الكاتب التركي أورهان باموك ومتحف البراءة

 

يعدُّ أورهان باموك الحائز على جائزة نوبل في الآداب الكاتب التركي الأكثر انتشاراً في العالم، وقد ترجمت رواياته إلى 34 لغة، ولوحق قضائياً داخل تركيا بتهمة إهانة الدولة التركية وكمال أتاتورك بعد التصريح الذي أدلى به عام 2003 لمجلة سويسرية يقول فيه: “لقد قتل على هذه الأرض مليون أرمني و30 ألف كردي لكن لا أحد يجرؤ على قول ذلك غيري”.  

الانتشار الذي حقّقه باموك خلال السنوات الأخيرة الماضية لم يكن بسبب جمال رواياته ولا بسبب حصوله على نوبل فقط بل؛ لأنّه بارع في التسويق لأعماله من خلال أفكار ابتكرها ليصبح الشغل الشاغل لمعجبيه وقرائه وغير قرائه من الشعب التركي.

إن لم تكن قارئاً نهماً ستأتيك القصة لوحدها من خلال متحف لثوب!

قد يبدو الأمر غريباً أن يصنع إنسان ما متحفاً يزوره آلاف البشر من أجل ثوب وفردة حلق، لكن وراء الثوب تكمن الحكاية بتفاصيلها التي يسعى وراءها الزوار وإن لم يكونوا من معجبي أورهان باموك أو قرائه. التفاصيل تشمل كلّ الأشياء التي نستخدمها في حياتنا العادية من الكأس إلى السّكين إلى السّرير.

حكاية حلم

كثيرة هي أحلام الفتيات في سن المراهقة وأكثرها انسجاماً مع أرواحهن التي تتوق للانعتاق من أسر الرقابة العائلية والمجتمعية بالعموم هي الحريّة في اختيار المستقبل الرافض للأشكال النمطية التي يرسمها الأهل لأولادهم غالباً منذ الولادة.

فتيات يردن أن يحققن أحلامهن على طريقة سندريلا وأخريات على نموذج جولييت وبعضهن يحلمن بالسينما ونجماتها أو بالغناء ونجماته.

حبيبة بطلة الرواية كانت تحلم بأميرة موناكو غريس كيلي الممثلة الرائعة الجمال والتي أصبحت قدوة في عالم الأناقة والأزياء وكانت نموذجاً للجمال الهادئ الذي قال عنه البعض إنّه “جمال بارد” مع هذا كان جمالها الحلم لكلّ فتاة تطمح أن تصبح نجمة سينمائية، هذا ما حلمت به فسون حبيبة كامل في متحف البراءة!

متحف البراءة

يقع المتحف الذي تفتق عنه خيال أورهان قرب ساحة تقسيم على الضفة الأوربية للبوسفور.. المتحف يروي قصة حب وتاريخ مدينة. مدينة اسطنبول التي وضع باموك فيها خلاصة إبداعه وروحه وصاغ تاريخها القديم والحديث داخل أعماله خلال سنوات طويلة.

حين تدخل المتحف بهيئة سائح قد لا يشدّك سوى تلك التفاصيل الصغيرة اليومية التي جمعها باموك من الأسواق الشعبية على مدى سنوات ليكمل بها ما جاء في روايته “متحف البراءة”. لكن حين تدخل المتحف وأنت محتشد بمعرفة مسبقة للقصة ولروح المكان ستختلف نظرتك للأمور وستجد تلك المتعة التي تمنحها المخيلة بمعزل عن الشرح الذي يقوم به الكاتب لقصة الفكرة وكيفية تخلّقها في ذهنه. القارئ المتبحر في أعمال باموك لا يحتاج شرحاً فالحضور الطاغي الملتبس لروح “فسون” بطلة الرواية كافٍ لشرح ما يهيمن من غموض على الأشياء.

النهايات المفجعة

عاشت غريس كيلي زمناً ذهبياً سواء في السينما عندما اختارها هيتشكوك بطلة لأقوى أفلامه أو في حياتها الشخصية عندما تعرّفت على الأمير رينيه وتزوجته وصارت أميرة موناكو المحبوبة.

لكنّ نهاية جريس كيلي المفجعة وضعت العالم أمام تساؤلات لم يجد أحد لها إجابات حتّى الآن تماماً كما لم يجد إجابة عن المتسبب في موت الأميرة ديانا، كلتاهما لقيتا مصرعهما في حادث سيارة!

وجاء باموك ليختار لبطلة متحف البراءة ميتة مشابهة فقد لقيت مصرعها كالأميرة غريس في حادث سيارة.

يبدو من سياق الأحداث أنّ باموك أراد أن يعطي لفسون بطلة الرواية بعداً أسطوريا بجعلها تحلم بأن تصبح “غريس” أخرى بكلّ تفاصيل حياتها وجعلها تموت بالطريقة نفسها فتلقى مصرعها في حادث سيارة.

المتحف يحوي على اللحظات التي عاشتها البطلة من خلال الأشياء التي جمعها الكاتب.. تلفزيون “كانا يشاهدان التلفزيون باستمرار” مشهد من فيلم غريس كيلي وكاري غرانت من فيلم “أَمْسِك اللص”. والعنوان مُجتزأ من عبارة (يجب أن تكون لصاً لتمسك اللص)!

لوحة غريبة تستوقف الزائر، لوحة تحوي على 4000 آلاف من أعقاب السجائر وهو العدد الذي دخّنته البطلة على مدى الرواية! وهناك كوب عليه آثار شفتيها.. ولكَ أن تتخيّل فسون تشرب من الكأس وشفتاها ترتعشان وتتركان ذلك الأثر من أحمر الشفاه!

في الطابق الأخير “المتحف مؤلف من ثلاثة طوابق” يوجد السرير الذي نام عليه كامل، السرير الذي احترقت فيه أحلام الحبّ في الرواية والذي يترك للزائر فرصة للمس تلك اللحظات بحواسه كاملة كما لو أنّه يعيش داخل فيلم يتقمص هو حياة أبطاله.

نشر أورهان مقالة عبّر فيها عن حبّه للمتاحف ورأيه فيها بعد زيارته للعديد من المتاحف الأوربية وتجوله فيها، فقد هدته المتاحف الصّغيرة في شوارع المدن الأوربية إلى فكرة أنّ المتحف يمكنه أن يكون متحف أفراد وهذا لا يقلل من شأن المتاحف الإنسانية الكبرى “اللوفر، المتروبوليتان، المتحف البريطاني، قصر توبكابي وغيرها”..

هذه الفكرة الملهمة جعلت المتحف الذي أنجبته الرواية أو الذي أنجب الرواية حقيقة بعد أن كان مجرد فكرة مجنونة.

باموك أنشأ متحفاً فردياً إنسانياً لأشياء بسيطة يحتفظ بها كلّ فرد منا، وتهمه أكثر مما يحتويه متحف اللوفر، ذلك الذي يحوي تراثاً لدولة يؤرخ فيها لحكايات شعب ولأزمان مطلقة.

متحف البراءة يعبّر تماماً عن وجهة نظر باموك في المتاحف ونسقها الذي يخدم المؤسسات السّياحية والدّولة والزّمن خارج حياة الأفراد وآلامهم الشّخصية ومعاناتهم وأحلامهم.

لقد خلّد قصة الحبّ بين فسون وكامل، وبين حياة النّجمة غريس والبطلة فسون والتّماهي العميق بينهما لحدّ الاشتراك في طريقة الموت.

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه