فرص كورونا الممكنة: ليبيا النموذج الأبرز.. والسعودية الخاسر الأكبر!

ذكرت الجائحة العالم وخاصة القوى الكبرى التي .تغتر بقوتها، أن هذه الأسلحة لا تفيدها في مواجهة جنود الله المجهولة، وأنه حري بها أن تتذكر دوما أن للكون خالقا ووضع له نواميس يسيرعليه

 

لم تقتصر تداعيات جائحة كورونا على قتل حوالي ربع مليون شخص وإصابة أكثر من 3 ملايين آخرين عالميا، ولكنها خلفت تداعيات اقتصادية ونفسية واجتماعية سيظل العالم يعاني منها لفترات طويلة، كما أن هذا الوباء الأكثر فتكا حتى الآن سيغير وجه العالم من حيث تغير مراكز القوى والنفوذ السياسي والاقتصادي والعلمي.. إلخ.
ورغم هذه التداعيات البشعة للجائحة إلا أن هناك فرصا ظهرت بالفعل أو ستظهر تباعا، ستسهم في رسم ملامح العالم الجديد لما بعد كورونا، نتحدث هنا عن الفرص الممكنة والكامنة وسط هذه الجائحة والتي ينبغي استثمارها وعدم الاقتصار على البكاء و”الولولة” من أخبار القتلى والخسائر الاقتصادية هنا وهناك والتي تقدر عالميا بخمسة تريليونات دولار أي ما يقارب 7% من حجم الاقتصاد العالمي.
جبابرة العالم
على المستوى السياسي انشغل “جبابرة العالم” بدرجة كبيرة في مواجهة الوباء داخل دولهم، وهو ما وفر فرصة لدول وحكومات أخرى في التحرك بعيدا عن ضغوط أولئك الجبابرة، وتدخلاتهم، ولعل المثل الأبرز هنا هو ليبيا، حيث تمكنت قوات حكومة الوفاق من تحرير مدن الساحل الغربي وحصار قاعدة الوطية ومدينة ترهونة مستغلة انشغال العالم بجائحة كورونا، خاصة أن ليبيا نفسها شهدت إصابات قليلة جدا بالوباء.
كما أن المملكة العربية السعودية التي خصصت جزءا كبيرا من فوائضها النفطية لدعم الاستبداد والثورات المضادة -كما فعلت مع السيسي وكما فعلت في اليمن والسودان- تعاني الآن من تداعيات جائحة كورونا على اقتصادها الذي يعتمد أساسا على النفط والذي تراجعت أسعاره، وتراجع الطلب عليه كثيرا، وأصبحت ناقلات النفط السعودية تجوب المحيطات دون أن تجد مشتريا رغم الأسعار المنخفضة..
وقد اضطرت المملكة للإعلان عن سياسة تقشف صعبة تضمنت رفع ضريبة القيمة المضافة ثلاث اضعاف من 5% إلى 15%، كما ألغت بدلات غلاء المعيشة للموظفين، والعديد من المزايا المادية الأخرى، وألغت بنود الإنفاق على العديد من المشروعات الحكومية الكبرى ضمن خطة 2030 التي تنسب للأمير محمد بن سلمان، والتي دخل بها إلى قلوب الغرب، ودعوة الشركات الحكومية لخفض 20% من نفقاتها، ناهيك عن لجوء الحكومة السعودية للاقتراض من أسواق الدين الدولية لتغطية عجوزات مالية وتمويل بعض المشاريع ( طبعا هذا التدهور الاقتصادي للمملكة راجع إلى أسباب أخرى إلى جانب الكورونا  وتراجع النفط، منها حرب اليمن ودعم الأنظمة القمعية في المنطقة)، وبالتالي فإن من الفرص المهمة في هذا الإطار هو توقف أو تراجع الدعم السعودي للأنظمة القمعية ومنها نظام عبد الفتاح السيسي الذي اضطر بدوره لتأجيل مشروعات عاصمته الإدارية الجديدة، واللجوء مجددا إلى صندوق النقد طلبا لقرض جديد (2.7 مليار دولار) يرفع قيمة الديون الخارجية فوق مستوى 110 مليارات دولار.
الاقتصاد الرقمي:
كثير من الخبراء السياسيين ومراكز الأبحاث توقعوا أيضا تغييرات مهمة في خارطة القوة والتأثير في العالم بعد كورونا، وهذا ما يحتم على قوى التغيير في المنطقة البحث عن فرص وسط هذه التغيرات، وإعادة النظر في تموضعها السياسي وتحالفاتها السياسية بما يحقق أهدافها ومطالبها التي عجزت عن تحقيقها من قبل.
على المستوى الاقتصادي، لا تقتصر الصورة على الخسائر الضخمة التي تكبدها الاقتصاد العالمي، وخاصة شركات النقل والطيران والسياحة، وحركة التجارة العالمية عموما، ولكن جانبا آخر من الصورة يبدو مضيئا للبعض، إذ إن مصائب قوم عند قوم فوائد، فإذا كانت التجارة الدولية التقليدية قد تكبدت خسائر ضخمة فإن قطاع التجارة الدولية الإلكترونية يحقق مكاسب كبيرة، وهو ما ظهر على أسهم تلك الشركات في مؤشرات البورصات العالمية التي أضاءت باللون الأخضر وسط غابة من اللون الأحمر للأسهم الأخرى، ويكفي أن نعرف هنا أن عملاق التجارة الإلكترونية في العالم (شركة أمازون) أعلنت عن توظيف 75 ألف شخص، إثر ارتفاع طلبات الشراء الإلكتروني جراء انتشار فيروس كورونا، وأنها “خصصت مؤخرا 350 مليون دولار لرفع أجور موظفيها حول العالم.
اقتصاد المعرفة أو ما يسمى الاقتصاد الرقمي هو الرابح الأكبر من هذه الجائحة عموما، سواء في التجارة الإلكترونية أو صناعة الترفيه، أو الاتصالات، خذ عندك مثلا ، الاجتماعات واللقاءات “أون لاين” بديلا للاجتماعات والمقابلات المباشرة، أصبحت ظاهرة تتسع يوما بعد يوم، مع اضطرار الكثيرين للجوء إلى هذه الوسيلة، ولإنشاء حسابات لهم على برامج التواصل، ويكفي أن نعرف ان تطبيق زووم الذي  يستضيف حاليا ملايين الاجتماعات يوميا، بالإضافة إلى تيسيره للعديد من المظاهر الدينية والاجتماعية مثل عقد دروس دينية، وصلوات، وعقد قران.. إلخ قد ارتفعت قيمته السوقية بسبب كورونا إلى 3 مليارات دولار، كما أن شبكة نتفلكس أضافت عددًا مذهلاً من المشتركين بلغ 16 مليونًا في الربع الأول من 2020، وزادت أرباحها في الربع الأول أي خلال شهور الجائحة بأكثر من الضعف، أي إلى 709 ملايين دولار مقارنة بـ344 مليون دولار في في نفس الفترة من العام السابق. وقفزت إيراداتها 28٪ إلى 5.7 مليار دولار، كما تحسنت مكاسب شركات الترفيه عموما، وشركات الاتصالات، وإلى جانب اقتصاد المعرفة فإن شركات الأدوية وخاصة منتجات اللقاحات هي من أكبر المستفيدين من هذا الوباء الذي سيسهم بدوره في تطوير الأبحاث الطبية مستقبلا.
 الاجتماعات عبر تطبيقات التواصل وفرت أيضا الكثير من الأموال التي كانت تنفق على تذاكر الطيران والإقامة في الفنادق في الوقت ذاته على الكثير من الجهات والمؤسسات والأفراد، حتى وإن تسبب ذلك في ضرر للفنادق وشركات الطيران كما أسلفنا، كما أن هذه الاجتماعات السهلة غير المكلفة، والتي لا تحتاج إلى تأشيرات دخول للدول وفرت فرصة للكثير من الأفراد والمؤسسات والكيانات لعقد اجتماعات ولقاءات “أونلاين” بعد أن كانت تواجه صعوبات في الاجتماعات التقليدية المباشرة، وبذلك وفرت هذه الطريقة الإلكترونية فرصة للإفلات من القيود والتعقيدات التي تفرضها الحكومات خصوصا على المعارضين السياسيين.
كما أن تطبيقات التواصل فتحت الباب واسعا للتعليم الإلكتروني، صحيح أن التعليم الإلكتروني (التعليم عن بعد) بدأ منذ عدة سنوات، لكن الإقبال الكبير على برامج التواصل وإنشاء حسابات جديدة لجمهور لم يكن قد اعتاد على هذه الوسائل منح فرصة إضافية وكبيرة لهذا النوع من التعليم، وخاصة بعد إغلاق المدارس والجامعات لتجنب العدوى، وحين تعود الأمور إلى طبيعتها سيجد الكثيرون فرصة للتعلم عن بعد كبديل للتعليم التقليدي، خاصة أن الأجيال الشابة أكثر تفاعلا مع هذا النوع من التعليم.
تغيير مصطلح التباعد الاجتماعي:
على المستوى الاجتماعي والأسري فقد كشفت الجائحة خلل الأولويات لدى الدول وبالذات فيما يخصص القطاع الطبي من نفقات، وهو الخلل الذي ينبغي علاجه سريعا، ونتذكر هنا أن دستور ثورة يناير في مصر الصادر عام 2012 قد خصص نسبة 3% من الميزانية للإنفاق الصحي لكن نظام السيسي ألغى هذا البند تماما، كما أن الجائحة وفرت للأسر فرصة للبقاء لفترات طويلة معا، وهو ما كانت محرومة منه من قبل بسبب مشاغل العمل، ولعل من المناسب هنا تغيير مصطلح “التباعد الاجتماعي” الذي يعني إيجاد مسافات كبيرة بين الناس حتى لا يصابوا بالعدوى، فهو معنى سلبي الدلالة، والأفضل منه “التباعد الصحي”، وعلى عكس هذا المعنى (التباعد الاجتماعي) فقد حدث تقارب اجتماعي كان مفتقدا من قبل، وهو فرصة لمراجعة النفس، ومراجعة خطط الأسرة، وتعويض الأبناء جرعات من حنان الأبوين التي كان الكثيرون يفتقدونها من قبل.
لقد ذكرت هذه الجائحة البشر ببشريتهم، وأنهم مجرد مخلوقات ضعيفة لا تقوى على مواجهة مخلوقات أكثر ضعفا منها مثل هذه الفيروسات غير المرئية بالبصر، وذكرت هذه الجائحة العالم وخاصة القوى الكبرى التي تغتر بقوتها، وبما تمتلكه من أسلحة دمار شامل أن هذه الأسلحة لا تفيدها في مواجهة جنود الله المجهولة، وأنه حري بها أن تتذكر دوما أن للكون خالقا، وأنه وضع لهذا الكون نواميس يسير عليها، وأن التدخل البشري لتشويه هذه النواميس ينتهي دوما إلى الفشل، (..حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) يونس.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه