لماذا لا نُقلّد كوستاريكا؟

وزادت قناعتي بأنّ انهيار اقتصاد بلداننا ناتج عن سياسات حكوماتنا الفاشلة لا غيرها. حكومات تُفرّط في ثروات بلدانها الطبيعية وتلهث وراء أوهام.

   كثيرا ما ارتبط موضوع الاهتمام بالمناخ واعتماد الطاقات النظيفة بالرفاهية الفكرية التي تُمارسها الطبقات السياسية والاجتماعية الحالمة في العالم الثالث، أو تستعرضه بعض الدّول العظمى لتُغطّي على جرائمها البيئية الفظيعة بسبب جشعها الاقتصادي وسياساتها الحربيّة المُتوحّشة.

ورغم أنّ رهانات الدول الفقيرة لا تجرؤ على الحلم بأكثر من توفير الغذاء لشعوبها، إلّا أنّ كوستا ريكا اقتحمت مجال استغلال الطاقات النظيفة واعتمدت سياسة طموحة، نقلتها من خانة الحُلم إلى خانة الرّيادة الفعلية، ولاحت نتائجها المُبهرة منذ سنة 2015 وصولا إلى دخولها موسوعة غينس للأرقام القياسية في 2017 بتحقيق نسبة 99.62% من استهلاكها للكهرباء بالاعتماد على الطاقات النظيفة. فهل يُمكن أن تحاكي الحكومات العربيّة هذه التجربة الرّائدة، باعتماد الطاقة الشّمسية عوض الطاقة الكهرومائية؟

سويسرا أمريكا الوسطى

     قبل المُضي في التعريف بتفاصيل تجربة كوستاريكا، لنتعرّف بإيجاز على هذا البلد الصغير في أمريكا الوسطى. فهو يقع بين بنما ونيكاراغوا وبحر الكاريبي والمحيط الهادي. يسكنه خمسة ملايين نسمة يعيشون على مساحة خمسين ألف كم مربع تقريبا.

    غالبا، لا ترتبط منطقة أمريكا الوسطى في الوعي العام العربي باقتصاد قوي أو سمعة صناعية عالية. بل لا أظن أن الذاكرة العربية تحتفظ منها بأكثر من الشواطئ الجميلة، والغابات الخضراء، والجنة الضريبية التي جعلت اقتصاد بنما ينجو من أزمات جاراتها. وليست كوستاريكا تختلف عن الانطباع العام، سوى بتشبيهها بـ “سويسرا أمريكا الوسطى”، باعتبار امتداد غاباتها وكثرة أنهارها من ناحية، ومن ناحية أخرى أنها دولة محايدة، لا تملك جيشا. ورغم أن العوامل الطبيعية توفّرت لدول جوارها، إلّا أنّ كوستاريكا (وبعد مرورها بأزمات مالية خانقة سابقة)، اتّخذت من هذه الخيرات الطبيعية وسيلة لتخفيف وطأة الفقر، وتوفير فارق كُلفة الطاقة الكهربائية لدعم برامج تنموية تفيد باقي قطاعات الاقتصاد. 

    عندما انطلقت كوستاريكا عمليّا منذ حوالي عشر سنوات في مشروع اعتماد الطاقة النظيفة، وتقدّمت فيه أشواطا، لم يبالِ العالم بمعجزة هذا البلد الصغير إلّا بداية من سنة 2015 حين حققت نسبة 90% من حاجتها الجملية من الطاقة، اعتمادا على الطاقات النظيفة. تلتها سنة 2016 بـنسبة مماثلة، و2017 بنسبة قياسية وصلت لـ 99.62 حسب وزارة الطاقة والبيئة.

 وهذا الاستغناء عن الطاقة عالية الكلفة والمُلوّثة (كهربائية، غاز، بترول، فحم…)، تمّ بفضل تطوير منظومة خمسة مصادر رئيسية للطاقة المتجددة: 78 % عن طريق الطاقة الكهرومائية، 10.29 % بفضل طاقة الرياح، و10.23 % عبر الطاقة الحرارية الأرضية، و0.84 % من مصادر الطاقة الشمسية والكتلة الحيوية.

صك براءة

  المُبهر في الأمر، أنّ هدفا بيئيا رياديّا آخر تطمح لتحقيقه كوستاريكا وراء هذا الرّهان الذي كسبته مع انتهاء سنة 2017، ويبدو أنّها تقترب من نيْلِهِ في2021، ألا وهو تصنيفها كبلد مُحايد للكربون (صكّ براءة من ذنوب الاحتباس الحراري)، باعتبار أن جميع أنواع الطاقة النظيفة بالضرورة تضمن تجنّب إفراز غاز ثاني أوكسيد الكربون المُساهم الأكبر في ارتفاع حرارة الأرض. إضافة إلى استبدال الطاقة المُلوّثة بالطاقة النظيفة، التزمت كوستاريكا بتشجير مساحات شاسعة جديدة (زيادة على ثروتها الغابية الطبيعية) على مدى عشر سنوات بالشكل الذي يوفّر امتصاص أكبر قدر من إفرازات الكربون الناتجة يوميّا من الأنشطة الصناعية في كل أنحاء العالم. مع الإشارة إلى أن وزارة البيئة والطاقة في كوستاريكا كانت قد أقرّت أيضا إستراتيجية وطنية للقضاء نهائيا على استخدام البلاستيك بحلول العام 2021.

  في قمم المناخ

 قد يتّهمني البعض بالهُراء لتناولي هذا الموضوع الآن. لكن الدّافع الذي جعلني أهتم بترجمة خبر تصدّر نشرات حصاد السّنة في أغلب وسائل الإعلام الغربية، هو إثبات إمكانية استثمار مصادر الطاقة النظيفة إذا توفرت الإرادة السياسية وتحلّت بقدرٍ من الحكمة. صحيح أن مصدر الطاقة الأساسي لكوستاريكا هو الماء، لكن نار الشمس الحارقة أيضا يُمكن أن تنقلب نعمة للعرب ومصدر طاقة لا يُستهان به لو شاء أصحاب القرار السياسي استثماره. تقنيا، لانشكّ أن طبيعة الطاقة الكهرومائية أضمن (من ناحية نوعية الضغط) وأقدر من الطاقة الشمسية على الاستهلاك في مجال التصنيع مثلا، لكن ماذا عن استثمارها في المجالات التي لا تتطلب استهلاك الطاقة بكميات عالية كالتدفئة أو التسخين والإنارة…

   قد يقول البعض أن بلدان الخليج غير معنية بمُعطى الحكمة في التصرف في مصادر الطاقة ولا بموضوع الطاقة المُتجددة أصلا، رغم أن البترول آيل إلى نضوب قريب، لكن ماذا عن بقية البلدان العربية التي لم تنجح ولا واحدة منها في إرساء نظام خدمات تدفئة مُحترم في المنازل والمؤسسات يعتمد على الطاقة الشمسية بأسعار في المتناول مثلا، أو بمنظومة إنارة عمومية تعتمد على الطاقة الشمسية؟ عِلما بأن جميع هذه الدول توجد بها وزارات بيئة، تُباهي حكوماتنا بوجودها في قمم المناخ الدّولية، غير هذا لم نسمع بريادةٍ ما في هذا المجال (باستثناء مشروع اللافتات الشمسية في المغرب، والذي قيل فيه الكثير من النقد).

    عندما نشرت كوستاريكا بشائر نجاحها الكلّي في اعتماد الطاقة النظيفة طوال سنة 2017، قفز إلى ذهني مشهد لافتات شحن الطاقة الشمسية في البلدان الأوربية جنوبا وحتى شمالا، بل حتى في بلدان ارتبطت في ذهن المواطن العربي بصورة الثلج و التزلج (أندُرّا مثالا)، فأصابني كثير من الحزن على وضعية بلداننا التي لم يحتفظ أهلها للشمس سوى بشعور العداوة، وزادت قناعتي بأنّ انهيار اقتصاد بلداننا ناتج عن سياسات حكوماتنا الفاشلة لا غيرها. حكومات تُفرّط في ثروات بلدانها الطبيعية وتلهث وراء أوهام ومغالطات لا تحتمل التصديق (برنامج المحطة النووية المصري الروسي مثالا).

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه