جمهورية القضاة

سعيد شعيب*

 

من المهم أن اقولك لك انني دافعت كثيراً، وفي كل العهود عن استقلال القضاء. فطوال الوقت كما تعرف يتم استغلاله في معارك سياسية، وطوال الوقت يتعرض لتطويع بالقانون وبغير القانون لصالح من يحكم أياً كان. يتساوى في ذلك كل من حكموا مصر منذ حركة الضباط 1952، وحتى الآن.  لكن استقلال القضاء لا يعني الاستقلال بالقضاء. فالأول صحيح تماماً ومن المستحيل بناء دولة محترمة بدونه. والثاني كارثة كبرى يؤدي الى انهيار الدولة.
دعني اضرب لك عدداً من الأمثلة: المحكمة الدستورية العليا رفضت مد الجهاز المركزي للمحاسبات بكشف بأجور وأوجه صرف ميزانية المحكمة. كما رفضت المحكمة ايضاً حكم محكمة النقض الذى يلزم رئيس المحكمة المستشار عدلي منصور بالكشف عن قوائم رواتب أعضائها. كما رفضت المحكمة ايضاً من قبل اطلاع الجهاز المركزي للمحاسبات على الرواتب والميزانيات واوجه الصرف.
من المهم أن تعرف أن المحكمة الدستورية ليست وحدها، فقد قررت الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة عدم خضوع أعضاء السلطة القضائية من قضاة وأعضاء النيابة العامة لقانون الحد الأقصى للأجور. كما رفضت ايضاً اطلاع الجهاز المركزي للمحاسبات على المرتبات والميزانيات وهو الجهة المسئولة عن مراقبة المال العام.
لعلك تتذكر قرار الجمعية العمومية لمجلس الدولة ايضاً قبل ثورة يناير برفض تعيين قاضيات، وكان حجة من تكلم منهم مضحكة، وهي مثلاً أن المرأة لا يمكنها تحمل تبعات وارهاق العمل القضائي، الذي يستلزم الانتقال من محافظة الى اخرى ويستلزم عملاً في المحكمة والبيت، وهو ما يتناقض مع مسئولية تربية الأطفال… الخ. وتناسى هؤلاء أنهم بذلك ينتهكون الدستور، بل وكل الدساتير المصرية التي اقرت المساواة بين الرجل والمرأة. وأن الدستور ومواده ليس خاضعاً للنقاش، ولكن دورهم هو تنفيذه.
ارجو ان تضيف ايضاً أن نادي القضاة الذي رفض دخول موظفي المركزي للمحاسبات للقيام بعملهم وهو مراجعة أوجه صرف ميزانية النادي. وخاض رئيس النادي المستشار احمد الزند معركة قضائية ضد رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات. فقد تقدم ببلاغ ضده الى النائب العام بالتهمة المطاطة “اهانة القضاء”، ولكن تم حفظ التحقيق. المفارقة المؤسفة أن المستشار الزند واعضاء مجلس ادارة النادي رفضوا اطلاع اعضاء الجمعية العمومية للنادي على الميزانية . وقال الزند غاضباً لمن طلب ذلك جملته المأثورة “ميزانية إيه يله”، وهو رد فيه اهانة وتحقير لمن طلب ذلك من القضاة.
ارجو ان تضيف أيضاً بعداً اخرا وهو أن القاضي داخل المحكمة يفعل ما يشاء ولا يحاسبه احد. لعلك تذكر على سبيل المثال أن قاضي الناشط السياسي المعروف احمد دومة دخل في خصومه شخصية معلنه مع دومة، بل وأوصلها الى وسائل الصحافة و الإعلام. ولعلك سمعت ايضاً عن قضاة اخرين تعليقاتهم عدائية تجاه المتهمين اثناء المحاكمات ولا يحاسبهم أحد. ولعلك تذكر ايضاً الأحكام المعيبة بشكل مروع لمتهمين وألغتها الدرجة الأعلى ولم يحاسب احد هؤلاء القضاة، أو حتى يلفت نظرهم. فللأسف لا توجد طريقة لرد القاضي، إلا اذا وافق القاضي نفسه!  
ماذا يعني كل ذلك؟
يعني أن القاضي اصبح خصماً وحكماً. يعني أن القضاة لا يعتبرون انفسهم منفذين للقانون، ولكن تعني ان النفسية السائدة في اوساطهم هي أنهم أعلى من المجتمع، واعلى من كل مؤسسات الدولة، وليسوا مجرد مؤسسة لخدمة المجتمع. وهو ما يمكنك تسميته  بـ”الاستقلال بالقضاء”. بل وتطور الأمر الى أن تعتبر المحكمة الدستورية نفسها هيئة مستقلة عن القضاء نفسه، أي أعلى من القضاء نفسه، لا اقصد من ناحية التراتب القانوني، ولكن اقصد أنها جمهورية مستقلة داخل جمهورية القضاء. لذلك لم تهتم المحكمة الدستورية في حيثياتها بمناقشة حق المجتمع في ان يعرف مرتبات ومميزات اعضائها، ولا حقه في أن يعرف ميزانياتها، ولكن بما معناه أنه لا يجوز أن يتم التساوي بينها وبين الهيئات القضائية الأقل في التراتب القانوني.
من المهم هنا توضيح أن مناقشة حق المجتمع في مراقبة القضاء والقضاة بشكل عام والمحكمة الدستورية بشكل خاص، لا يعني ابداً قبول أو الترحيب بانتهاكات للسلطة التنفيذية ضد استقلال القضاء أو ضد استقلال المحكمة الدستورية في احكامها. فلم يكن مقبولاً ما تعرضت له المحكمة في عهد الإخوان من تجاوزات وصلت الى درجة منع دخول اعضائها الى مقر عملهم.
ما اقصده على وجه التحديد هو أن نفكر في الكيفية التي يمكن للمجتمع بها الاطمئنان الى اوجه الصرف والإنفاق للميزانيات تتم بشكل صحيح. والكيفية التي يمكننا بها كمجتمع، وليس حكومة، تصويب أية اخطاء دون المساس باستقلال القضاء وبالطبع المحكمة الدستورية.
في النموذج الإيطالي على سبيل المثال المجلس الأعلى للقضاء يضم في عضويته ممثلين لمختلف فئات المجتمع ، من الشخصيات العامة، ليس للتدخل في الأمور الفنية، ولكن لكي يكون للمجتمع طريقة لمراقبة وتقويم الأخطاء إن وجدت. والمشاركة في وضع التصورات العامة لخدمة المجتمع، وليس لخدمة الحكومة أو أي تيار سياسي أو أي فئة أو طائفة.
أظنك تعرف مثلي أن هذا الأمر صعب في بلد مثل مصر، تحولت اجهزة الدولة فيه الى اقطاعيات من الصعب المساس بها. واظن أنه للأسف بعد ثوتين ما زلنا في هذا الوضع المزرى. فمن حكمونا كان ما يهمهم هو استخدام القضاء، وليس استقلاله، وليس بالطبع أن يراقبه المجتمع.  
ما هو الحل؟
الحل الوحيد أن نبني استقلال قضاء وليس الاستقلال بالقضاء، وأن نجتهد في الوصول الى طريقة تمكن المجتمع وليس السلطة التنفيذية من مراقبة وتصويب اداء القضاء والقضاة.
متى يحدث ذلك؟
هذا في علم الغيب

________________

*كاتب وصحفي مصري

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه