القوة الناعمة ومستقبل الحركة الإسلامية

 إلى أي فصيل تنتمي حركات التغيير الاجتماعي والحضاري؟

هل هي جزء من حركة الشعوب ضد أوضاع راهنة وواقع مغاير لقناعات مؤسسي تلك الحركات والتنظيمات وتابعيها؟ أم أنها تنتسب نوعا إلى حركة الأنظمة الحاكمة وإستراتيجياتها في فرض الهيمنة والوصاية على الشعوب وتحديد هويتها ووجهتها المستقبلية؟

الحقيقة أن تلك الحركات وإن كانت نابعة في الأصل من أصول شعبية تنتمي في الغالب للطبقات المتوسطة بها، وإن كانت تنتمي كذلك للأنظمة في استراتيجياتها المعقدة وغاياتها الكبري ووسائلها المتعددة، إلا أنها تنتمي واقعا لنخبة تقع في الوسط الإنساني بين الشعوب الساكنة والأنظمة الحاكمة؟ فلا هي تقبل بسكون الشعوب فترضخ لواقع يفرضه النظام، ولا هي تقبل بأن تكون جزءا من نظام يقهر شعبه ويتغذي علي أحلام البسطاء فيه

وهي بذلك تنتمي للشعوب جذورا، وللأنظمة ممارسات ووسائل، غير أنها تتباين في الأهداف عن كلا الطرفين، وهي في هذا الإطار تعمل على محورين

المحور الأول: تمثله الجماهير التي هي حقل عملها فتدفعها دفعا مستخدمة كافة الوسائل المتاحة على الأرض لتنتفض ضد الأنظمة

المحور الثاني: الأنظمة التي تعمل على إزاحتها وذلك بكشف فسادها وفضح ممارساتها على الملأ إما لتسقط وإما لتقديم بعض التنازلات لصالح الأطراف الأخرى

إستراتيجية الدول العظمي في إدارة أطماعها

تحولت منطقة الشرق الأوسط في القرنين الأخيرين إلى منطقة صراع عالمي بين الدول العظمي، يمثل هذا الصراع أوربا كقوي قديمة، وأمريكا وروسيا كقوي حديثة استطاعت أن تنتزع الهيمنة على تلك المنطقة بوسائل شتي حتى نجحتا في ذلك، فبعد عمليات الإجلاء العسكري والتحرير الصوري للبلاد المستعمرة، انتهت بشكل مؤقت محاولات الهيمنة الخشنة باحتلال الجيوش والاستيلاء بالقوة على مقدرات تلك البلاد وبسط النفوذ على ثقافتها والتغيير الجذري لهويتها التاريخية التي بنيت على عقيدة تضعف وتقوي حسب المعطيات السياسية الآنية 

وفشلت القوة الصلبة حين انتفضت تلك الشعوب وقدمت تضحيات عجزت عن مواجهتها الأنظمة الأكثر شراسة في التعامل مع الشعوب المحتلة لتسلم في النهاية وتنسحب بجيوشها وعتادها، وترفع راية التسليم أمام قوة أخري تعرف بالقوة الناعمة، احتلت قمتها الولايات المتحدة الأمريكية وظلت تحتفظ بتلك المكانة حتى حرب الخليج والغزو العراقي وتدمير بلاد الرافدين في العام 2003 ليفقد النظام الأمريكي مكانته وتهتز الثقة في أداء الإدارة الأمريكية التي يترأسها بوش في ذلك الوقت

وتعود صياغة مصطلح القوة الناعمة لجوزيف ناي ــــ الذي ولد في العام 1937 ــ أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد ـــــ لأول مرة ليعبر به عن التأثير القوي الذي يحدثه الفن والأدب في الرأي العام لإحداث تغيير متعمد أو غير متعمد

ويعرّفها ناي في كتابه ” القوة الناعمة ” بأنها (القدرة على تحقيق الأهداف المنشودة من التأثير في أمم أخري وتوجيه خياراتها العامة وذلك استنادا إلى جاذبية نظامها الاجتماعي والثقافي ومنظومة قيمها ومؤسساتها بدل الإرغام أو التهديد).

كما عرفها بأنها ” القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام، وهي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج والأهداف المتوخاة بدون الإضطرار إلى الاستعمال المفرط للوسائل العسكرية والصلبة ” 

ومن هنا تتضح معالم استراتيجية الدول العظمي في إدارة مناطق نفوذها كي تحتفظ لأكبر فترة ممكنة وبأقل خسائر بالسيطرة على تلك المناطق

فالوسيلة الأولي: والتي يقف على قمتها الاستعمار الأوربي هي استخدام القوة الصلبة والتي تحققت بالفعل في القرنين الماضيين وانتهت بالفشل

والوسيلة الثانية: وهي القوة الناعمة التي تقف على قمتها الولايات المتحدة الأمريكية، تليها اليابان فألمانيا في تنافس بين القارة الأوربية التي تحاول الحفاظ على مكانتها التاريخية في صراع القوة، وتتنازعها القوي الأسيوية العملاقة

وقد حققت أمريكا إنجازات عديدة نتيجة نهجها ببراعة واتخاذها الوسائل الناعمة منهاجا لنشر ثقافتها والتي انتشرت تحت ستار ” العولمة ” ، حتى صارت خطرا ليس علي الوجود العربي والهوية العربية وحسب ، بل امتد خطرها لأن يصرخ عقلاء أوربا خوفا علي الأصول الحضارية الأوربية من الذوبان في الحضارة الحديثة والتي لا تستند إلى أي عوامل تاريخية واضحة ، وإنما هي مزيج من الرغبات المستحدثة للرجل الأمريكي الذي لا يتعدي عمره الحضاري عدة أجيال ، وتحت مسمي الفن والإبداع مرة أخري وقد ظهر ذلك في كون أمريكا هي أول وأكبر مصدر للأفلام والبرامج التليفزيونية في العالم رغم أن شركة بوليود الهندية تنتج عددا أكبر منها كل عام ، وفي عالم النشر هي الأولي عالميا ، في المؤلفات الموسيقية تجاوزت ضعف أول دولة تليها وهي اليابان ، تحصد جوائز نوبل في الكيمياء والفيزياء والاقتصاد، أما في الأدب والفنون فتحتل المرتبة الثانية بعد فرنسا ، هذا غير القوة الجبارة للإعلام الذي تفوقت فيه ، حتى أن محطات إل CNN  احتكرت الخبر في المنطقة حتى كسرت مجموعة قنوات الجزيرة ذلك الاحتكار وغيرت بعض المسميات التي أطلقها الإعلام الأمريكي علي الجيوش المحاربة للعراق ومنها جيوش عربية ومنها ” قوات التحالف ” ، فتطلق الجزيرة مسمي آخر لها وهو ” قوات الاحتلال “

الحركة الإسلامية والحلقة المفقودة  

مرت الحركة الإسلامية منذ مطلع القرن التاسع عشر وحتى الآن بالكثير من التحديات الإقليمية والدولية ، وبما أن الاستعمار والدول العظمي استبدلوا إدارة الصراع في مجمله لصراع ناعم ، فقد استبدلوا القوة المسلحة باستخلاف طائفة من الحكام يدينون بالتبعية الكاملة للغرب ، بل صار حكام العرب مجرد مندوبين لتحقيق المصالح الأمريكية والصهيونية في بلادهم ، وصارت الهوية التاريخية للبلاد محل نقاش واتخذ الغزو الفكري أشكالا عدة منها العولمة والعلمانية ، ليصير السباق المحموم تجاه تحقيق إرادة الآخر علي قدم وساق في سباق بين حكام العرب أيهم يكون أكثر تنازلا وأكثر امتثالا في تنفيذ الأوامر ، وتصبح الحركة الإسلامية بذلك بين عداءين كلاهما يهدد استمرارها ، ومن المفارقات العجيبة أن الحركة التي وقعت ضحية القوتين الصلبة والناعمة ، تفتقد لأبسط قواعد الصراع وهو أن مواجهة الفكر لا تكون إلا بفكر مماثل يقدم في أفضل وأبسط صورة ، الصورة التي يفهمها الآخر وإلا فإنه سيظل يوجه خطابا لذاته ، ولن يسمع به أحد من العالمين

وبما أن الحركة الإسلامية أخذت على عاتقها تغيير الواقع الاستبدادي الذي وقعت فيه الأمة، وبما أنها جزء من الحركة الشعبية المناهضة لذلك الواقع المر، وهي أيضا تشترك مع الأنظمة في الغايات والوسائل فقد أصبح لزاما عليها أن تجيب تاريخيا على بعض التساؤلات ومنها:

هل تملك الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية عن علاقتها بالآخر شرط أن تحمل تلك الرؤية لغة حوار جديدة تجذب إليها الأطراف المعنية؟

  • هل تتوقف أدبيات الحركة الإسلامية عند التراث التاريخي المرير والمليء بالتضحيات والصبر على الواقع؟
  • هل الحركة الإسلامية مستعدة لاستيعاب المشهد الثقافي العالمي ومخاطبته بنفس قوته واستخدام أدواته من مسرح وسينما وموسيقي وأناشيد وشعر ومخرجات كتب ومقالات تخاطب الآخر بلغة يتقنها؟ 
  • هل الحركة الإسلامية على استعداد لفتح باب الإبداع وإطلاق الطاقات الكامنة لدي الشباب دون وضع عوائق مادية أو النظرة الدونية لتلك الإبداعات؟
  • ما الذي أخر الحركة الإسلامية حتى الآن أن تمتلك محطات إذاعية وتليفزيونية تعبر عنها؟ ما الذي أخرها عن إنتاج أفلام ومسلسلات درامية لتقوم بنفس الدور؟

إنني في هذا الخضم لا أحصر نفسي في دائرة التحريم أو التحليل، وإنما أطرح واقعا يجب أن يواجهه الجميع باعتباره جزءا من العالم الذي نعيش فيه، ودائرة الحرام حددها الإسلام في نقاط معدودة بينما دائرة المباحات أكثر اتساعا من الحصر، وقد استوجب على الجميع أن يبحث عن حل للخروج من ذلك الجمود الذي يكاد يقضي على تراث الأمة وهويتها لادعاء ضعف الأمة وفقرها الفكري

إن القوة الناعمة التي اتخذتها الولايات المتحدة لبسط نفوذها على العالم قد أتت ثمارها ونحن ما زلنا نتساءل عن الحكم الشرعي في الدراما والمسرح لتحول بيننا وبين التفاهم مع العالم سنوات ضوئية، فهل من مستمع لتلك الصرخة وينتبه إلى أننا نفقد لغة التواصل ولا نحسن الفهم للمشهد العالمي القائم ونفتقد لكثير من الأدوات اللازمة للتواصل معه؟ .

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه