كيف نتعامل مع السنة النبوية؟

السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع، فمصدرها الأول القرآن الكريم، وقد نالت السنة أهمية كبيرة في الآونة الأخيرة، سواء من حيث الهجوم عليها، أو الدفاع عنها، وهي قضية جديدة قديمة، وكتاب: (كيف نتعامل مع السنة النبوية) للدكتور يوسف القرضاوي، مهم في هذا الباب، بل يعد من أهم الكتب المعاصرة التي تكلمت في موضوع السنة النبوية والشبهات المثارة حولها، وكيفية التعامل معها، بمنهج وسطي معتدل، يبتعد عن جمود بعض المنتسبين للسنة، وغلو المهاجمين لها. وقد كتبه القرضاوي بعد الضجة التي أحدثها كتاب الشيخ محمد الغزالي (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث). وقد سُرَّ الشيخ الغزالي سرورا شديدا عندما علم أن الشيخ القرضاوي سيكتب في الموضوع نفسه، موضوع السنة وكيفية التعامل معها، حتى قال رحمه الله: هذا جيد فالشيخ يوسف أقدر مني على تأصيل ما ذكرت من أفكار، ولن يعترض أحد على ما سيكتبه.[1]

بدأ الشيخ كتابه ببيان منزلة السنة النبوية، فهي التفسير العملي للقرآن، والتطبيق المثالي للإسلام، وبين واجب المسلمين نحو السنة، وحذر من تحريف أهل الغلو للسنة، وانتحال أهل الباطل لها، ومن التأويلات الجاهلة للسنة النبوية.

كما نوه الشيخ بمبادئ مهمة في التعامل مع السنة من حيث ثبوتها، فلا بد من الاستيثاق مما يروى، أمن الصحيح أم من الضعيف؟ وحذر من رد الأحاديث الصحيحة بدعوى معارضتها للعقل، وبين أن رد الأحاديث الصحيحة كقبول الأحاديث الموضوعة، فرد الأحاديث الصحيحة لعدم فهمها، أو تأويلها تأويلا غير مستساغ، ومن المزالق التي يقع فيها من يتعامل مع السنة من دون تثبت، أو من دون علم بالحديث النبوي.

والسنة هي المنبع الذي يستقي منها كل من: الداعية والفقيه، فالفقيه الذي يحفظ المتون الفقهية، وآراء المذاهب دون دراية منه بأسانيد الأحاديث التي يستشهد بها، فهو فقيه جانبه الصواب في رأيه، ولن يصل إلى الحق، لأن الحق يدور مع الدليل، لا مع أقوال الرجال، ولذا دعا الشيخ ـ في عدد من كتبه ـ إلى الوصل بين الفقه والحديث، وإلى ردم الفجوة التي بينهما.

والداعية أيضا يحتاج في وعظه إذا وعظ، وفي دعوته إذا دعا إلى هذا الرصيد الهائل من سنة محمد صلى الله عليه وسلم، لينثر على الناس باقة من أزاهير السنة ورياحينها، فما قيمة خطيب يرغي ويزبد بالكلام دون استدلال بالسنة، وليس معنى ذلك أن يأتي للناس بما يهزهم هزا ولو كان من الموضوع والضعيف، وإن اختلف العلماء في رواية الحديث الضعيف في فضائل الأعمال، ولكن في الصحيح ما يغني. وعليه إن استشهد بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، أن يحذر من شيئين مهمين:

أولا: ألا يشتمل الحديث على مبالغات وتهويلات يمجها العقل أو الشرع أو اللغة.

ثانيا: ألا يعارض دليلا شرعيا آخر أقوى منه.

المعالم والضوابط اللازمة لحسن فهم السنة النبوية:

ثم أسهب الشيخ عن المعالم والضوابط اللازمة لحسن فهم السنة النبوية، وهي ثمانية ضوابط:

أولها: أن تفهم السنة في ضوء القرآن الكريم، فالسنة النبوية جاءت مبينة للقرآن، وما كان للمبَيِّن أن يخالف المبَيَّن، ولا للفرع أن يعارض الأصل، ولذا لا توجد سنة صحيحة تعارض محكمات القرآن وبيناته الواضحة. وضرب الشيخ لذلك عدة أمثلة منها: حديث الغرانيق، فهو مردود بلا شك. وحديث: “شاوروهن وخالفوهن” فهو باطل بقوله تعالى: (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما) البقرة:233.

ثانيها: جمع الأحاديث الواردة في الموضوع الواحد، فلا يتناول موضوع بأن تجمع بعض أحاديثه، بل ينبغي أن تجمع جميعها، حتى تكتمل رؤية الفقيه، أو الشارح في الموضوع، فمن تكلم عن إسبال الإزار، لو أنه أخذ الأحاديث التي تبين أن مسبل الإزار في النار، دون نظرة إلى بقية الأحاديث، إذن لاتهم كثيرا من الناس بالمخالفة، ولأدخلهم جميعا في الوعيد بالنار. ولكن الذي يقرأ جملة الأحاديث الواردة في هذا الموضوع يتبين له: أن هذا الإطلاق محمول على ما ورد من قيد (الخيلاء) فهو الذي ورد فيه الوعيد بالاتفاق.

ثالثها: الجمع أو الترجيح بين مختلف الحديث: فإذا تعارضت الأحاديث فلا بد من إزالة العارض بالجمع والتوفيق بينها فهو أولى من الترجيح، ومن ذلك أحاديث نهي النساء عن زيارة القبور، بل تزجرهم وتلعنهم، مثل حديث أبي هريرة: ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور”، وهناك أحاديث في مقابل هذا الحديث وغيره، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: ” كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها” والجمع بين هذه الأحاديث ممكن، وذلك بحمل (اللعن) المذكور في الحديث على المكثرات من الزيارة. وهكذا في كل الأحاديث المتعارضة، لا بد من التوفيق والجمع، فالجمع مقدم على الترجيح كما يقول الأصوليون.

رابعها: فهم الأحاديث في ضوء ملابساتها ومقاصدها: وكي تفهم السنة فهما صحيحا كذلك لا بد من البحث عن الحكمة من وراء الحديث، فإن أحكام الشرع معللة عند الجمهور، فهي لا تجمع بين متضادين، ولا تفرق بين متماثلين، أما أن تفصل الأحاديث عن ملابساتها وحكمتها وعلتها ومقاصدها. وضرب لذلك الشيخ عدة أمثلة، منها: أحاديث النهي عن سفر المرأة إلا بمحرم، فهل النهي هنا وراءه علة، أم أنه نهي لمجرد النهي؟ الباحث عن علة الحديث يكتشف أن له علة، وهو: الخوف على المرأة من السفر وحدها بلا زوج أو محرم، في زمن كان السفر فيه على الجمال أو البغال والحمير، أما وقد تغير الحال، والسفر في طائرة بها المئات، والأمان متوافر، وبرفقة هذا العدد الهائل من الناس، فلا بأس بسفرها وحدها.

خامسها: التمييز بين الوسيلة المتغيرة والهدف الثابت: ومن آفات الفهم السقيم للسنة: عدم التفريق بين ما هو ثابت وما هو متغير، فالمعلوم أن الوسائل تتغير من عصر إلى عصر، لذا ينبغي كي نفهم السنة أن نفرق بين ما هو ثابت وما هو شأنه التغير والتبدل، ومثال ذلك: استخدام السواك خارج الصلاة، فالمعلوم أن السواك عند كل صلاة سنة، أما في غير الصلاة، فهل إذا استخدم الإنسان معجون أسنان، أم لا بد من السواك، الأفضل هنا هو ما يتحقق به نظافة الفم نظافة تامة، وهذا لا يحققه السواك، إنما يحققه معجون الأسنان، فالنظافة هدف، والسواك أو المعجون وسيلة، فكل زمن وما يصلح له من وسائل، فلا يقولن إنسان: إن ترك السواك عند غسل الفم بعد الطعام، يعد هجرا للسنة! وغيرها من أمثلة: كاستخدام أدوات القتال، فإعداد ما استطعنا من قوة هدف ثابت، ووسيلته متغيرة، فقديما كان السيف، واليوم الصاروخ والدبابة، فليس استخدام السيف هو السنة إذن، إنما السنة بل الفرض: استخدام أحدث أدوات القتال، وهكذا.

سادسها: التفريق بين الحقيقة والمجاز في فهم الحديث: ومن الأمور المهمة لفهم السنة أن نفرق بين ما هو مجازي وما هو حقيقي، فإن السنة جاءت باللغة العربية، ولغة العرب فيها قسم كبير من المجاز، وهو في القرآن كذلك بكثرة، فمن المجاز في القرآن مثلا: قوله تعالى (وإني كلما دعوتهم استغشوا ثيابهم ووضعوا أصابعهم في آذانهم) فهل معنى ذلك أن المشركين أدخلوا أصابعهم كاملة في طبلة أذنهم؟ أم أنه مجاز عن شدة سد الأذن حتى لا تسمع كلام نوح عليه السلام عن توحيد الله وعبادته، وضرب الشيخ عدة أمثلة على المجاز في السنة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ” أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا ” فهل معنى الحديث أن أطولهن يدا طول حقيقي أم مجازي؟ المعنى الصواب: أنه يقصد بالطول هنا ليس الطول الحقيقي، إنما طول اليد في فعل الخير، وبذل المعروف.

سابعها: التفريق بين الغيب والشهادة: وهذا ضابط مهم في فهم السنة، وقد وقع كثير من المعاصرين، في قياس الغيبيات على الشواهد، مما أوقعهم في أخطاء جسيمة في فهم السنة.

ثامنها: التأكد من مدلولات ألفاظ الحديث: فحتى تفهم السنة جيدا لا بد من البحث عن معنى اللفظ الوارد فيها، ما المقصود منه؟ فكم من لفظ فسر خطأ وبني على هذا التفسير أحكام، فلا بد إذن من التأكد من مدلول اللفظ، خذ مثلا كلمة (تصاوير) التي وردت في كثير من الأحاديث النبوية، هل تدخل الصور الفوتوغرافية فيها أم لا؟ وبخاصة أنها لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فليس معنى اتفاقها في اللفظ مع كلمة (تصاوير) التي في الأحاديث أن تأخذ نفس المعنى وبالتالي نفس الحكم، أم أن المقصود بها التماثيل، وهذا هو الأليق والأوقع لمعنى الحديث. وهكذا بقية الألفاظ في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.

 


[1] نقلا عن: القرضاوي فقيه الدعاة وداعية الفقهاء للدكتور طه جابر العلواني. وهي ضمن الكلمات المكتوبة في الكتاب التذكاري بمناسبة بلوغ الشيخ السبعين.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه