فساد نظام مبارك وتحوله هو وأبناؤه إلى رموز وطنية وربما زعامات شعبية قد تجد طريقها لكرسي الحكم على أكتاف الجماهير.

تفسيرات المكايدة

الحقيقة أيضاً أن الأمر لا يقف عند تفسيرات المكايدة السياسية للنظام القائم أو نظرية النزوع العاطفي الشعبي التي أميل إليها بحكم تأثري بالدراسات الإنثروبولجية، وإنما أعتقد أن الأمر يتعلق، بنسبة قد تكون كبيرة أو صغيرة، بالخواء السياسي والفراغ المعرفي وتناقض المفاهيم، وهي الحالة التي تم فرضها على الشعب المصري منذ بداية الدولة المصرية الحديثة عقب الحملة الفرنسية، وظلت تتصاعد حتى وصلت للذروة عقب حركة الجيش المصري عام 1952 وانهيار النظام الملكي وإعلان جمهورية الحكام التي لم يتغير مركز الشعب فيها فظل في نفس المركز الذي كان عليه وقت الحكم الملكي.

الحقيقة المؤكد أن الارتباك العاطفي للشعب المصري، الذي ينعكس على بعض تحركاته في الشارع تجاه أبناء مبارك أو نظام مبارك أو النظام الحالي ليس له علاقة برؤية سيفرزها المستقبل تستند إلى كل هذا الخبرات والحالات التي يعيشها أهل مصر، رؤية لن تحمل أي انطباعات عاطفية، وهنا لن «تحلى القديمة الوحلة».

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه