كأنه فيلٌ في محلّ خزفٍ!

هذا التّشبيهُ قدْ يُساهمُ في تقريبِ صُورةِ الرّئيسِ الأمريكيِّ ترمب، ومُحاولةِ فهْمِ سُلوكيّاتِهِ فِي إدارةِ الشُّؤونِ الداخليّةِ لبلادِهِ، ومواقفِهِ من القضايا الدّوليّةِ، والشّأنُ المحليُّ لهذا البلدِ ليس كشأنِ أيِّ دولةٍ أُخرى لا يتجاوزُ تأثيرُهُ حُدودَها الجغرافيّةَ، ما يجرِي فِي أمريكا ينعكسُ على مُعظمِ دولِ العالمِ، ويُقالُ إذا عطستْ أمريكا أُصيبَ العالمُ بالأنفلونزا، وهَذا يؤكِّدُ نفوذَها وتأثيرَها في جهاتِ الأرضِ الأربعِ، وتحكُّمَها في حركةِ العالمِ، فلا توجدُ دولةٌ مُكافئةٌ لهَا حالياً يُمكنُ أنْ توازنَها مثلمَا كان الوضعُ أيّامَ الاتحادِ السوفيتيِّ السابقِ، والقوَى الكُبرى على السّاحةِ: روسيا، والصين، والاتّحادُ الأوروبيُّ غيرُ قادرةٍ علَى إيقافِ اندفاعاتِ ترمب، أو مُواجهتِهِ وهزيمتِهِ سياسيّاً واقتصاديّاً، إنّما هِيَ نفسُها مجالٌ لهجماتِه، وساحةٌ لتهديداتِه وفرضِ عقوباتِه، وهُوَ يستمدُّ عنفوانَه وتسلّطَهُ مِن قوّةِ بلادِهِ وقدراتِها الهائلةِ.

ترمب بلا شعبيةٍ في جميعِ بلدانِ العالمِ إلا استثناءاتٍ محدودةً هي: قاعدتُه الانتخابيةُ، وهِيَ أكثرُ ما يعنيهِ، وإسرائيلُ، وعددٌ قليلٌ من الأنظمة على رأسِها أنظمةٌ عربيّةٌ!، لكنّ الأعداءَ والخصومَ بلا حصرٍ، فَهَوَ يضربُ فِي كلّ الاتجاهاتِ، لا يعرفُ حليفاً أو صديقاً من خصمٍ أو عدوٍّ، كأنّهُ جاءَ ليُعادِيَ العالمَ اعتقاداً منْهُ أنّه بذلكَ يمجدُّ قوةَ أمريكا وتفوّقَها وتسيّدَها، أو أنّ شطبَ السياسةِ السلبيةِ لسلفِه أوباما تتطلّبُ منْهُ أنْ يكونَ علَى هذِهِ الدرجةِ من الغطرسةِ والعدوانيّةِ.

والبلدانُ ذاتُ الوزنِ بدلَ أنْ تنتهزَها فرصةً لتنظمِ صفوفِها وتُحدثُ توازناً في المنظومةِ الكونيّةِ المختلّةِ فإنّها تنشغلُ بمعاناتِها الفرديةِ معَهُ، ومحاولةِ تقليلِ آثارِ عقوباتِه عليهَا، وتجتهدُ لعدمِ قطْعِ حبالِ الصداقةِ معَهُ، أو تسعَى لنسجِ حبالٍ من الودِّ لتفادِي المزيدِ مِن ضغوطِه وهجماتِه.

الأسوأ

يحدثُ ذلك بينَما هو الرئيسُ الأسوأُ الّذي أفرزتْه الديمقراطيةُ الأمريكيّةُ – وإنتاجُ الديمقراطيةِ ليس كلُّهُ صحيحاً، لكنّها نظامٌ سياسيٌّ يظلُّ صحيحاً – وقدراتُهُ السياسيّةُ والمعرفيّةُ لا تليقُ برئيسٍ للقوةِ العُظمى، وسجلُه الشخصيُّ مُترعٌ بالنّقاطِ السّوداءِ المُخجلةِ، ولسانُه غايةٌ في البذاءةِ مع المُقربينَ منْهُ، والبعيدينَ عنْهُ.

تفكُّكُ الآخرينَ وشرودُهم يُغري من يمتلكُ وسائلَ القوةِ علَى أنْ يزدادَ صلفاً وتجبّراً عليهَم، وتوحُّدُهم صفّاً وأفكاراً وراءَ قضايا عادلةٍ وإنسانيةٍ يجعلُهم قادرينَ على مُواجهةِ المُتغطرسِ وإيقافِ نزوعِهِ نحوَ إشعالِ الحروبِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والعسكريةِ، هذَا درسُ التاريخِ، فمنْ يستوعبُه؟

نتخيّلُ ماذَا يُمكنُ أنْ يحدثَ لَو اقتحمَ فيلٌ ضخمٌ متجراً لبيعِ الخزفِ، النتيجةُ ستكونُ مكلفةً في حجمِ الخسائرِ الّتي ستقعُ للمعروضاتِ، وهذَا مَا يحدثُ في العالمِ منذُ أنْ دخلَ ترمب البيتَ الأبيضَ مُحققاً مفاجأةً لمْ تكنْ صادمةً لمنافستِهِ هيلاري كلينتون والحزبِ الديمقراطيِّ وناخبيهَا فقط، إنّما لغالبيةِ العالمِ، إنْ لمْ يكنْ كلّه، فلمْ يُراهنْ عليهِ إلا أنظمةٌ محدودةٌ، وضمنُها حلفاؤُهُ العربُ المُتيّمون به، كما لم يراهنْ عليهِ من الإعلامِ إلا القليلُ جدّاً منه.

ضخامة الجسد

التّكسيرُ الّذي يقومُ بهِ الفيلُ في محلِّ الخزفِ ناجمٌ عَن ضخامةِ الجسدِ، وغيابِ العقلِ، أمّا في حالة ترمب فالتكسيرُ مقصودٌ، وهوَ ليسَ ناجماً عن فقدانِ عقلٍ، إنّما عَن غيابٍ أو تغييبٍ للرشدِ السياسيِّ، ترمب قدْ يكونُ مُنفلتاً فوضويّاً مُعجباً بنفسِهِ وبقدراتِهِ المتخيّلةِ حتّى الهوسِ، لكنّه ليسَ معتوهاً، نعَمْ لمْ يكنْ مُناسباً لقيادةِ القوةِ العُظمى والعالمِ، لكنّه إفرازُ أمريكا بلدِ كلِّ غريبٍ وعجيبٍ في الكونِ، مثلَ أوباما الأسودِ الّذي صارَ رئيساً لدولةِ العبوديةِ الشّرسةِ الأُولَى فِي العالمِ، كان هُو الآخرُ إفرازاً لأمريكا نفسِها، وترمب مرحلةٌ ستأخذُ وقتَها وتنتهِي، معَ ذلكَ لا يضمنُ أحدٌ ألّا يأتِي هذَا البلدُ بمَن هُو أغربُ أَو أسوأُ منْه، لكنّه لدَى أنصارِه ليسَ سيّئاً، بل رئيساً عظيماً، قواعدُ ناخبِيهِ لمْ تهتزّ طوالَ أكثرَ من عامٍ ونصفِ العامِ من الفضائحِ، لأنّه ينفّذُ كلُّ ما وعدَهم بهِ في دعايتِهِ الانتخابيّةِ، وأهمُّها للمُواطنِ العادي توفيرُ الوظائفِ وتقليلُ البطالةِ، وقدْ نجحَ في جلبِ الملياراتِ من الخارجِ ليجعلَ الدمَ يتدفّقُ فِي شرايينِ الاقتصادِ، ونجحتْ تهديداتُه فِي منعِ الشركاتِ الكُبرى مَن افتتاحِ فروعٍ خارجيّةٍ لها، أجبرَها علَى التوسّعِ في الداخلِ لخدمةِ دافعِي الضرائبِ، وأشعلَ حرباً تجاريةً على حلفاءِ أمريكا وخصومِها بالرسومِ الجمركيةِ المرتفعةِ ليستردَّ مَا يقولُ إنّها حقوقٌ تضيعُ على بلادِهِ منذُ عقودٍ في مبادلاتٍ تجاريةٍ غيرِ عادلةٍ، ورغمَ بعضِ الأضرارِ التي تتعرضُ لها الشركاتُ الأمريكيةُ بالرسومِ المضادةِ، فإنّ قوةَ الاقتصادِ والشركاتِ تبتلعُ الضررَ وتتجاوزُ نتائجَه.

حالة دوار

مختلفُ البلدانِ الّتي تصدرُ الصلبَ والألومنيومَ لأمريكا لا تزالُ تعيشُ حالةَ دوارٍ بعدَ أنْ رفعَ رسومَ الجماركِ عليهَا، وتركيا دخلتْ في الدوامةِ، وتعرضتْ عملتُهَا الوطنيةُ “الليرةُ” لهبوطٍ قياسيٍّ تاريخيٍّ بعدَ زيادةِ الرسومِ علَى هذهِ المُنتجاتِ، وبعدَ تغريدتِهِ الّتي يعبّرُ فيهَا عَن سعادتِهِ بقوةِ الدولارِ في مُواجهةِ الليرةِ، ولا يخلُو الأمرُ هُنا مِن شبهةِ انتقامٍ مِن واشنطن وأطرافٍ أُخرَى للتأثيرِ على المواقفِ السّياسيةِ التركيّةِ عبرَ ضربِها اقتصاديّاً، وأنقرةُ تدخلُ نفقَ الأزمةِ، والخروجُ منه لا يكونُ إلا بإجراءاتٍ اقتصاديةٍ وماليةٍ مدروسةٍ أكثرَ مِن حديثِ المؤامرةِ المستهلكِ.

هلْ هناكَ جديةٌ في تحالفِ المتضررينَ مِن ترمب لتأسيسِ نظامٍ عالميٍّ أكثرَ عدلاً وتوازناً وإنسانيةً لا يخضعُ لتهديدِ أو ابتزازِ قوةٍ واحدةٍ، ولا ينحازُ للكبارِ، وينصفُ الصغارَ؟، هلْ يمكنُ بناءُ هذا التحالفِ الّذي يكثرُ الحديثُ عنْه في التّنظيرِ السّياسيِّ فقط؟، ربّما يحدثُ ذلكَ لو كانَ حلفاءُ أمريكا أولاً قادرينَ على الخروجِ من عباءتِها، والخلاصِ مِن سيطرتِها. الواقعُ أنّ أوروبا- ومهما كانتْ الإهاناتُ التي يوجهُها ترمب لبلدانِها، والعُنجُهيّةُ فِي التعاملِ معهَا، وهَو ما يحدثُ معَ تركيا أيضاً- مصابةٌ بعقدةِ الخوفِ من انفصامِ العلاقةِ معَ الحليفِ الإستراتيجيِّ، وغيرُ مستعدةٍ لتشكيلِ منظومةِ حمايةٍ جماعيةٍ ذاتيةٍ لا تعتمدُ كاملاً علَى واشنطن، وتركيا تؤكّدُ في خضمِ أزمتِها أنّ أمريكا حليفٌ إستراتيجيٌّ تاريخيٌّ، وتقول إنّنا فعلْنا معهَا كلّ ما يُمكنُنا لتحسينِ العلاقاتِ، وكذلكَ تقولُ كندا والآخرون، بالتالي لا أملَ فِي مغادرةٍ جماعيّةٍ للفلَكِ الأمريكيِّ مِن بلدانٍ مُؤثرةٍ، وهذَا يحوّلُ رئيساً مثل ترمب إلى فيلٍ مخيفٍ ويواصلُ جعل أمريكا قوةً مرهوبةَ الجانبِ.

السمسرة

لا يتعاملُ ترمب معَ العالمِ بالسياسةِ، إنّما بالتجارةِ والسمسرةِ، مَن يدفعْ يحظَ بدعمِهِ، وفِي التصويتِ بالأممِ المتحدةِ والمنظماتِ التابعةِ لها يهدّدُ مَن يحصلُ على المساعداتِ بالعقابِ إذا عارضُوا مواقفَ إدارتِهِ، وكانتْ السعوديةُ أوّل دولةٍ يزورُها لأنّها ستدفعُ بسخاءٍ، ولمّا ساهمَ في إشعالِ الأزمةِ الخليجيةِ ازدادَ الدفعُ، وضغطَ على أعضاءِ حلف الناتو لزيادةِ نفقاتِ موازناتِ الدفاعِ لحكوماتِهم، وزيادةِ مساهماتِهم في موازنةِ الحلفِ فاستجابوا مُرغمينَ بعدَ مماطلةٍ طويلةٍ، وَهَو يجلبُ الأموالَ والمصالحَ مَن كلّ مكانٍ يدوسُ فيه بغلظةٍ وغطرسةٍ حتّى يتجنّبَ صاحبَ المكانِ تدميرَ ما فيه من خزفٍ.

ورغمَ أنّ السيطرةَ عليه من أركانِ إدارتِه صعبةٌ إلا أنّه لا يعملُ من نفسِه، يقفُ وراءه نائبُه مايك بنس العقلُ السياسيُّ والدينيُّ المتشددُ الخبيثُ الّذي يهدّدُ ويتوعّدُ فيتحوّلُ التهديدُ والوعيدُ إلى قراراتٍ يصدرُها ترمب.

يبدو أنّ بنسَ، قليلَ الكلامِ، قليلَ الظهورِ أمامَ الكاميراتِ، هو العقلُ المحركُ المختارُ بعنايةٍ من التيارِ المتشددِ من الجمهوريينَ ليشكلَ مع سياسيينَ وحزبيينَ ومفكّرينَ ومثقفينَ وإعلاميينَ ورجالِ دينٍ وممولينَ وقادةِ لوبياتٍ ما يشبهُ مجموعةَ أمراءِ الظلامِ في عهدِ بوش الابنِ، ليكونوا هم آلةَ التفكيرِ والتخطيطِ لترمب الجامحِ الذي وجدُوه مُناسباً ليقومَ بدورِ الفيلِ المخيفِ لكلِّ متاجرِ الخزفِ فِي العالمِ.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه