ليلة القتل الأبيض: عندما يصبح البيع مهمة الحاكم!

مبنى ماسبيرو في العاصمة المصرية القاهرة

هكذا تمضي خطة القضاء على الانتماء والروح والوطنية في مصر، وقريبا ربما يجد النظام في إغراق مصر بالديون (١٠٨ مليارات دولار خارجية، و٤.٢ تريليون جنيه داخلية ) حجة في قبول صفقة القرن.

 
تتهاوى ذاكرة أجيال متعاقبة على يد نظام أدمن البيع والتفريط منذ أن أعلن رأس النظام أنه لو “يطول يتباع ها يتباع”، وهكذا أصبحت سياسة البيع منهجا للنظام بكل أركانه، وبموظفيه الكبار.
فها هي صفقة بيع تراث ماسبيرو (مبنى التلفزيون الرسمي بالقاهرة) تهبط على رؤوس المصريين، وإن لم تكن مفاجئة فسياسة البيع مستمرة.
ويأتي خبر بيع تراث ماسبيرو متواكبا مع بيع حقوق البث الأرضي لكأس أمم أفريقيا المقامة في مصر لإحدى شركات القطاع الخاص وحرمان الهيئة الوطنية للإعلام من عوائد الإعلانات على بطولة تبث حصريا على قناة أرضية مصرية، وتحويل تلك العوائد إلى شركة إعلام المصريين (التي يتردد بقوة أنها ملك لأحد الأجهزة السيادية) وهي التي تهيمن الآن على الإعلام المصري تماما.
ويتواكب ذلك أيضا مع الإعلان عن إعادة “أتيليه القاهرة” الموجود بشارع كريم الدولة بوسط القاهرة، والملاصق لميدان طلعت حرب لأصحاب المبنى وملاك العقار، ويتضح أن صاحبة المبنى يهودية والمبنى يعود لابنها (الصهيوني) ..
وجاء الورثة ليهدموا أتيليه الثقافة والفكر والحوارات، ومبنى الكتاب والمبدعين والفنانين التشكيليين المصريين، ولينهوا تاريخا طويلا من الذكريات والأحداث والوجدان.
هل هي صدفة أن يسبق ذلك بقليل ترميم الآثار اليهودية في مصر، وبأموال المصريين؟ وذلك بعد أن رفض السيسي منحة للترميم من يهود أمريكا قائلا: “احنا هانرمم الآثار بفلوسنا” .. 
لا ندري أي فلوس، ومصر تقترض يوميا .. فهل تقترض لترمم الآثار اليهودية؟!!! 
هل مصادفة أن يفاجئنا النظام السبت الماضي وفي نهار رمضاني شديد الحرارة بهدم مساكن حكر السكاكينى (بوسط القاهرة) على رؤوس سكانه دون تجهيز بديل لهم؟ 
وبين عشية وضحاها تصبح الأسر بالشارع في نهار رمضاني شديد الحرارة، تحت ذريعة التخلص من المناطق العشوائية.

 

ليلة القتل الأبيض 

أثار قرار بيع ماسبيرو وجعا كبيرا داخل قلبي، إذ أمضيت ثلاثين عاما من حياتي في دهاليز ماسبيرو، عايشت خلالها لحظات انتصاره، وقاومنا خطوات الهدم حتى انتهى بي الأمر مفصولا دفاعا عن هدمه، ولأني وقفت أيضا ضد بيع جزيرتى تيران وصنافير. 

وفى غمرة حزن عام ألّم بي، تابعت سهرة تليفزيونية كتبها يسري الجندي، وأنتجتها “صوت القاهرة” -قبل توقفها عن الإنتاج الدرامي- جعلتني أربط بينها وبين ما نمر به.. السهرة عن رجل أعمال ناجح (أو هكذا يرى نفسه) تقوده الصدفة لسهرة مع قاضٍ، ومحامٍ ووكيل نيابة أحيلوا للمعاش، وأصبحت تسلية لديهم كل ليلة أن يحاولوا إيجاد قضية لأحد العابرين ومحاكمته ..
 ولأن رجل الأعمال يعتقد أنه لم يقتل أحدا فيدخل اللعبة ليتفاجأ في النهاية أنه قتل صاحب الشركة التي عمل فيها، واستولى على ثروته و زوجته أيضا، ولكن دون استخدام وسيلة قتل حقيقة (مسدس أو سكين)؛ لكن جرى بتخطيط وبسلاح غير ملموس عبر المؤامرة، فصار “القتل أبيض” فيحكم عليه القاضي بالإعدام .. ولانها لعبة، فلم يتم تنفيذ الحكم رغم الاعتراف بالجريمة! لكن هناك حكم العادل الذي لا يغفل عن العقاب. 

محو ذاكرة الوطن 

شعار البيع الذي يرفعه نظام الحكم في مصر صار وسيلة فعالة في قطع صلات للمصريين بماضيهم وتجفيف منابع انتمائهم للأرض، ومعها تموت مشاعر الانتماء والحنين والارتباط بهذه الأرض ..
بدأ من حارات مثلث ماسبيرو ومنشية ناصر وحكر السكاكينى وحتى جزيرة الوراق التي لا تزال تقاوم الهدم والتهجير؛ ولكن الحكومة لا تنس أبدا؛ فقد أعلن مسؤول بعد افتتاح الجسر (الكوبري) المعلق الجديد: أن الكوبري يناسب المنطقة الاستثمارية المقرر إنشاؤها على أرض  جزيرة الوراق. 
إذن فالمخطط مستمر، ويبقى الهدف.
في تلك الأماكن يزداد القرب الإنساني، وتتجلى العلاقات المتينة بين السكان، وتتراكم الذكريات وعند هدم الأحياء ينتقل السكان إلى مناطق أخرى، وهو ما يعد هدما لوجدان وقوة مصر الصلبة؛ فبدلا من اللمة والقوة تصبح النزعة الفردية والخلاص الفردي طريقا لهم. 
 

الإسكندرية بين بناء السور وهدم القصور 
 

وهذا سور عازل بناه النظام يحجب المصريين في مدينة الإسكندرية التاريخية عن  بحرها الذي لم يجرؤ أحد من حكام مصر على الاقتراب منه ..
فالبحر ملك الشعب و بناء سور يفصل بين الشعب سواء سكان المدينة أو المصطافين من بقايا الطبقة الوسطى في مصر (بعدما أصبح أقل المصايف تكلفة عليهم)  يدخل ضمن محاولات تدمير بقايا الماضي والذكريات والانتماء؛ لكن النظام يصر على حرمان المصريين من أقل شيء، ألا وهو الاستمتاع بالبحر هبة الله لهم ..
وكذلك قتل ما تحمله ذاكرتهم من الأحلام والأفراح والآلام، وما بين بناء العازل وبناء مقاهٍ وفنادق لا يستطيع سوى طبقة واحدة صغيرة العدد الدخول إليها، إلى هدم مبانٍ تراثية تحل محلها ناطحات سحاب لا تعرف مالكها هل هو: إماراتي أم سعودي أم صهيوني؟ أم وكيل عن أحدهم؟ 
وشمل الهدم أيضا مباني تراثية قديمة من قصور الثقافة والفنون، ومسارح ذات تاريخ وفيلات قديمة بالمدينة العريقة .. 
ويتزامن هذا مع قرار إخلاء حي المنتزه من الشاليهات والفيلات به، والإعلان عن تحويل الحي إلى منطقة استثمارية لمشتري مجهول الهوية حتى الآن. 
لقد تم حصار المدينة الجميلة عروس البحر الأبيض بين الهدم والبناء .. هكذا تنتصر فضة المعداوي بنت شادر السمك (قام بدورها سناء جميل في مسلسل الراية البيضاء) على السفير مفيد أبو الغار (قام بالدور جميل راتب) المثقف صاحب التاريخ ليرفع المثقفون “الراية البيضاء” في مواجهة شرسة مع الرأسمالية الطفيلية وقوة المشتري ..
مسلسل الراية البيضاء أيضا إنتاج ماسبيرو  ربما يتم بيعه، وربما تمزق شرائطه حتى لا يذكرهم بالجريمة! 
 

وطن بلا ثقافة وطن  بلا روح 

تمضي خطة نزع أعمدة الشخصية المصرية وبيعها وهدمها سلسة  جدا في عصر عبدالفتاح السيسي .
فمن هدم بيوت حيث الأرض لم تعد انتماء إلى هدم صروح الثقافة التي تعني بالتوثيق الأدبي والفني والتاريخي للأمة، يمضي نظام عسكري غير معترف بالثقافة ولا تراث ولا إبداع ..
ولكن الأثر الذي سيتركه الهدم على الشخصية المصرية يصل لحد الجريمة بحق الساعين للثقافة والمبدعين ..
وفى هذه النقطة يأتي قرار هدم مسرح السلام بالإسكندرية منذ سنوات ( لعمل جسر)  فالمسرح غير مربح لهم وكذلك هدم اتيليه القاهرة؛ فالثقافة موجعة للقلب ومثيرة لعواطف الانتماء وتأصيل لقيم وجدانية ليسوا في حاجة إليها ..
فمحو الروح التي تحيا بالثقافة والإبداع والفنون لابد أن تتلاشى مع تلاشي الانتماء.. وهكذا يأتي بيع تراث ماسبيرو وهدم دوره  وتحويله إلى فندق كبير أو إلى مبنى فاقد للروح وغير منتج لأي نوع من أنواع الثقافة والإبداع ..
وهو هدف عظيم لمن يبحث عن محو الشخصية المصرية و تدمير قواها الناعمة والثقيلة؛  فنشر الظلام مهمة كبيرة لهم ..
وفي هذا الظلام تنمو أخطر الجرائم وتبقى الحقيقة مختفية في ظلام العقول، وفي ظلام النوايا.
 

الوطنية المصرية في مرمى النيران 
 

 أصابت نيران البيع “الوطنية المصرية” خلال السنوات الخمس الماضية بالعديد من الإصابات، بدأها النظام بالتنازل عن مياه النيل بإثيوبيا في مارس ٢٠١٥ حينما أعلن عن التوصل لاتفاق مع السودان وإثيوبيا، وبمقتضى هذه الاتفاقية تم التنازل عن الحقوق التاريخية في مياه النيل لتدخل مصر إلى حيز الفقر المائي كما أعلن وزير الري، والتنازل عن النيل وهو أحد أعمدة الشخصية المصرية التي سردها المفكر المصري “ميلاد حنا” في كتابه المعنون بنفس الاسم ( أعمدة الشخصية المصرية السبع) ..
وقد بدأت فكره البيع بادعاء الفقر والعوز ( انتوا ما تعرفوش إننا فقرأ اوي (جدا) اوي ) أو ( أنا عايز أنقذكم من العوز)..
لم يكن التنازل عن مياه النيل تنازلا عن المياه فقط بل تنازلا عن أحد أهم أسباب قيام الدولة المصرية، فعلى ضفاف النيل استقر المصري قديما وبنى الكوخ وصولا إلى بناء الدولة المصرية الموحدة على يد الملك مينا..
فالتنازل هنا عن مكون من مكونات الوطنية المصرية ثم توالت الأحداث عاصفة من التنازل عن جزيرتى تيران وصنافير تلك الأرض التي ارتوت بدماء المصريين طوال حربها مع العدو الصهيوني، بالإضافة إلى كونهما أحد حدود الأمن القومي المصري وكذلك مفتاح الملاحة في خليج العقبة ..
فجاء البيع للدماء المصرية واستراتيجية الأمن القومي وتلاشيها لدى النظام ويصبح طبيعيا أن يكون البيع في مقابل أي قيمة حتى لو كانت الدم لتكتمل شبكة العنكبوت حول رقبة المصريين؛ فنجد أنفسنا أمام مشاركه في مدينة نيوم بنحو ١٠٠٠ كم من سيناء لمدينة عالمية يكون الكيان الصهيوني شريكا فيها مع الإمارات والسعودية ومصر .. ومن قبل التوقيع على قرار منح مساحات أخرى لدول مثل البحرين (لاحظ علاقتها مع الكيان الصهيوني ) إلى قرار بقانون لتمليك أرض سيناء للعرب معاملتهم كالمصريين في ٢٠١٥، وحق الانتفاع للأجانب. 
هكذا تمضي خطة القضاء على الانتماء والروح والوطنية في مصر، وقريبا ربما يجد النظام في إغراق مصر بالديون ( ١٠٨ مليارات دولار خارجية، و ٤.٢ تريليون جنيه داخلية ) حجة في قبول صفقة القرن للاستفادة المادية منها وربما تقديم تنازلات جديدة!
فهل أحكم العنكبوت خيوطه على رقاب المصريين أم لشباب يناير، عندما يتوحد،
رأي آخر؟!
 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه