قراءة في 4 استفتاءات دستورية في 8 سنوات!

خلال (8) سنوات فقط منذ ثورة 25 يناير، وحتى اليوم، شهدت مصر (4) استفتاءات دستورية، هي بالترتيب: إعلان دستوري في (2011)، ودستور جديد كلياً في (2012)، ودستور آخر جديد كلياً في (2014)، وتعديل على هذا الدستور تم قبل أيام في (2019)، لنكون بذلك أمام رقم قياسي في وضع الدساتير وتعديلها بمعدل استفتاء كل عامين، وهو ما لا يحدث تقريباً في بلدان العالم سواء الديمقراطي، أو المستبد، كما لم يحدث في مصر نفسها منذ إعلان الجمهورية التي شهدت (6) استفتاءات فقط بدءًا من عام 1956 وحتى ثورة يناير، أي طوال 55 عاماً، بمعدل استفتاء كل (9) سنوات وشهرين.  

والاستفتاءات الأربعة تعكس حالة عدم استقرار سياسي، وتأرجح البوصلة الهادية للبلاد، وتحول الوثيقة الاجتماعية الأهم في الدولة التي تحدد طبيعة السلطات، وترسم الحقوق والواجبات، وتنظم العلاقة مع المواطنين إلى ما يشبه القوانين أو ما دونها في سهولة إلغائها ووضع بديل كامل لها، أو إدخال تعديلات عليها رغم أن الحبر الذي كُتبت به لم يكن قد جف بعد.

بواعث القلق وتعديل الدستور

وإذا كان النظام يؤكد أن إحدى مهامه الوطنية تثبيت الاستقرار إلا أن المناخ العام لا يوحي بذلك، فالتوجه السلطوي المتزايد، وإغلاق كل النوافذ الممكنة للتنفس السياسي يوحي بوجود مشكلة فعلية يستشعرها ويقلق منها، ومن بواعث القلق إجراء تعديل على دستور (2014) الذي وضعه هذا النظام بعد إزاحة الإخوان من الحكم، وكان يتفاخر بأنه وثيقة مميزة وفريدة في الحريات والحقوق واستقلالية السلطات، لكن بعد (5) سنوات فقط يقوم بإدخال تعديلات مفصلية عليه تنزع عنه كثيراً من علامات ديمقراطيته، واستقلالية السلطات، وإمكانية التداول السلمي للسلطة.

الأصل في الدساتير أنها تُوضع لتكون وثيقة لها صفة الديمومة لا أن تطالها يد التغيير والتعديل كثيراً، هذا لا يعني أن لها قداسة وحصانة ضد التغيير، إنما التدخل يكون للضرورات والمتغيرات الكبرى المؤثرة في طبيعة وحركة المجتمع، وليس التدخل لمصالح وأهداف مرحلية ذات طبيعة خاصة.

ما بين وثيقتين  

إذا كانت الظروف فرضت وضع إعلان دستوري عام (2011) لتسيير حركة البلاد بعد ثورة يناير وإلغاء دستور (1971)، فإن الضرورة كانت واجبة لوضع دستور جديد كأساس في بناء دولة حديثة، وللانتقال إلى حالة الثبات والاستقرار وهو ما جرى في (2012)، لكن هذا الدستور لم يعمر طويلاً، إذ تم إلغاؤه سريعاً، وجرى وضع دستور آخر جديد في (2014).

 إلغاء هذا الدستور بهدف إثبات وجود أسباب جوهرية في الإطاحة بحكم الإخوان، ومنها أن الوثيقة التي أُطلق عليه وصف دستور الإخوان تسببت في حدوث الفرقة والانقسام بين القوى السياسية، وداخل المجتمع نفسه، ولم تكن ترضي الأغلبية الشعبية والسياسية، واللجنة التي صاغتها افتقدت لوجود ممثلين لمختلف القوى والتيارات والتوجهات والطوائف فيها.

 ومن اللافت أنه من قراءة دستور (2014)، قبل تعديله منذ أيام، لم يكن يتضمن فوارق جوهرية مع دستور (2012)، هناك اختلافات، لكنها ليست جذرية، بل الصياغات شبه موحدة تقريباً في الوثيقتين، ويمكن القول إن الدستور البديل الذي وضعه النظام الجديد حافظ على صلب الدستور المُلغى.

والتذكير هنا مهم بأن المواد مثار الجدل بين القوى الإسلامية التي وضعت دستور (2012)، وبين القوى المدنية المناوئة لها والمنسحبة من لجنة إعداده، أو الرافضة للمشاركة فيها من الأساس، كانت تتراوح بين (8) و (10) مواد فقط، وكانت هي، وليس الدستور كله، أحد محاور الأزمة بين الرئيس المعزول محمد مرسي، وبين جبهة الإنقاذ المعارضة، وضمن مطالبها لـمرسي تعديل هذه المواد، وليس إنشاء دستور جديد، لكن أنشئ الدستور، ثم لم يهنأ به من أنشأوه في لجنة الخمسين، وتم تعديله بعد غمز كثير مبكر في نوايا وأهداف وتوجهات اللجنة التي خرجت من رحم 30 يونيو، و 3 يوليو 2013 .

ديمقراطية الاستفتاءات

عند الحديث عن ديمقراطية الاستفتاءات الأربعة يمكن القول إنها توفرت وفق المعايير المتعارف عليها من حرية ونزاهة وشفافية وعدالة في الإعلان الدستوري (2011)، وفي دستور (2012)، بينما يصعب القطع بتوفر هذه المعايير كاملة بشكل عادل ومنصف في دستور( 2014)، وتعديلاته في (2019) ..
فلم تكن البيئة السياسية منفتحة ومتسامحة مع جميع الآراء بشأن الموقف منه خاصة الرأي الرافض له الذي لم يأخذ حقه وفرصته في التعبير عن نفسه مقارنة بالرأي المؤيد، فالساحة كانت مفتوحة أمام أصحاب”نعم”، ومتاحة لهم، وكانوا يهيمنون عليها بمفردهم، ولأن الدستور هو القانون الأساسي الأرفع والأسمى فلا بد من توفير الحرية الكاملة بشأن الموقف منه، فإذا تم إقراره، فإنه يكون معبر بالفعل عن تطلعات الشعب كله، أو غالبيته، وهذا في صالح سلطة الحكم.

والسياق السياسي كاشف لهذا الاختلاف، فالإعلان الدستوري في 19 مارس 2011 جرى في أعقاب نجاح ثورة 25 يناير، بعد إسقاط مبارك بشهر وعدة أيام فقط، وكان مناخ الحرية بلا سقف، لهذا كان الاشتباك السياسي على أشده بين الداعمين للإعلان، وفي مقدمتهم التيارات الإسلامية، وبين الرافضين لمضمونه ويقودهم التيار المدني، وكان كل تيار يدعو لرؤيته دون قيود، وينشر دعايته في كل الوسائل المتاحة، والمجلس العسكري الحاكم، وأجهزة الدولة أخذوا موقف المحايد والمراقب لهذا السجال.

وفي دستور (2012) كانت المعارضة له أكثر توحداً وشراسة خاصة بعد انسحاباتها من لجنة إعداده، ومقاطعة بعضها منذ البداية، واقتصارها على أعضاء الإخوان والسلفيين وتيارات إسلامية وأطراف أخرى قريبة من الإسلاميين، وكانت لغة وفرصة المعارضة في الهجوم على الدستور غير مسبوقة، واستخدمت كل وسائل الدعاية المتاحة لحض المواطنين على التصويت بالرفض، ومع أنها لم تستطع إسقاط الدستور، لكنها حققت نتيجة رفض كبيرة بنسبة 36,17% بأصوات 6 ملايين و 61 ألفاً و 11 صوتاً من مجموع الأصوات الصحيحة..

أما الموافقة عليه فتمت بنسبة 63,8% بأصوات 10 ملايين و 693 ألفاً و911 صوتاً  فيما بلغت الأصوات الباطلة 303 آلاف و 395 صوتاً، ونسبة المشاركة العامة بلغت 32,9%.

هذه النسب والأرقام بقدر ما تؤكد الانقسام حول الدستور والمعارضة الشرسة له، بقدر ما تؤكد الحرية المتاحة آنذاك لأصحاب “لا” في نقدهم لمشروع الدستور.

وفي ديمقراطية الاستفتاء يبرز الإعلان الدستوري في (2011) أيضاً، فقد كانت نسبة التصويت أكثر ارتفاعاً من نسبة التصويت فيما سُمي دستور الإخوان إذ بلغت 41,19% مقارنة بـ 32,9% للأخير..

والمعارضون كانوا أيضاً كتلة معتبرة وصلت 4 ملايين و 174 ألفاً و 187 صوتاً بنسبة 22,8% مقابل تأييد كبير وصل إلى 14 مليوناً و 192 ألفاً و 577 صوتاً بنسبة 77,2%.

رؤية صائبة للتيار المدني

التأييد الواسع للإعلان الدستوري (2011)، مقارنة بدستور (2012)، رغم الجدل والانقسام الذي صاحب الوثيقتين يرجع غالباً إلى أن إدارة البلاد كانت تحت حكم المجلس العسكري ..
وكان المجلس لا يزال في بواكير الإمساك بالدفة، ولم تكن هناك ملاحظات على أدائه، ولم يكن الاختلاف دب بينه وبين قوى ثورية متعددة، وكانت الثقة الشعبية فيه مرتفعة، بجانب ثقة تيارات سياسية غير إسلامية لم تدعم الأطراف المدنية التي رأت أن خريطة الانتقال السياسي التي يرسمها هذا الإعلان لن تكون موفقة، وستقود الثورة إلى مأزق ..
فقد كانت تريد وضع الدستور أولاً ثم بعده يجري تشكيل المؤسسات وإجراء الانتخابات كلها على أساس هذا الدستور، وليس العكس كما حدث في “غزوة الصناديق”، وثبت فيما بعد صحة رؤيتهم الاستشرافية للمستقبل، وهذا المسار الدستوري الآمن كان أحد أسباب نجاح المرحلة الانتقالية في تونس.

استخلاصات غير مطمئنة

تحليل نتائج التصويت في دستور (2014)، وتعديلاته في (2019)، لا تكرس الاطمئنان في استخلاصات البحث الرصين، إذ إن جانب التأييد تسيّد الساحة السياسية والإعلامية، واستفاد من الدعم الرسمي الذي وقف خلف الاستحقاقين لتمريرهما، والتعامل هنا مع الأرقام والنسب محفوف بالقلق، فهي سليمة شكلاً، لكن نتحدث عن البيئة العامة التي أنتجتهما، وهي بيئة مغايرة لتلك التي أخرجت نتائج الاستفتاءين السابقين عليهما، فضلاً عن الاستحقاقات الانتخابية الأخرى.

مع هذا فهناك أرقام لها دلالات إذ إن عدد المشاركين في دستور (2014) لم يكن ضخماً مقارنة بمناخ الدعم المواتي له، كانت النسبة 38,6 %، بمجموع أصوات المشاركة الكلية التي بلغت 20 مليوناً و366 ألفاً و730 صوتاً.

وإجمالي الذين قالوا “نعم” بلغ 19 مليوناً و985 ألفاً و389 ناخباً، بنسبة 98,01 %، ومن قالوا “لا” 381 ألفاً و341 ناخباً بنسبة 1,9 %، والأصوات الباطلة 246 ألفاً و947 صوتاً بنسبة 1,2%.

ويلاحظ هنا أن الفارق بين النسبة العامة للتصويت في دستوري (2012)، (2014)، هو 5,5% فقط لصالح الدستور الأخير، وهو ليس فارقاً كبيراً قياساً على غياب أصحاب “لا” عن حرية الحركة على الأرض للدعوة لها، مقارنة مع ما حصلت عليه “لا” في (2012)، ويلاحظ أن نسبة الرافضين، ونسبة الأصوات الباطلة كانتا متدنيتين وشبه متقاربتين ما يعني وجود مقاطعة احتجاجية واقعية.

 ظهور “لا” قوية في (2019)

في تعديلات (2019) يظهر متغير مهم ولافت، وهو عودة “لا” إلى قوتها كما كانت في (2011)، و(2012)، إذا بلغ عدد الرافضين للتعديلات مليونين و 945 ألفاً و 680 صوتاً بنسبة 11,17%، أي ما يقرب من 3 ملايين صوت، رغم أن بيئة الاستفتاء كانت مهيأة لـ “نعم”، ومع إضافة الأصوات الباطلة، وتبلغ 831 ألفاً و172 صوتاً بنسبة 3,06% تظهر كتلة احتجاجية تقترب من 4 ملايين صوت، وبنسبة 15% تقريباً، وهو إعلان واضح عن وجود تيار معارض واضح من الجمهور العام يعلن عن موقفه صراحة برفض التعديلات ..
 وهذا التيار لم يكن واضحاً تماماً في (2014)، بسبب اختلاف الظروف العامة في الاستفتاءين، فقد تغيرت أوضاع وتكشفت أمور في السياسة والحياة، والتقدير أنه لو توفرت الحرية لـ “لا”، مثل “نعم” ، وكما في الفترة الزمنية  بعد يناير، ولم تكن هناك مؤثرات ولا إغراءات لغالباً كنا أمام “لا ” أخرى ربما بنسبة أكبر.

نسبة المشاركة في (2019) بلغت 44,33% بأصوات صحيحة قدرها 26 مليوناً و362 ألفاً و421 صوتاً، وهي أكبر من نسبة المشاركة في دستور (2014)، وربما أُريد الارتفاع بها للتأكيد على أن التعديلات الجدلية مرغوبة من الشعب، وعلى عكس مواقف النخب وفئات شعبية وجهت انتقادات لها، وتشككت في الأهداف ..
والرسالة موجهة للخارج أيضاً بأن نسبة غالبة من الشعب تؤيد التعديلات بأهم ما فيها وهي مواد الرئاسة، أما في دستور (2014) فلم يكن مقلقاً عدم ارتفاع نسبة المشاركة بشكل كبير لأن خريطة السياسة والرئاسة لم تكن قد تشكلت بعد ليتبين من المستفيد ومن غير المستفيد منه، وكان الرهان أكثر على ديمقراطية النص الدستوري.

بافتراض أن المناخ السياسي المنفتح والحر خلال استحقاقي (2011) و (2012) ظل مستمراً في استحقاقي (2014) و (2019)، فالتوقع أنه كان سيحدث اختلاف في نسب النتائج، وعندئذ كانت المقارنة بين الاستفتاءات الأربعة ستكتسب بعداً أكثر منهجية، وأعمق في الدلالات والاستنتاجات السياسية، وحتى لو كانت هي نفسها النسب التي تحققت وقمنا بقراءتها، فإن النتائج كانت ستتسم بالدقة العلمية، والمقارنات ستأخذ أبعاداً أكثر اطمئناناً وواقعية. 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه