أين الجثة يا صاحب المنشار؟

 

 

الطريقة التي قتل بها جمال خاشقجي صدمت كل إنسان على وجه الأرض؛ فالجريمة لم تتوقف عند سفك دم صحفي، لا يملك غير قلمه، على يد فرقة اغتيال، أرسلها حاكم يريد أن يرعب معارضيه، وإنما تم استخدام المنشار لتمزيق الجثة إربا إربا، ثم إخفاء الأشلاء في أكثر من مكان، وبعضها بالتذويب في الحمض!

كثيرة هي الجرائم التي يشهدها العالم، لكن لم يحدث أن تكشفت التفاصيل الكاملة كما تم مع خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول؛ فالمكان والشخص جعلا القاتل هذه المرة عاريا أمام العالم، فالدولة التي اختارها القاتل ليجعلها ضحية هذه المؤامرة الشريرة أمسكت برقبته، والشخص الذي أراد القاتل أن يكون أمثولة وعبرة لغيره أصبح دمه لعنة تلطخ وجهه، لا يستطيع الفكاك منه.

هذه البشاعة التي أعادتنا إلى جرائم الإنسان البدائي وعصور ما قبل التاريخ تؤكد أن أمتنا تواجه خطرا جديدا لم يكن متوقعا، وهو تخلي بعض حكام العرب عن إنسانيتهم والتنصل من الإسلام وتعاليمه وارتكاب أفظع الكبائر من أجل الكرسي.

لم تكن جريمة قتل قابيل لأخيه هابيل بهذه العدوانية والغدر، حيث شعر قابيل بالندم ودفن الجثة، وتعلم من الغراب كيف يواري سوأة أخيه، ولكن في جريمة خاشقجي، رفض القاتل أن يترك الجثة ليتم دفنها، ويماطل حتى الآن في تقديم أي معلومة عن مكانها.

ما تسرب من معلومات تقول إنهم قطعوا أصابعه التي يكتب بها، وقطعوا رأسه قبل تمزيق باقي الجسد، وتصوير هذه الفظاعات بالفيديو ليراها صاحب قرار الإعدام، ليستمتع بمشاهدة الضحية، وكأنه يذبح كبشا ويمثل به، في مشهد يثير الاشمئزاز من هذه الروح السادية!

أردوغان وترمب

معركة إدانة القتلة في جريمة جمال خاشقجي عليها اتفاق دولي، لكن الصراع الآن على من يمسك الملف وتوظيفه، حيث يريد ترمب استخدام الجريمة للابتزاز والاستيلاء على أموال السعودية، والسطو على احتياطي البترول، وتنفيذ استراتيجيات موضوعة سلفا لتقسيم المملكة.

في المقابل يمسك أردوغان بالملف ويرفض أن يتركه لترمب، ويعمل على إدانة القتلة ومعاقبتهم، واقترح محاكمتهم في تركيا لقطع الطريق على التدخل الأجنبي، ومنع استخدام الجريمة لمعاقبة المملكة والدخول في طريق مجهول.

الحرص من أردوغان على محاصرة القاتل ولف الحبل حول رقبته وتجنيب بلاد الحرمين العقوبات الدولية هو الذي جعله يتأخر في إعلان الأدلة وبث التسجيلات، وكثف الضغط على القصر السعودي للاعتراف بالجريمة وهذا ما حدث بالفعل رغم المراوغة.

أمام الضغط التركي المتواصل والحملة الإعلامية الدولية التي تقودها واشنطن بوست التي تبحث عن الثأر لكاتبها البارز اعترف القصر السعودي بمقتل جمال خاشقجي داخل السفارة، وقدم أكثر من رواية خلاصتها إبعاد ولي العهد من الاتهام، وتقديم كباش للفداء.

مأزق بن سلمان

كان بن سلمان يعول على ترمب وصهره كوشنر في إغلاق الملف وتبرئته من دم خاشقجي، ولكن الموجة العالمية كانت أشد وأقوى من الاحتواء، فاضطر ترامب إلى التراجع والانسحاب والإعلان عن تسليم الملف للكونغرس، فلم يكن أمام ولي العهد غير استجداء رضا أردوغان بكلمات مصطنعة عن متانة العلاقة بين السعودية وتركيا، ولكن أردوغان رد عليه بمطالبته بمكان الجثة وقال له ” إن غدا لناظره قريب”.

يحاول بن سلمان تقديم رواية تقترب من الرواية التركية ولكنه يمتنع عن تقديم أهم إجابتين لأن فيهما رقبته، الأولى: أنه لا يعترف بأنه القاتل، ويزعم أن الجريمة ارتكبها معاونوه دون استشارته، والثانية: عدم تقديم أي معلومات عن الجثة المختفية، والزعم بأنها سلمت إلى متعهد محلي مجهول، لأن ظهورها سيكون صادما وسيفجر موجة غضب عالمي.

يراهن بن سلمان على الوقت ويتوهم أنه في صالحه، ويظن أنه يستطيع شراء سكوت العالم والإفلات بدفع المال كما اعتاد، لكن هذه المرة اتسعت الدائرة، بقوة دفع الموقف التركي والدولي ولم يعد ممكنا خاصة أن أردوغان هو الذي يمسك بملف القضية ويرى أن المؤامرة تستهدفه هو شخصيا وحزب العدالة والتنمية.

على العكس فإن الوقت ليس في صالح بن سلمان؛ فحتى لو أصرت السعودية على الروايات الكاذبة للجريمة فإن المعلومات التي أعلنها الأتراك كانت هي الأكثر مصداقية، خاصة أن تركيا أطلعت الكثير من الدول على بعض الأدلة التي جعلت كل من يزور تركيا يعود غاضبا على الأمير السعودي، وبعضهم اتهمه بالاسم بالوقوف خلف الجريمة.

العقوبات الدولية

من غير المتوقع أن يسلم بن سلمان نفسه لحبل المشنقة بإرادته، كما أنه من غير المتوقع أن يضحي من أجل بلده ويقدم استقالته من منصبه ليضع نفسه تحت المقصلة، ولا يبدو أمامنا منافس له قوة داخل القصر، يستطيع إنقاذ المملكة وتنصيب ملك جديد أو ولي عهد آخر، وهذا ما سيعرض السعودية للحصار الدولي والعقوبات.

لم يعد أمام ولي العهد الكثير من المناورات، ولن يقتنع أحد بتمثيلية محاكمة المتهمين داخل السعودية، وسيظل المطلب التركي هو الإجابة على الأسئلة التي طرحها أردوغان وأهمها أين جثة خاشقجي؟ وإذا أصر بن سلمان على موقفه فإن أردوغان سيكون مضطرا في النهاية لإعلان ما لديه من تسجيلات والتي حسب كل من استمع إليها تدين بوضوح الحاكم الفعلي للسعودية.

نحن أمام تكرار لتجربة العراق الذي تعرض للحصار الدولي بعد توريط صدام حسين في غزو الكويت، مع الفارق بين دوافع الشخصين والخلاف في التفاصيل، لكن هذه المرة الحل في إسطنبول وليس في واشنطن والعواصم الأوربية، ولن يقبل أردوغان إلا بعزل بن سلمان ومحاكمة المتهمين في تركيا، وانقاذ المملكة من الشبكة الصهيونية التي تحارب الإسلام في بلاد الحرمين وفي دول المنطقة.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه