الربيع العربي.. نهاية حلم!

نصرالدين قاسم*

أضحت التجربة الديمقراطية في الجزائر التي أعقبت أحداث الخامس من أكتوبر عام ألف وثمانية وثمانين، والمألات التي عرفتها عقب انقلاب سنة ألف وتسعمائة واثنتين وتسعين، شبحا يحذر منه الجميع ويستعدون له، ويترقب تكراره كل المتطلعين إلى التغيير في الوطن العربي.. وتحولت عبارة “سيناريو الجزائر” إلى شعار يوحي إلى نظرية سياسية متكاملة أو معادلة أمنية معلومة الأطراف والتفاصيل..
“المحاولة الجزائرية” حدثت في بداية العشرية الأخيرة من القرن الماضي، لكن الشعوب العربية لم “تجرؤ” على التحرك للتعبير عن رغبتها في التغيير وتطلعها إلى الحرية والديمقراطية والانعتاق من طبائع الاستبداد – فيما عرف بالربيع العربي – إلا  بعد زهاء عشرين سنة من ذاك التاريخ… الشرارة انطلقت من آخر بلد كان يُنتظر أن تتحرك فيه السواكن، من تونس التي كانت ترزح تحت نير نظام استبدادي يحكم البلاد بقبضة من حديد، مسنود إقليميا وعربيا ودوليا، ماديا ومعنويا، وكان يقدم – أوروبيا – على أنه الأنموذج الجيد للحكم في إفريقيا والعالم العربي…
رائحة “ثورة الياسمين” فاحت على المنطقة وغزا “عطرها” أرض الكنانة، فانتقلت “العدوى” إلى مصر التي أعطت فيها الثورة على نظام مبارك زخما كبيرا لما اصطلح على تسميته بـ “ثورات الربيع العربي” بسلميتها وتماهي كل المصريين في بوتقتها.. وشهد العالم في ثورة المصريين صورا حضارية تعبر عن رقي الانسان العربي وتسامحه وتعاضده بمختلف مكوناته السياسية والطائفية وفئاته الاجتماعية، سمات ظلت تخفيها أنظمة التسلط والاستبداد وتطمس معالمها كلما حاولت أن تنبلج من ظلامه الدامس المفروض على الأمة..
وتوالت الجرأة من ليبيا وانهيار القذافي، ثم اليمن وتحييد علي صالح، ثم سوريا التي وقعت ثورتها ضحية تجارب الثورات السابقة، وجنون “الأسد” ورهان حلفائه على وقف الزحف الثوري وعزمهم على هزمه في الشام ولو بتدمير البلاد وتحويلها إلى رماد.. لكن فرحة المتجرئين على الاستبداد لم تدم طويلا.. فسرعان ما بدأت مرحلة الانهيار، والسقوط الحر “للحلم العربي الكبير” وتوالت الضربات لأن اختيار الشعوب الديمقراطي لم يكن ليروق العالم الديمقراطي، وأنظمة الحكم “المونارشي” والأوتوقراطي..
كانت البداية من مصر، عندما اغتال العسكر “الربيع الديمقراطي” في وضح النهار، فسفكوا الدماء وقتلوا المصريين المسالمين بالآلاف، وزجوا بالآلاف في السجون، وسط  تواطؤ عالمي بالمشاركة والدعم المادي والمعنوي المباشر وغير المباشر أو بالصمت.. الانقلاب الذي بدأ غريبا منبوذا اشتدت شوكته وعظم جبروته بأموال خليجية ودعم أوروبي وصمت أمريكي ممزوج بمساعدات على استحياء يحركها “مبدأ دعه يقتل دعه يتمكن”.. ليتأكد “الإخوان”، أكبر التنظيمات السياسية شعبية في مصر أنه يتحركون في وسط معاد، لا أحد يقبل بهم ولا يكن لهم أي ود، لقد كانوا اختيارا ديمقراطيا نزيها غير مرحب به، فأُهدِر دمهم واسْتُبيح عرضهم، ودفعوا ثمن شعبيتهم وفوزهم بثقة المصريين غاليا وما زالوا يدفعون.. 
وفي سوريا وبمجرد أن هب نسيم “الربيع العليل”، وما لبث النظام الجهنمي أن تأكد بأن عدوى الثورة حطت رحالها في الشام حتى استنفر قواه، ليفسد العرس ويحوله إلى مأتم وما فتئ يمعن في الحصار والقتل والتدمير الشامل حتى حول سوريا إلى نار ورماد وقودها النساء والأطفال والشيوخ. لقد نجح بمساعدة ومؤازرة عسكرية وحربية من حزب الله وإيران في تغيير طبيعة الحراك الشعبي السلمي وقلبه إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة: اقتتال بين الجميع ودمار ليس له مثيل.. اختلط فيه الحابل بالنابل فأصبحت الثورة هشيما تذروه الرياح، والغرب يتفرج منتشيا، بدمار سوريا وعودتها مئات السنين إلى الوراء بما يضمن أمن إسرائيل آلاف السنين.. والعرب يترقبون خوفا من أن تؤول الأمور إلى من لا يحبون، كما حدث في مصر..
وفي تونس، الثورة السباقة والمعلمة، استشعرت النهضة بفضل حكمة قياداتها خطورة الوضع وما يتربص بثورة الياسمين، وما يترصد الحركة الأكثر شعبية في البلاد، فاستنكفت وانكمشت وتنازلت وواصلت التنازل، وسايرت المضايقات والتحرشات، لتفوت الفرصة على الكائدين، وتترك العاصفة تمر دون أن تطحن الوطن.
 وقد نجحت تونس بفضل حكمة “الغنوشي” في تفادي حمام الدم والدموع والدمار.. وقد لخص راشد الغنوشي كل ذلك في حديث لجريدة الخبر الجزائرية قائلا: “الشعب التونسي يريد أن يعيش في هدوء.. ” لو تقدمنا الى هذا المنصب سينهار المسار بانقلاب ، بإرهاب ، باغتيالات ، بفوضى عارمة ، لأن موازين القوى لا تسمح لنا بالترشح للرئاسة ..” فالرجل كان يدري ما يبيت لهم كما حدث في تجارب أخرى.. وهكذا عادت تونس إلى ما قبل مرحلة بن علي، وشرع في ردة شاملة، وقضي على الثورة بأخف الأضرار: بانقلاب أبيض هادئ وبرضى قوى الثورة وصانعيها، وبرعاية دولية وعربية “كريمة”.. 
وفي ليبيا ما بعد القذافي، سرعان ما تفرق دم الثورة بين القبائل والميليشيات المسلحة وقوى الضد المعادية للثورة ولم يحدث الفرز وتفرق الثوار شيعا وأحزابا ومجموعات مسلحة وراحوا يقتتلون كل فريق بما لديهم من دعم وحلفاء فرحون فذهبت ريحهم.. ودخلت البلاد نفقا مظلما بدا فيه الجميع وكأنهم اتفقوا على انتحار جماعي لا يبقي ولا يذر .. استقر فيه الوضع على الاقتتال بين فصيلين، فصيل الانقلابيين بدرنة يقوده اللواء المتقاعد خليفة حفتر مدعوما بمصر الانقلاب والإمارات .. وفصيل طرابلس بزعامة فجر ليبيا مدعوما بقطر وتركيا..
وفي اليمن قُتل الربيع قتلا مبرمجا بأيد عربية، ورعاية دولية، فقد أُجهضت الثورة باحتوائها في المبادرة الخليجية، ثم حوصرت بدعم الحوثيين والرئيس المخلوع مباشرة أو بتواطؤ البعض بالصمت لقطع الطريق أمام  حركة الإصلاح الاخوانية ، وكسر شوكتهم وتغييبهم عن الساحة وإقصائهم نهائيا.. الربيع اليمني مهدد اليوم بالاغتيال لأن لا شيء يضمن نجاح الحرب الاستباقية السعودية في اليمن أو حزم الملك سلمان في إصلاح ما أفسدته السياسة السعودية أو حسابات الملك عبدالله تجاه الحوثيين وبقايا نظام الرئيس المخلوع القائمة على مبدأ “دعه يتمدد دعه يتمكن ليقينا شر الإخوان”.. ذلك لأن الحرب في اليمن ستُدخل المنطقة دوامة الدم والدمار التي دخلتها سورية وليبيا ومصر، وهذا وضع يصعب الخروج منه لأنه يرضي الكثير من الأطراف بما فيها أمريكا وأوروبا التي تعتقد دول المنطقة أنهم حلفاؤها..
الثورات العربية كانت بداية ربيع بـ “سننوات قليلة” ومعروف “أن بضع سننوات لا تصنع ربيعا” كما يقول المثل الفرنسي.. كان “الربيع” حلما جميلا راود الشعوب من المحيط إلى المحيط، سرعان ما حولته طبائع الاستبداد إلى كابوس قاتل، لأنه أفرز ديمقراطية خارجة عن الرقابة والتحكم تعبر عن إرادة الشعوب التي لا تستجيب للمخططات والسيناريوهات المبرمجة للمنطقة ومستقبلها. وبقدر ما استبشر الناس خيرا ببدايات هذا الحلم الجميل الذي قض مضاجع التسلط والاستبداد وتغنوا به، بقدر ما أصبحوا يتوجسون منه خيفة، عندما حُوِّل إلى كابوس يقض مضاجع هذه الشعوب الثائرة.. الحالمة…
إنها نهاية حلم مفتوحة على كل الاحتمالات، أثبتت للجميع أنه غير مسموح للإنسان في هذه المنطقة من العالم أن ينعم بالديمقراطية والحرية والعيش الكريم في كنف السلم والأمن واحترام حقوق الإنسان، مفروض عليه ان يظل يرزح تحت نير الظلم والاستبداد والاستعباد في ربع خال من الديمقراطية والتعددية وحرية التعبير والاختيار والتنقل.. وضع تفرضه إرادات داخلية ومحلية ترفض التغيير وفق إرادة الشعوب، وإرادة دولية ترفض التغيير الذي يشق عليها عصى الطاعة ويؤسس لحق شعوب الشرق الأوسط في تقرير مصيرها واختيار من يحكمها بكل حرية وسيادة.. وبين الإرادتين تبقى إرادة الشعوب تقاوم فقد يأتي “الربيع” يوما ويتجدد الحلم ويتجسد

_________________

* كاتب وصحفي جزائري

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه