عبد الرزاق قيراط يكتب: حمّى التوريث في تونس

عبد الرزاق قيراط*

 

لا شكّ أنّ الرئيس السبسي مرّ بامتحان عسير في الفترة الأخيرة لاتّخاذ  القرار المناسب حتّى يحسم الخلاف وينهي حالة الشقاق في حركة نداء تونس. ولعلّه استشار أهل الرأي والخبرة فنصحوه، “خوفا وطمعا”، ،بمساندة ابنه تجنّبا لظلمه وحرمانه من حقّه كمواطن في دخول معترك السياسة. ودفاعا عن ذلك الموقف تحديدا، قالت مستشارة السبسي المكلفة بالعلاقة مع المجتمع المدني إنّه لا يعقل “حرمان مواطن من ممارسة العمل السياسي بسبب رابطة دموية”. ونقلت عن الرئيس قوله إنّه “ظلم ابنه حافظ مرّتين ولن يظلمه مرّة ثالثة”، إذْ لم يعيّنه في الهيئة التأسيسية للحزب ولم يتركه يترشّح في الانتخابات التشريعية، وهو الآن لا يريد أن يمنعه من العمل السياسي لأنه ابن الرئيس.
الجميع مع السبسي.
من الواضح أنّ الرئيس السبسي عمل بعكس الحكمة التي أوردها عبد الله بن المقفع في كتابه “الأدب الكبير والأدب الصغير” حيث يقول في فصل عنوانه: (في مخالفة ما يكون أقرب إلى هواك): “إذا بدهك أمران لا تدري أيهما أصوب فانظر أيّهما أقرب إلى هواك فخالفه، فإنّ أكثر الصواب في خلاف الهوى”…. وهكذا اتخذ الرأي الذي يناسب هواه وهوى نجله حافظ، ما أغرى الندائيّين بالالتفاف حول الأسرة الحاكمة وتجاهل شبهة التوريث التي استعملوها سابقا للاحتجاج على شقّ “وليّ العهد”. فقد تغيّر الواقع، وبدأ الحبيب الصيد مشاوراته للقيام بتحوير وزاريّ شامل… فالويل لمن يسيء للرئيس ولابنه حافظ السبسي. وقد لوحظ أنّ جميع الوزراء المنتسبين إلى حركة النداء حضروا اجتماع المكتب التنفيذيّ بمن فيهم وزير الخارجيّة الطيّب البكوش الذي كان محسوبا على شقّ مرزوق.. وآية ذلك أنّهما كانا متّفقين على ضرورة إقصاء حركة النهضة عن الحكم…
حسم هؤلاء الوزراء مواقفهم فانتصروا لشق السبسي وتنكّروا نهائيّا لمحسن مرزوق.. وفي هذا السياق قال وزير الخارجيّة الطيّب البكوش في مداخلته أمام المكتب التنفيذي “إنّ مرزوق عطّل العديد من الاتفاقيات التي أبرمتها الوزارة مع الولايات المتحدة الأميركية وأوربا، ما حال دون تطبيقها وأضر بالبلاد”… وهكذا أطلق الوزير نيرانه الصديقة على القياديّ (العاقّ) ليحافظ على منصبه، بعد تسريبات تحدّثت عن إمكانيّة إسناد حقيبته الوزاريّة لشخص آخر “بحكم فشله”، كما قيل في أكثر من مناسبة بسبب هفوات الرجل التي تحوّلت إلى نوادر أثّرت سهرات التونسيين على مواقع التواصل الاجتماعيّ… الآن يمكن للبكوش أن يطمئنّ قليلا. ولعلّه دفع عربونا ثمينا ليحافظ على منصبه بعد تلك الضربة الموجعة التي وجّهها لمحسن مرزوق وأثارت جملة من الأسئلة القانونيّة عن تورّط الأمين العام المستقيل في جريمة الخيانة العظمى!

طبيعة الحزب الحاكم.
وبناء على ما تقدّم، يمكن الجزم بأنّ حزبٍ النداء خضع في الأيام الأخيرة لعمليّة إنعاش مركّزة. فقد تشكّل ذلك الكيان ليتسلّم الحكم ويظلّ فيه مدّة يجب أن تطول. فهو حزب كبير لا يجوز له أن يضعف وينهار حتّى لا يتداعى له سائر ما في الوطن من منظّمات وأحزاب بالسهر والحمّى. وفي هذا السياق، أكد الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل أنّ الاتحاد سيساهم في حل أزمة حركة نداء تونس ضمانا لمسيرة الديمقراطية في البلد! … وفي ذلك التصريح ما يذكّر بتحالفات وتوافقات سابقة بين الحزب الحاكم والمنظّمة الشغيلة، خاصّة في عهد بن علي.
إنّ حركة نداء تونس من نوعيّة الأحزاب التي تتشكّل وتتطوّر لخدمة الأسر الحاكمة وضمان مصالح الذين يسيطرون على مقاليد السلطة. لذلك لم يخطئ وزير التربية ناجي جلول حين صرّح عقب اجتماع المكتب التنفيذي وقال إنّ النداء مِلكُ مؤسّسه الرئيس السبسي.. فالأحزاب التي تُبنى للحكم فترة طويلة، تقترن بأسماء مؤسّسيها. وماضينا القريب يقدّم للتاريخ تجربتين على ذلك المنوال، فلم يعرف التونسيون قبل الثورة إلاّ حزبين هما حزب بورقيبة وحزب بن علي. وقد عمّر الحزب الاشتراكي الدستوريّ مع بورقيبة ثلاثين عاما كاملة واختفى فور الانقلاب عليه.. فظهر التجمّع الدستوريّ الديمقراطيّ الذي استمرّ مع بن علي إلى أن حُلّ بحكم قضائيّ بعد 23 سنة من السيطرة على الساحة السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة.. فتلك الأحزاب ذات طبيعة استبداديّة تُخضعُ لها الإدارةَ وأجهزةَ الدولة، و تهيمن على كلّ القطاعات الحيويّة بالبلاد، وتدور في فلكها منظّمات المجتمع المدنيّ وما يسمّى بأحزاب المعارضة… ولذلك يدخل فيها (أفواجا) رجال الأعمال وأصحاب المصالح والموالون “للأسرة الحاكمة” طمعا في الحقائب الوزاريّة والخطط الإداريّة والوظائف الدبلوماسيّة، ووقاية من المظالم الإداريّة والخطايا الضريبيّة وغيرها من مكاره القوانين الجائرة.
إنها أحزاب بلا مرجعيّة، وبلا أيديولوجيا من يمين أو يسار أو وسط، وليس لها من برامج التنمية والإصلاح والتوزيع العادل للثروات إلاّ الشعارات الفضفاضة.
 إنها أحزاب تحرّكها المصالح والغنائم أوّلا وأخيرا. لذلك سارع المهرولون في الأيام الأخيرة يطرقون أبواب الرئيس، ويتقرّبون من “وليّ العهد” حافظ السبسي.

_____________________________

* كاتب تونسي
 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه