تأثير الشخصيات الروائية في حياة القرّاء

 

في الأدب العالمي أخذت شخصيات كثيرة شهرة وانتشاراً كبيرين وأحدثت دوياً غير مسبوق وغير متبوع أيضاً. تلك الشخصيات أثّرت وبشكلٍ مباشر في حياة ملايين القرّاء في محيط الكرة الأرضية. وأشهره ا على الإطلاق “مرتفعات وذرينج” للكاتبة البريطانية إميلي برونتي التي ولدت قبل مئتي عام من الآن، لم تنل رواية في تاريخ الأدب ما نالته روايات الأخوات برونتي من شهرة خاصة وأنّهن كتبن في زمن لم يكن فيه وجود للسينما وكان للكتاب مكانة كبيرة في حياة الناس.

نموذج للعاشق

إميلي التي كتبت مرتفعات وذرينج ماتت وهي في الثلاثين من عمرها، وحياتها القصيرة مع إبداعها لهذه الرواية اليتيمة جعلا التكهنات حول حياتها التي حرصت على بقائها سرية وبعيدة عن الأعين مختلطة ومتناقضة وتقع في فخ المبالغة ومنها التقوّل حول إصابتها بمتلازمة آسبرجر التي تصيب مرضى التوحد.

المهم في كلِّ التقولات _ وخاصة السخيفة منها والتي طالت علاقتها بشقيقها وشقيقتها آن _ أنّ إميلي برونتي استطاعت أن تترك وراءها شخصية مؤثرة أصبحت نموذجاً للعاشق اللحوح الرومانسي المريض بالحبّ بصفاته الجسدية التي تتمتع بالوسامة، طوله وبشرته الداكنة واتقاد عينيه. التأثير الذي تركته شخصية بطل الرواية كان كاسحاً في عالم المراهقة، الفترة التي تتشكّل فيها عواطف الفتاة وتكون أكثر ميلاً إلى الحلم والرومانسية، ولم تنجُ قارئة من قارئات إميلي برونتي من سحر “هثيكليف” العاشق الوسيم المريض حبّاً. لكن ذلك السحر يزول في حال تجاوزت القارئة سن المراهقة، ستكتشف الفرق حين تعيد قراءة الرواية في سن النضج. قرأتُ الرواية عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري وكان هثيكليف نموذجا فذاً للعاشق من وجهة نظري، وقد تركت الرواية أثرها المدمر على روحي فترة طويلة، فلن يخرج قارئ من سطوة الحزن والكآبة والألم وسيظن _ وحتّى مرحلة عمرية متقدمة _ أنّ الحياة تتوقف هنا! في اعتقادي هذا ما فعلته إميلي لقد أوحت لنفسها بالموت ودخلت عالمه بإرادتها وجلبت لروحها تلك الأمراض الغريبة واستسلمت لها بكليتها حتّى ماتت بشكلٍ حقيقي!

رئيس الوزراء البريطاني الأسبق غوردون براون صرّح مرّة بأنه يشبه هثيكليف لكن في سن متقدمة وناضجة، وقد ظنّ البعض أنّه يقصد هثيكليف كما صوّرته السينما واتضح فيما بعد أنّه يشبه الشخصية التي تجاهلتها السينما حينما حذفت القسم الأخير من الرواية بما فيه من إصرار الكاتبة على إظهار بطل روايتها بأنّه فظ وعنيف وبذيء ومعدم، وهذا مالم تقترب منه الأفلام الثلاثة التي جسّدت الرواية في السينما.

عندما قرأت الرواية مرّة ثانية في سن النضج ظهر هثيكليف بشكلٍ مختلف، كان بذيئاً وعدوانياً وعلاقته بشقيقته تدخل في نطاق سفاح المحارم. وصار من الغريب بالنسبة لي أن أقبل التصنيف العالمي للرواية الذي كرّس الشخصية عبر تاريخ الأدب على أنّها الشخصية الرومانسية الأكثر تأثيراً.

ذهب مع الريح

روائية أخرى لم تكتب سوى عمل واحد لكنّها أمريكية هذه المرّة. صدرت رواية “ذهب مع الريح” عام 1936 وقد كتبتها مارغريت ميتشيل عندما أجبرتها ظروف مرضها على المكوث في البيت. وفازت بجائزة البوليتزر من جامعة كولومبيا في نيويورك. تناولت الرواية الحرب الأهلية بين الأمريكيتين -الشمال والجنوب_ بسبب التمييز العنصري، لكنّ الملفت في الرواية قصة الحب التي طغت على كلّ ما عداها وشخصية البطل الآسرة. ما الذي يعجب النساء في بطل مثل ريت بيتلر؟ يتمتع ريت بجاذبية استثنائية وشخصية قوية، بالإضافة لصفاته المثيرة الأخرى والتي ماثلت في أذهان النساء صورة الممثل كلارك غيبل الذي جسّد الشخصية في السينما.

على الرغم من انشغال البطلة بحبها الأول منذ بداية الرواية حتّى نهايتها إلا أنّها ضعفت أمام الهيمنة العاطفية لريت، تلك الهيمنة التي شغلت قلوب القارئات فصارت شخصية ريت النموذج المفضل عندهن قبل أن تتحوّل الرواية إلى فيلم سينمائي ويحتل كلارك غيبل قلوب النساء حول العالم.

كان للكاتبات في حقبة “القراءة” دور رئيس في تكريس صورة فتى الأحلام، فكان لإدوارد روتشستر الرجل الغامض بطل رواية “جين إير” لشارلوت برونتي شقيقة إميلي، والوقور الهادئ بطل رواية الكاتبة البريطانية جين أوستن “حب وكبرياء” بالإضافة لريت وهثيكليف دور في نمذجة البطل المعشوق.

كيف قدّم الروائيون الذكور المرأة؟

كما كان لصورة البطل النموذج _ كما صوّرته أحلام ومخيلة الروائيات وكرّسته كأيقونة للعشق _ كان للروائيين دورٌ أيضاً في نمذجة صورة المرأة العاشقة والمعشوقة وتكريسها في مخيلة المراهقين والرجال عبر تاريخ الرواية في العالم. وتلك الروايات أكبر وأكثر من أن يجمعها مقال. منها من تناول شخصيات حقيقية مثل “ماري أنطوانيت” وجوزفين عشيقة نابليون، ومنها من اختار شخصية من المخيلة توازي شخصيات حقيقية في المجتمع الارستقراطي الباريسي مثل شخصيات “بلزاك”. ومثل “مارغريت” بطلة “غادة الكاميليا” لألكسندر دوماس: المرأة العاشقة الوفية رائعة الجمال التي تموت وحيدة وبائسة ومدينة، فقط لأنّها وفت بعهد قطعته لوالد حبيبها بالابتعاد عنه كي لا تسيء لسمعته. لكن الأشهر بين نساء الروايات في اعتقادي هي:

مدام بوفاري:

اتهمت النيابة الفرنسية جوستاف فلوبير بعد طباعة روايته بأنّها غير أخلاقية، وقام محاميه بإثبات العكس وطلب البراءة لموكله الذي أهدى الرواية لمحاميه. شخصية إيما بوفاري زوجة الطبيب الريفي الحالمة شخصية معقدة، فتاة تكره الريف، أحلامها أكبر من الارتباط برجل طبيب، توافق على الزواج منه لتغيّر نمط حياتها، فتبدأ بعد الزواج مباشرة بعمل الحفلات ودعوة الأصدقاء، ثم تقع في عشق رودلف الذي يخذلها فتحاول الانتحار لكنّها بعد أن تنجو من الموت على يد زوجها تصبح امرأة لعوباً وعابثة وتغرق زوجها بالديون وتغرق هي أيضاً ويرفض الأصدقاء مساعدتها فتحاول الانتحار ثانية وتنجح هذه المرة.

قرأتْ إيما الروايات الرومانتيكية، واستعارت عواطفها وأحلامها من أبطال الروايات فضاعت بين رغباتها المشبوبة وواقعها. كانت إيما وعلى الرغم من شخصيتها المعقدة مثالاً للمرأة المعشوقة بدليل علاقاتها العاطفية برجال كثيرين طلبوا ودّها وزوج مخلص لم يتخلَّ عنها ومات كمداً وحزناً عليها على الرغم من معرفته بخيانتها المتكررة له.

آنا كارينينا

للروائي الروسي ليو تولستوي روايات كثيرة مهمة منها رائعته الحرب والسلام، القوقاز وقصص أخرى، لكنّ الرواية التي حازت على أكبر انتشار هي آنا كارنينا والتي حملت اسم بطلتها. آنا امرأة ساحرة الجمال، ذكية وجذابة لكنّها تعيش علاقة فاترة مع زوجها مما أتاح المجال لوقوعها في العشق وتركت زوجها وابنها وتبعت حبيبها الذي مل منها وتركها بدوره، وكخيار إيما بوفاري في نهاية رواية فلوبير كان خيار آنا “الانتحار” ويبدو أنّ معظم الروائيين كانوا يصبون نقمتهم على النساء الجميلات الذكيات اللواتي يمتلكن قدراً كبيراً من الحريّة والصدق مع أنفسهن بأن يجعلهن ينتحرن في نهاية العمل الروائي كعقاب يفرضه الروائي على بطلته لتتخلص من آثامها.

في الواقع لم يكن خيار إيما الانتحار ولا خيار آنا بل هو خيار فلوبير وتولستوي، فكلتا المرأتين كانتا تضجان بالحياة وترغبان في الاستمتاع بها، لكنّ الروائيين اختارا أحداثاً أودت بحياة الاثنتين إلى الانتحار يأساً وتكفيراً عن جمالهما وحريتهما وحبهما للحياة. فهل استطاع الروائيان بهذا العقاب الذي فرضاه على البطلتين أن يمحوا أثرهما العميق من مخيلة قرائهما من الرجال وخاصة المراهقين في كلّ الدول التي تُرجمت الروايتان إلى لغاتها؟

لا أظنّ فما زالت “آنا” تتربع على عرش السينما كما جسّدتها الفرنسية “صوفي مارسو” والسويدية الأمريكية “غريتا غاربو” والعربية “فاتن حمامة” والبريطانية “فيفيان لي” والروسية آنا ستازيا فرتينسكايا وأخريات. الذي حدث أنّ “آنا” و”إيما” انتقمتا من فلوبير وتولستوي بأن عاشتا حيوات متجددة في قلوب الرجال ومخيلاتهم في كلِّ اللغات التي تُرجمت إليها الروايتان.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه