مسلسلات رمضان ومكياج التاريخ

 

 

أزفَ رمضان بالرّحيل، وأزف معه الوصول إلى خطّ النّهاية في هذا السّباق المحموم في سوق المسلسلات، ليجلس بعده المنتجون ليعدوا أرباحهم!

للأسف يتدنس كل ما تمسه يده التجارة الملعونة، وتسقط معه كل الأخلاقيات والقواعد إلا قواعد الربح والخسارة.

 لقد كانت التلفزيونات الرسمية سابقا تقدم أعمالا تنسجم مع المجتمع إلى حد ما، ولكنّها لا تتصادم بشكلٍ فجّ مع ثوابته الدينية والأخلاقية، أما الآن فقد فقدت الحكومات العربية كل البقية الباقية من رشدها، لتترك صناعة المسلسلات لجنون المال وجشع المنتجين.

حمى الأرقام بين نسب المشاهدة والأرباح:

ومع مناخ خنق الحريات الذي يجفف ضروع الإبداع، وفي ظل ازدهار الفساد الأخلاقي وتجارة الضمائر والأقلام، تصبح المواضيع الشاذة عن المألوف والطروحات الصادمة للمجتمع هي أقصر طريق لاستقطاب نسب المشاهدة العالية، لا يقف في وجهها لا مقص رقيب، ولا ضمير ممثل.

إن حظر مشاهد التقبيل في المسلسلات لم يمنع الكثير منها من طرح أفكار إباحية مئة بالمئة في قالب يشبه حياتنا اليومية، مما يساهم في التطبيع مع هذه الأفكار أكثر بكثير من الأفلام الإباحية نفسها.

إن مشاهد السرير، ومواضيع الزنا والدياثة والاغتصاب، وتعدد العلاقات، والخيانات الزوجية، بالإضافة إلى العنف والتفكك الأسري والمخدرات، والقصص التي يكون أبطالها المحبوبون بلطجية ومجرمين وخارجين عن القانون، صارت للأسف مواضيعَ مطروحة بكثافة على الشاشات التي تومض في كل بيت، وأمام عيون كل أفراد الأسرة، لأن كتابة مثل هذه المواضيع أسهل بكثير من تأليف نص إبداعي بحبكة ذكية، يستطيع جذب المشاهد دون أن يستفز انفعالاته البدائية.

صناعة الجهل وصناعة المسلسلات:

ومع هذا الخليط من الجدب الإبداعي والإسراف الإنتاجي، تنفصل المسلسلات العربية في مضامينها عن هموم المواطن الحقيقية، وتخدره بقصصها الصادمة، وبمواقع تصويرها الباذخة.

وعوضا عن أن ترتقي الأعمال الفنية بفكر الناس وأخلاقهم، فإنها تهبط إليهم ثم تهبط بهم أكثر، بدءا من تخريب الذوق العام، ونشر ثقافة الصراخ والعنف والبذاءة، وانتهاء بالكوميديا التهريجية، التي تعتمد على الصور النمطية وسيلةً سهلة لصناعة النكتة، فتجعل البدناء، وداكني البشرة، وأبناء الريف، وسكان المناطق الشعبية وغيرهم، مادة لسخريتها، عوضا عن أن تساهم، كأي فن محترم، في محاربة هذا التنميط الساذج والمهين.

ولا عجب ألا يقلق صناع المسلسلات مما تلقاه أعمالهم من انتقادات شديدة اللهجة وسخرية لاذعة، فهم لا يستهدفون الجمهور الواعي المثقف الذي تحول بفضل عمليات التجهيل الممنهجة إلى مكون صغير ومحدود التأثير من مكونات الشعوب العربية، بل إن الجمهور المستهدف الذي يحقق نسب المشاهدة العالية هم غالبا الناس البسطاء، الذين يتفشى فيهم الجهل، والأطفال واليافعون الذين يشكلون الأغلبية السكانية في الأمة العربية الفتية، ولذا فإن هذا الجمهور المستهدف لا تستفزه سخافة الحبكات الدرامية، وغباء الحوارات، وفداحة الأخطاء الإخراجية، بل يستهلكها بشغف، لأنها بالنسبة له جرعة ترفيهية مجانية، تغذي خيالاته الجامحة، وتنسيه صعوبات واقعه الذي يُطحن فيه بلا هوادة.

مسلسلات اليوم تاريخ الغد:

لكن خطورة مثل هذه الأعمال تتعدى كل ما ذُكر للأسف، ففي حين أن المسلسلات هي مصدر للتسلية بالنسبة لمشاهد اليوم، فإنها ستصبح مصدرا للتاريخ بالنسبة لمشاهد الغد!

إن التاريخ هو العلم الوحيد الذي تتسرب حقائقه من بين أيدينا ما لم تدون، ليسهل بعد ذلك ضياعها أو تشويهها، وصناعُ المسلسلات يدونون تاريخنا الآن بأكثر الأدوات احترافية وجاذبية، وما نستنكره اليوم معتبرين أن بعده عن الواقع هو أمر بديهي اليقين، لا يحتاج إلا إلى النفي البسيط، سيمثل بالنسبة لأجيال المستقبل، بعد  مئةً عام أو مئتين أو أكثر من ذلك، ألبومَ صورٍ حقيقيٍ لماضيهم، ومادةً وثائقيّة ومصدرًا يروي الأحداث التاريخية الكبيرة، كما يعكس أيضاً أخلاقيات ذلك العصر وهموم أهله ونقاشاتهم وأزياءهم وعاداتهم وتفاصيل حياتهم اليومية.

 لذا فإن كل هذه الطروحات المنحرفة لا تدخل جيوب المنتجين على شكل عملات نقدية فقط، بل تدخل أيضا صفحات التاريخ على شكل معطيات زائفة.

فالناس العاديون لن يفتحوا نشرات الأخبار القديمة، ولن ينبشوا في فوضى الداتا الرقمية المهولة، ولن يقرؤوا هذا المقال، ليطلعوا على حقبة ماضية، بل سيكتسبون معلوماتهم من أكثر المصادر جاذبية وإمتاعا وتماسكا.

 أما دراسو التاريخ الذين يتعاملون مع المعطيات بحذر أكبر، فستكون أعمال كهذه مصدر تشويش كبير لهم، ومبررا لتبني طروحات غير دقيقة، سيوجد دوما ما يدعمها من أعمال “توثق” تلك المرحلة.

بين ألف ليلة وليلة وباب الحارة:

إن من بين كل الكتب العربية التي ألفت في عصور الازدهار، فإن أكثرها انتشارا في العالم العربي وفي العالم أجمع هو كتاب ألف ليلة وليلة. ورغم رداءته النسبية مقارنة بالأدب الرفيع الذي أنتجه العصر العباسي، كأدب الجاحظ والهمذاني والمعري وغيرهم، لكن ألف ليلة وليلة حقق هذه الشهرة الواسعة، بسبب جرعة التسلية والإمتاع العالية، التي تضمنتها قصصه الخيالية، مقارنةً بغيره من كتب الأدب، التي كانت تقتصر على رواية القصص الحقيقية.

وهكذا فقد ساهم هذا الانتشار الواسع لهذا الكتاب، وترجمتُه إلى العديد من لغات العالم، في تقديم صورة غير دقيقة عن التاريخ الإسلامي، وفي ترسيخ صورٍ نمطية عن الشرق وأهله، لا تزال متبناة من قبل كثيرين حول العالم، بل في العالم العربي نفسه أيضا، كما ساهم إلى حد كبير في الترويج لأحداث مختلقة، وفي تشويه شخصيات تاريخية، أبرزُها الخليفة العباسي هارون الرشيد.

كما أن من أكثر الأمثلة وضوحا في فضح أثر الأعمال الفنية في تشويه التاريخ هي مسلسلات البيئة الشامية، التي قدمت صورة غير دقيقة عن حياة الناس في تلك الحقبة الزمنية، التي لا يفصلنا عنها إلا أقل من مئة عام، ومع ذلك فقد انتشرت هذه الصورة انتشارا كبيرا، وصدقتها الأجيال الجديدة التي سُحرت بالعمل الفني، في حين أن الحقبة نفسها وثقها الأديب علي الطنطاوي باستفاضة في مذكراته، دون أن تترك كتبهُ ذات المصداقية العالية ذات التأثير الذي تركه عمل فني واحد في تكوين رؤية جيل كامل عن فترة من فترات تاريخه القريب.

وكذلك الأمر مع صورة مصر التي تم تشويهها في عيون العالم العربي من خلال السينما في القرن الماضي دون أن يفصل بين الشعوب أي فارق زمني!

وهكذا يُرى بوضوح كيف أن فنونا من هذا النوع هي الأكثر انتشارا، والأكثر قدرة على تغيير الحقائق، والأطول تأثيرا في وجدان الشعوب.

مكياج أمل عرفة وسيناريوهات ضباط المخابرات:

وبينما يقدم معظم صناع المسلسلات صورة مشوهة عن واقعنا الحالي، لأغراض ربحية بحتة، فإن شركات الإنتاج المملوكة من قبل أجهزة المخابرات، أو المرتبطة بالأنظمة الاستبدادية، تدخل بكل ثقلها في سوق صناعة المسلسلات عن وعي كامل بأهمية هذه الصناعة في محو الذاكرة.

فخطط مسلسلات رمضان باتت توضع في اجتماعات مغلقة بين صناع الأعمال وضباط المخابرات في مصر، كما نشرت صحيفة النيويورك تايمز، لا سعياً إلى تغيير النسيج الفكري والأخلاقي للشعب المصري فقط، بل كتابةً أيضا لتاريخ هذه الحقبة من حكم الطاغية على النحو الذي يمجده ويمجد بيادقه، فالتوصيات المسربة من هذه الاجتماعات تضمنت منع تجسيد كل ما يمكن أن يسيء لرجال الجيش والشرطة من مظاهر الفساد والقمع، ومهاجمة وتشويه الإخوان المسلمين، بل منع إظهار مناطق العشوائيات في مصر، الأمر الذي يعتبر تزييفا ممنهجا ومتعمدا للتاريخ.

أما الأعمال السورية، التي تُنتج بكثافة هذه الفترة، فتقوم بإعادة تقديم تاريخ الثورة السورية، على النحو الذي يتطابق مع رواية النظام، وفي إطار درامي جذاب محشو بالأكاذيب.

فمشاهد القصف وجرائم الكيماوي، تتحول في هذه الأعمال إلى تمثيليات مدبرة من العصابات المسلحة، وجراح الناس النازفة، وغبار الأنقاض الذي يغطي وجوههم، قٌدم على وجه أمل عرفة في شهر رمضان على أنه مكياج احترافي من قبل المتآمرين على الوطن، وعناصرُ الجيش وضباطه يظهرون على أنهم نبلاء هذه الحرب ذوو التضحيات والوطنية العالية، وتتخلل كل تلك المشاهد حوارات تلقن المشاهد رواية النظام السوري للأحداث، مع ضخ عاطفي ودرامي جاذب ومقنع، في مقابل قيام منصات يوتيوب وفيس بوك بفلترة مشاهد جرائم النظام السوري، تحت ذريعة خرق معايير المجتمع والتحريض على العنف.

إن سرد هذه الحقائق المفزعة يُراد منه هز أكتاف أصحاب الحق على واقع صناعة المسلسلات العربية المرعب، ليتنبهوا لخطورة هذا الأمر كما تنبه غيرهم، عساهم يقومون بتوجيه رؤوس الأموال للدخول في هذا السوق، دخولا يدر الأرباح بلا شك، لكنه قبل ذلك كله يكون لسان صدق في صحائف التاريخ، الذي يحاول الظلمة تشويهه بكل ما يستطيعون.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه