عبد الرزاق قيراط يكتب: كائنات فضائيّة في الحكومة التونسيّة ا

عبد الرزاق قيراط*
على إيقاع أغنية شعبيّة معروفة في مصر، أعلن التغيير الوزاريّ المنتظر في تونس الخضراء.. فتوزيع الحقائب الوزاريّة الجديدة يذكّرنا بكلمات من (إحدى روائع) شعبان عبد الرحيم التي يقول مطلعها “أنا بكره إسرائيل”.. والطريف أنّ التوزيع الجديد أحدث تحويرا جذريّا على مستوى الكلمات لتحسين الخطاب السياسيّ حتّى ينسجم مع دعوات الصلح والتطبيع. فحكومتنا الجديدة تحبّ الدولة العبريّة، ولذلك اختارت لمنصب الخارجيّة “حبيبها” خميس الجهيناوي الذي شغل في عهد الرئيس المخلوع  خطّة ممثّل دبلوماسيّ لتونس في مكتبها بتل أبيب مدة أربع سنوات.
لكنّ الانتقادات الموجّهة إلى الحبيب الصيد على خلفيّة ذلك الاختيار لم تكن بحجم المخاوف التي أثارها اسم الوزير الذي عيّنه “مستشارا مكلفا باليقظة والاستشراف”. والداعي إلى الفزع أنّ ذلك الوزير من حركة النهضة ومهمّته “غامضة” ولعلّها “مريبة” لدى الخصوم الذين يعارضون حصول كوادرها على مناصب وزاريّة أو استشاريّة..
تفريخ الوزراء.
الحكومة الجديدة تحبّ إسرائيل ولا تكره حركة النهضة، فقد حصلت على حقيبة وزاريّة ثانية، وشعرت بالارتياح لتعيين أحد قياداتها في منصب مستشار (مثير للشبهات). ومع تجدّد الجدل السياسيّ بخصوص التحوير الفريد من نوعه، فإنّه لا دليل على اهتمام التونسيّين بتفاصيله الكثيرة. فقد تعوّد الشعب على إيقاع سريع في وتيرة تشكيل الحكومات وتغييرها كليّا أو جزئيّا. لذلك، فإنّ معدّل أعمارها لا يتجاوز سنة واحدة. (والأعمار بيد الله).  وهي فترة لا تكفي لدراسة الملفات المتراكمة وضبط السياسات الكفيلة بمعالجة ما تتضمّنه من مشاكل مؤجّلة ومشاريع معطّلة، ولا تسمح لبعض الوزراء المبتدئين (الذين لا خبرة لهم) بالإطلاع على القوانين والتراتيب والتعرّف على طواقم الإداريّين (من الصالحين والفاسدين) الذين يعملون تحت إشرافهم.. ومع ذلك، أنعم الله علينا بسبع حكومات تداولت على السلطة خلال السنوات القليلة التي أعقبت ثورتنا على الفساد والاستبداد. وصارت تونس أوّل بلد في العالم يجعل من حكوماته ورشات أو معامل لتفريخ الوزراء وتدريبهم على العمل الحكومي قبل إقالتهم  مقابل إثراء  سيرهم الذاتية بإضافة “خطّة وزير سابق” إلى قائمة وظائفهم ومزاياهم.
رجال السبسي.
كلام من هذا القبيل قد يزعج رئيس الحكومة الحبيب الصيد الذي توجّه بعتاب إلى الصحفيين بسبب نزعتهم إلى الانتقاد وإحصاء السلبيات والاهتمام “بنصف الكأس الفارغة”، كما قال في تصريح على هامش احتفال وكالة تونس إفريقيا للأنباء بمرور خمسين سنة على تأسيسها  حيث أكّد أنّ “الإعلاميين التونسيين يعيشون في قارة أخرى، ولا يعيشون في تونس”!.. ولم يتأخّر ردّ بعض المشاكسين فاعتبروا أنّ الصيد هو الذي جاء من كوكب آخر، وأن حكومته تضمّ وزراء أشبه بكائنات فضائيّة لا تعرف من واقع التونسيين شيئا، ما أدّى إلى فشلهم في الاستجابة لتطلعات الناخبين إلى إصلاحات مرجوّة وتنمية موعودة وشغل للعاطلين.
بيد أنّ التحوير الوزاريّ الأخير لا يتعلّق بفاشلين تمّ الاستغناء عنهم لاستبدالهم بكفاءات قادرة على تحسين الأداء الحكومي وحلّ الأزمات التي ضربت جلّ القطاعات. فالمصلحة العامّة إذا كانت هي المقصودة، لا تُرجى بتغيير الوزراء سنويّا، لأنّ ذلك التدبير لا يخدم إلاّ المعنيّين بمغادرة الحكومة والوافدين عليها وهم بالعشرات في قوائم الانتظار، بذلوا ما في وسعهم من حيل، ودخلوا في تحالفات مثمرة، وقدّموا خدمات جليلة، وغازلوا أصحاب النفوذ، وبايعوا أهل الحلّ والعقد حتّى ظفروا بالمنصب المنشود والمقام المحمود. فليس يخفى على أحد أنّ أغلب الوزراء الذين انضمّوا إلى حكومة الصيد، ناصروا نجل الرئيس في معركته الحزبيّة الأخيرة لخلافة والده على رأس حركة نداء تونس تمهيدا لتسلّله إلى خطط أعظم شأنا في مواقع قياديّة متقدّمة كرئاسة الدولة أو رئاسة الوزراء… وأثبت الإحصاء والتدقيق أنّ الندائيّين الموالين لحافظ السبسي حصلوا على حقائب وزاريّة جديدة، لترتفع غنائمهم إلى تسع وزارات هي الخارجية والشؤون الاجتماعية والسياحة والصحة والنقل والمالية والتربية والشؤون المحليّة والعلاقة مع مجلس نواب الشعب.
مواقف المعارضة.
لقد كان متوقّعا أن يثير ذلك التوجّه حفيظة المعارضين، فاعتبر عصام الشابي الناطق الرسمي باسم الحزب الجمهوري “أنّ التعديل تم بناء على تسويات سياسية تطبخ حاليا قبيل انعقاد مؤتمر نداء تونس” .. وبكلام آخر، فإنّ الحكومة ستبقى على حالها من حيث افتقارها إلى خطط  وبرامج لحلّ المشكلات العالقة، أو حاجتها إلى خارطة طريق لإنجاز عدد من المشاريع وتحقيق جملة من الأهداف الكفيلة بتغيير واقع التونسيّين. فهي حكومة أسماء يجري التدقيق في انتماءاتهم الحزبيّة لإحصاء المكاسب والخسائر هنا وهناك.
إنّ تحويرا بذلك الفرز لا يستطيع الحصول على مباركة أحزاب المعارضة ومنظّمات المجتمع المدنيّ. وقد أجمعت بياناتهم على استنكار “المحاصصة الحزبيّة” وغياب التشاور الموسّع على قاعدة التوافقات التي سنّها رعاة “الحوار الوطنيّ” في مناسبات سابقة. واللافت أنّ لهجة الاتحاد العام التونسيّ للشغل، كانت الأكثر حدّة، فدعا نواب الشعب إلى رفض التشكيلة الجديدة وحجب الثقة عنها لأنّها لا تستجيب “لمتطلبات المرحلة وتزيد من تعميق أزمة البلاد”.
لكنّ نواب الشعب لم يستجيبوا لطلب الاتحاد بعد أن أنصتوا جيّدا إلى كلمات رئيس الحكومة وهو يدافع عن تشكيلته الجديدة بتوزيع موسيقي يواكب المقامات والأذواق المستحدثة. وهكذا منحوه ثقتهم بفضل حركة النهضة ذات الأغلبيّة “الصوتيّة”. فهي تحبّ الحكومة، ولا تكره السبسي!

________________________

*كاتب تونسي 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه